لاحظنا مع بداية حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجديدة تسارع الأحداث الحادة، وصاحبها تركيز الإعلام وإسراف الكثير من المحللين في التعليق على مواقف ترامب الشخصية تجاه الحرب والسلام في أوكرانيا، وإعادة العلاقات مع روسيا بشيء من تبسيط قصقصة أطراف “السالفة”. غالباً الجميع في حديثه كان يركز على شخصية ترامب القوية، وخلفيته كرجل أعمال وهوسه بعقد الصفقات، وكرهه الشخصي للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والأوروبيين، ورفاهية الابتزاز التي يتقنها.
ما يحدث عادةً أنه مع تدفق الأحداث نتناسى أمراً في غاية الأهمية، وهو أن السياسة الخارجية الأميركية لا يضعها الرئيس الأميركي ولا يتصرف بها كما يريد الرئيس أياً كان. لذا إذا دققنا في ما يحدث الآن، نجده فصلا آخر من الإستراتيجية الأميركية تجاه روسيا وأوروبا. ما يحدث اليوم هو نتاج ما قد بدأ منذ 2008، عندما أعلن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن نية الناتو ضم جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف، الأمر الذي استفز روسيا لاجتياح جورجيا في أغسطس 2008.
وفي ذات السياق قرر الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش في نوفمبر 2013 توقيع اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يهدف إلى تعميق اندماج أوكرانيا في الغرب وتقليص نفوذ روسيا. وعندئذ رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن عرض على أوكرانيا اتفاقاً أفضل، فقبله يانوكوفيتش. وأدى ذلك إلى تظاهرات احتجاج في أوكرانيا ضد الرئيس وضد روسيا.
في تلك اللحظة، قامت إدارة أوباما بدعم المتظاهرين وتصعيد الأزمة، ما نجم عنها خلع يانوكوفيتش. وعندئذ تولت حكومة موالية للغرب السلطة في كييف. وأعلن سفير الولايات المتحدة لدى أوكرانيا، الذي كان يشجع المتظاهرين، أن “هذا اليوم دخل كُتب التاريخ.”
كانت واشنطن قبل تلك المرحلة تشعر أن مصالحها العظمى أمام تحد أوروبي – روسي، يتشكل من خلال القوة الاقتصادية التي تتمتع بها أوروبا، في ظل جنة الأمن شبه المجانية التي تقدمها الولايات المتحدة لها من خلال حلف الناتو. كما كانت هناك مسألة جد مقلقة للأميركان على صعيد تحدي اليورو للدولار الذي بدأ في الصعود، حيث كانت المؤشرات تذهب إلى احتمالية تآكل رصيد الدولار كعملة احتياط عالمية لصالح اليورو. فقد كانت الدراسات تشير إلى أنه في عام 2030 قد يستحوذ اليورو على ما قيمته 30 في المئة من الاحتياطي العالمي من العملات الأجنبية. كان العقل الإستراتيجي الأميركي يتابع تلك الحالة الأوروبية كتحد اقتصادي متنام، وينظر في ذات اللحظة إلى روسيا التي تعمل على لملمة قوتها وإرثها السوفييتي من خلال مد نفوذها نحو الفضاء الاقتصادي الأوروبي، مع تعاظم المصالح الأوروبية – الروسية المشتركة، الذي كان شريانها النفط والغاز الروسي الذي يحرك عجلة الصناعة الأوروبية وخاصة الألمانية.
ذلك التقارب الإستراتيجي دفع الطرفين إلى العمل على تدشين مشروع خط أنابيب الغاز نورد ستريم، الذي عملت الولايات المتحدة على تدبير تدميره في سبتمبر 2022. في ظل تلك التطورات، عملت الولايات المتحدة على صياغة هندسة التحول الجيوسياسي في أوروبا على رقعة الشطرنج الأوكرانية، لتحقيق الأهداف الإستراتيجية الأميركية التي ترتكز على محورين أساسيين.
الأول: إعادة ترسيخ هوية روسيا العدائية تجاه أوروبا، وضرب أيّ حالة تقارب جيوسياسية بين الطرفين، من خلال تفكيك مركز ثقل حالة التقارب القائمة على التكامل الاقتصادي الذي يغذيه الغاز والنفط الروسيان. الأمر الذي يعني استهداف استقرار القارة الأوروبية، بالتالي استهداف القوة الاقتصادية الأوروبية، بدفع الأوروبيين إلى المزيد من الإنفاق العسكري على حساب الرفاه الاقتصادي الذي تعيشه أوروبا بفضل الغاز الروسي الرخيص، ومظلة الأمن الأميركي المجانية. بالتالي إخراج معادلة الغاز الروسي من معادلة الاقتصاد الأوروبي واستبداله بالغاز الأميركي.
أما المحور الثاني، فهو تفكيك التحالف الروسي – الصيني من خلال تطبيع العلاقات مع روسيا وجذبها للاستدارة نحو تقاطع المصالح المشتركة والتخادم المفيد مع الولايات المتحدة في تقاسم النفوذ في أوروبا والشرق الأوسط. في رأيي، أن الولايات المتحدة قد نجحت حتى هذه اللحظة في إضعاف روسيا إلى الحد المقبول الذي يدفعها إلى الموافقة في الدخول معها في صفقة على حساب أوكرانيا وأوروبا التي باتت منكشفة أمنياً، الأمر الذي سيدفعها إلى الدخول في متاهة الإنفاق العسكري على حساب النمو الاقتصادي، والتعلق بأستار البيت الأبيض. أعتقد أن الأميركيين يحاولون اليوم مع روسيا إعادة عكس إستراتيجية كيسنجر مع الصين في 1972، في فتح طريق التواصل بين واشنطن وموسكو، في محاولة لقلب سياسة التحالفات الدولية وصنع مسافة فاصلة بين روسيا والصين.
ختاماً، ما تقوم به واشنطن من تحريك زوايا الطاولة الدولية، ليس مجرد نتيجة لسياسة شخصية لترامب، بل هو جزء من إستراتيجية أميركية طويلة الأمد تهدف إلى الحفاظ على هيمنتها في النظام الدولي، من خلال تفكيك التحالفات الكبرى المنافسة