الرئيسية / أخبار / السودان على حافة التقسيم

السودان على حافة التقسيم

تعلم الحكومة السودانية التي تتخذ من بورتسودان مقرا لها ومن وقفوا خلف تدشين ميثاق نيروبي لتشكيل حكومة جديدة مناهضة لها أن البلاد دخلت أولى خطوات التقسيم عمليا، ومع ذلك يحاول كل طرف الإيحاء بعدم حدوث ذلك، فالأولى تتشدق بقدرتها على حسم الموقف عسكريا وإجهاض الخطوة، والثانية تعتقد أن تسمية الحكومة بالوحدة والسلام والحديث عن سودان جديد سيكون كفيلا بتجنب مسار التقسيم.

المشكلة أبعد من نوايا كل طرف ورغباته وتصوراته، فالواقع في السودان قد يكون أقوى من ذلك. فالتقسيم أو ما يوصف بتقرير المصير ظل شبحا منذ سنوات طويلة في البلاد، وعندما تحقق جزء منه بفصل جنوب السودان عن شماله منذ نحو 14 عاما، لم يكن أشد المراقبين تفاؤلا يتوقع أن يحافظ السودان على ما تبقى من كيانه، الذي يتشكل من موزاييك اجتماعي وعرقي كفيل بأن يعيد الشبح إلى الواجهة في أي وقت.

منح توقيع قوى متعددة على ميثاق لتشكيل حكومة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع وحركات مسلحة متحالفة معها فرصة لمن تشاءموا بعد انفصال الجنوب لتقترب توقعاتهم من الحدوث تدريجيا. فالتركيبة المناطقية الموقعة على ميثاق نيروبي كفيلة بأن تقود إلى الانفصال، وخطاب الوحدة والسلام الذي رفعته قوى سياسية وحركات مسلحة ومعها الحكومة الكينية لن يكون له نصيب من التنفيذ، في ظل التباين بين من يدعمونه ومن يقفون ضده، فالخلاف الذي حدث خلال الأيام الماضية يشير إلى صعوبة التوافق حول كلمة سواء تحافظ على وحدة السودان.

اللافت أن حجم الاعتراضات، داخليا وخارجيا، لم يكن كبيرا على الإعلان عن التوجه نحو تشكيل حكومة جديدة، كأن هناك قبولا بالفكرة وتوقعا لها، أو رهانا على فشلها. فردود الفعل الراهنة لا تتناسب مع حجم القفزة التي حدثت في نيروبي.

من قبلوا وتوقعوا يعلمون أن الحرب التي اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع لن تعيد السودان إلى ما كان عليه قبلها، وتداعياتها قاسية على هياكل الدولة التقليدية، فإذا نجحت قوات الدعم في إزاحة المؤسسة العسكرية النظامية والسيطرة على مفاتيح الحل والعقد، وفقا لمخططها الأول، فهذا يعني تبدلا في التوازنات وأن مرحلة سياسية جديدة تبزغ لا أحد يعلم شكل المعادلة فيها بالضبط. وإن فشلت، كما هو حاصل الآن، يظل خيار التقسيم أو ما يُعرف في بعض الأدبيات السياسية بالخطة (ب)، ويكون إقليم دارفور هو المركز هذه المرة باعتباره حاضنة اجتماعية للدعم السريع.

من قبلوا وتوقعوا أيضا لم تكن لديهم ممانعات إستراتيجية للرفض، فالجيش السوداني ما لم يتمكن من إعادة السيطرة على كل أقاليم السودان التي كانت في حوزته قبل الحرب قد يكتفي بما تحت يديه، بعد استعادة ولايات عديدة مهمة، واقترابه من حسم معارك الخرطوم لصالحه، وهو ما يُعرف أحيانا بدولة البحر والنهر، في إشارة إلى السيطرة على أقاليم البحر الأحمر وحتى مجرى نهر النيل وما حوله.

تجد هذه الرؤية رواجا كبيرا في صفوف الحركة الإسلامية التي بات لها نفوذ واسع داخل المؤسسة العسكرية وأجهزة الحكم، ولن يضيرها التضحية بأقاليم مقابل السيطرة على أخرى والعودة إلى واجهة السلطة، فمنطق غالبية القوى الإسلامية أنه لن يضيرها خسارة منطقة ما دامت لديها أخرى تحت أقدامها. هذا التوجه سهّل انفصال جنوب السودان في عهد الرئيس السابق عمر البشير على أمل أن تأتي لحظة للاسترداد في المستقبل القريب أو البعيد، لا يهم. وقياسا على تجربة الجنوب لم تتمكن دولة السودان من استعادته، بل اقتربت أكثر من خسارة أقاليم أخرى.

وتجد التجربة رواجا لدى جهات إقليمية ودولية، ترى استحالة استمرار التعايش الهش بين إقليم دارفور وأقاليم أخرى في السودان، وحاولت هذه الجهات سلخ دارفور مع اندلاع حرب ضارية في الإقليم منذ حوالي عقدين، لكن الخطوة تم إخمادها من دون وأدها تماما، وعندما بدأت تطل برأسها مرة أخرى لم تكن هناك صدمة أو رفض واسع.

ربما تكون المفاجأة في توسيع نطاق المناطق التي تشملها سيطرة الحكومة الجديدة، وتضم مناطق في جنوب كردفان والنيل الأزرق وتسيطر عليها قوات الحركة الشعبية، جناح عبدالعزيز الحلو، ولها طموحات تاريخية في تغيير وجه السودان أو الحصول على حق تقرير المصير، بما ينطوي على الوصول إلى مربع الانفصال.

من صمتوا كثيرا أو قليلا أو صرخوا في مواجهة إعلان تشكيل حكومة موازية، استند منطقهم على أن مصيرها الفشل، فهي تحوي قوى سياسية لديها توجهات متباينة، وحركات مسلحة متفاوتة في قوتها العسكرية، وتركيبة اجتماعية ذات جذور مختلفة، وهي أمور كفيلة بأن تضعضع أو تهز الأرض التي سوف تقف عليها الحكومة الجديدة في المستقبل، وتتحول مناطقها إلى اقتتال متواصل، وجحيم من الحروب المستمرة، ما ينطوي على فشل في هزيمة الجيش وتطبيق شعار الوحدة والسلام، وفشل ثانٍ في جلب الأمن والاستقرار داخل المناطق التي حكمتها، وفشل ثالث في إيجاد مساحة كبيرة من الهدوء تضمن توفير احتياجات المواطنين كهدف رفعته القوى والحركات التي وقّعت على ميثاق نيروبي.

وفّرت تجربة جنوب السودان التي فشلت بعد الانفصال في تحقيق الأمن والهدوء والاستقرار اطمئنانا لدى الحكومة السودانية في بورتسودان، وأن التجربة الجديدة لن تكون أفضل من سابقتها، وقد يكون هذا الاستنتاج صائبا إذا لم يكن القائمون على رعايتها انتبهوا لعيوب تجربة جوبا أو دشنوا خطوتهم انتقاما من الجيش السوداني.

تؤكد الولادة المتعثرة وربما المتسرعة للحكومة الموازية وجود تحديات بالجملة أمامها، وما يجمع مكوناتها لا يقل خطورة عمّا يفرقها. وما لم تقم كل القوى بالتسليم بقيادة الدعم السريع، بحكم القوة والنفوذ ومناطق السيطرة الشاسعة، سوف تظهر مشاحنات تتخذ شكل صدامات، ومهما كانت آليات الاحتواء والتفاهم والتوافق المعلن عنها ستظل مسكونة بالهواجس.

وربما وقع تخطي إشكاليات مثل العلمانية ودمج الجيوش وتقرير المصير، غير أن تفجرها يمكن حدوثه لاحقا، لأن اجتماعات نيروبي شهدت شدا وجذبا طويلين في اللحظات الأخيرة، ما يعني أن هذه الحالة قابلة للتكرار.

يتصوّر البعض أن نموذج ليبيا بشأن وجود حكومتين، إحداهما في طرابلس بالغرب والأخرى في بنغازي بالشرق، يمكن إعادة إنتاجه في السودان من خلال الإعلان عن الحكومة الموازية، إلا أن المكونات التي تستند عليها كل حالة مختلفة، فلم يُخيم شبح الانفصال في ليبيا بشكل حاد ويوجد تعايش نسبي بين الحكومتين، ولم يتطور الخلاف بينهما لصراعات عسكرية ممتدة أو يوحي برغبة أحدهما في الانفصال، بينما الوضع في السودان مفتوح على صراعات ممتدة ويشرع الباب نحو الانفصال.