رجحت صحيفة “ذا الغارديان” البريطانية بأن تكون ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الثانية بمثابة نهاية عصر عالم أحادي القطب، إذ سيضطر في نهاية المطاف إلى مراعاة مصالح روسيا والصين.
وما رجحته الصحيفة لا يدخل في باب التجني على الرئيس ترامب، لأنه منذ وصوله إلى السلطة تبنّى نهجًا قائمًا على الفوضى، معتمدًا على تصريحات متناقضة وقرارات مثيرة للجدل لإرباك الإعلام والسياسة العالمية. فمن الحرب التجارية مع الصين إلى اتصاله الهاتفي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصولًا إلى تهديد قطاع غزة بالجحيم، وهو يكرّس سياسة التصعيد المستمر.
أسلوب هذا الرجل يتميّز بالتلاعب الإستراتيجي حيث يحّول الأفكار المستحيلة إلى جدلية قابلة للنقاش. لكن هل حقًا موضوع تنحي الولايات المتحدة عن دورها العالمي، كما ذكرت الصحيفة، قابل للنقاش عند الرئيس الأميركي، أو حتى داخل أروقة الكونغرس؟
قد يكون الجواب بـ”نعم”، إن استمعنا جيدًا إلى اعتراف وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عندما أكد في إحدى مقابلاته المتلفزة، بأن “العالم أحادي القطب هو حالة شاذة، وكان نتيجة لنهاية الحرب الباردة.” مضيفًا أن “واشنطن ستضطر الآن إلى التعامل في هذا المجال مع روسيا والصين اللتين تحدثتا مرارًا عن ظهور عالم متعدد الأقطاب.”
تصريحات روبيو تتقاطع مع مضمون ما جاء في التصريح الذي أطلقه وزير الدفاع الأميركي بيت هيغيست، الأربعاء 12 فبراير الجاري، في بروكسل، أمام أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث حمله البعض على أنه تراجع لواشنطن في دعم كييف أمام آلة الحرب الروسية. هيغيست أطلق تصريحات أقرب إلى الدونكيشوتية، معتبرا أنه “لكي نكون واضحين كجزء من أيّ ضمان أمني، لن يتم نشر قوات أميركية في أوكرانيا، وإن أيّ عملية سلام يجب أن تبدأ الاعتراف بالعودة إلى حدود أوكرانيا قبل عام 2014.”
يصبّ وضوح هيغيست، الذي أربك مستمعيه الأطلسيين في صالح روسيا، لا بل يسجل فيه البعض انتصارًا لموسكو على أوروبا عمومًا، إذ لم يزل الاتحاد الأوروبي ينظر إلى الحرب على أنها تشكل تهديدًا مباشرًا لأمنه القومي.
الواضح أن لا هيغيست ولا روبيو يتحدثان من قرارة نفسيهما في موضوع أوكرانيا، بل هما يستندان، كما غيرهما، إلى ما أعلنه ترامب من إجرائه محادثات مطولة مع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لطرح آلية للتوصل إلى طرح خواتيم لهذه الحرب.
أزال ليونيد سلوتسكي رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس النواب الروسي (الدوما)، جميع الشكوك حول الاتصال الهاتفي بين الرئيسين، مؤكدًا إن “الاجتماع قد يعقد قريبًا، ربما في نهاية فبراير الجاري أو مارس المقبل.” كذلك فعل الرئيس الأوكراني، عندما أكد للرئيس ترامب على تمسكه فكرة “تبادل للمقاطعات” بين روسيا وأوكرانيا، هذا ما رفضته موسكو جملة وتفصيلًا.
قد لا يكون ترامب يهدف إلى رفع يد بوتين في حلبة الصراع في شرق أوكرانيا وإهدائه فوزًا بـ”المجان”. لكنّ الأكيد أنه يريد أن يُظهر للعالم أن بلاده لم تزل تلعب دور الحكم في النزاعات الدولية، وأن أيّ صراع عالمي لا يمكن التوصل إلى حلول فيه إلا بموافقة أميركية، هذا ما يقرأ في رفعه سقف التحدي عاليًا مع روسيا عندما اعتبر أن “أوكرانيا قد تصبح روسيا في المستقبل،” وبالتوازي فتح باب التفاوض مع الأوكراني على معادنه النادرة مقابل إعطائه ضمانات أمنية.
لا يتوقف جنون ترامب الذي يصبّ حتمًا في صالح أعداء واشنطن،عند حافة الحرب في أوكرانيا، إذ أتت قراراته حول قطاع غزة مثيرة للاستغراب، وقد تكون “سخيفة” ولا تستحق الردّ كما قال الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان. ولكنّه بالتأكيد، أوجد الفرصة لأعداء واشنطن بالسعي لتوحيد الجهود، وتشكيل الكتل للوقوف في وجه مشروع التهجير القسري.
إصرار ترامب على الاستمرار في تهديد الغزيين بـ”الجحيم” القادم، جعل من الدول الداعمة للقضية الفلسطينية، تدعو إلى أن حلّ المسألة لا يكون إلا بإقامة الدوليتين. حيث خرج وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، مزايدًا ليتحدث عن دولة فلسطينية بحدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
لقد أثار الموقف الأميركي شهية الدول التي تسعى لتسجيل نقاط إضافية على سياسات الولايات المتحدة في العالم، لاسيما تركيا التي تجد أن لديها فرصة لممارسة المزيد من الضغوطات على واشنطن تحديدًا لمعالجة قضية قوات سوريا الديمقراطية، في شرق سوريا، المعرقلة لإقامة الدولة السورية الموحدة.
تعهد رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم بحشد دول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان) لإعادة إعمار قطاع غزة، في حين دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دول الرابطة إلى توفير المساعدات الإنسانية إلى غزة. جاء هذا التعهد بين الزعيمين خلال مؤتمر صحفي الثلاثاء 11 فبراير الجاري في كوالالامبور.
يدرك الأميركي أن هذا الإصرار على اقتطاع غزة وتهجير سكانها، لا يصب إلا في مصلحة أعداء الولايات المتحدة، تحديدًا تلك الدول التي تتحين الفرص وتقتنصها لتصوّب على مصداقية الأميركي أمام الرأي العام العالمي. هذا ما دفع بالدبلوماسية الصينية للاعتراض على القرار الأميركي، بالتوازي كثفت من جهودها لأجل تحشيد الدعم الدولي في ما يخصّ الاعتراف بمبدأ “الصين الموحدة”.
في المنطق العام للسياسة الدولية يتبيّن أن نهج السلوك السياسي والخطابي لترامب يأخذ العالم إلى تعددية قطبية، بدأت بشائره تظهر من الحليف قبل العدو حيث أتى إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه “في ظلّ التصريحات الأخيرة للمسؤولين الأميركيين حول أوكرانيا، ينبغي على الدول الأوروبية إعادة النظر في دورها في العالم، وتبني القضية الأوكرانية منفردةً.”
ما قاله ماكرون يعتبر مسمارا في نعش النظام العالمي القديم، الذي خرج بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وبداية لنظام عالمي جديد، ستتحدد معالمه وسط تخبط الترامبية في ازدواجية القرار التي تعزز فوضى دولية سيستفيد منها العدو والحليف معًا لإعادة التموضع في النظام الجديد على قاعدة التعددية القطبية، فهل هناك من سيوقظ الترامبية من جنونها قبل فوات الأوان؟