يقف الأتراك متحلقين حول المشهد الإستراتيجي الراهن أمام ما يجري في المنطقة ينتظرون ما سيرشح عنه. استثمر الأتراك بشكل كبير في المنطقة، وارتكبوا الكثير من الأخطاء. لكن مع أخطائهم، تمكنوا من ترسيخ مواطئ قدم في أكثر من مكان، وصار لهم أن ينتظروا العائد من هذا الاستثمار.
الأتراك أمة مهمة. الشاهد ما قاموا بتحقيقه على مدى ما يقرب من ألف عام من التاريخ. على مدى أكثر من 1400 عام من التاريخ العربي الإسلامي، يستطيع الأتراك أن يقولوا إنهم حكموا المنطقة لألف عام منها، ربما بالكثير من القسوة، ولكن بالتأكيد بالفطنة والذكاء، وهو أمر لم يجارهم فيه الإيرانيون، الذين توافدوا على موجات ليؤذوا المنطقة بمسميات تحولت في القرون الأخيرة إلى توصيفات مذهبية قطعت مع فكرة التسامح التي أتى الإسلام باسمها.
الأتراك، وهنا لا نقصد العثمانيين فقط، أتوا بأشكال قبلية مختلفة وخصوصا منها التركمانية وسلطنتي الخروف الأبيض والخروف الأسود وصولا إلى السلطنات السلجوقية الرومية كبوابات لتأسيس السلطنة العثمانية. من هناك تأسست الإمبراطورية العثمانية التي يحرص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تقديم نفسه وسلطته الراهنة على أنه الوريث الشرعي لها وزعيم شرق المتوسط اليوم بلا منازع. وهذا ليس بادعاء سهل، لأنه يترك الباب مفتوحا للكثير من المطالبات التاريخية، وهي متطلبات تترك عالما مزدحما بما تريده سلطات جديدة الآن تُؤسس على بقايا الانهيار المتسارع لعالم ما بعد الحرب الباردة، وتتأسس على عالم ما بعد الربيع العربي.
هذا عالم مهم وأهم بكثير من عالم مذهبي أسسه آية الله الخميني الذي كان يريد كل شيء ببلاش، ولم يكن مستعدا لأن يقدم له أي شيء بالمقابل. كان الخميني ومن بعده آية الله علي خامنئي، وريث نظرية الولي الفقيه التي تنتظر من متبعها أن يمد يده إلى جيبه وأن يدفع، بينما يسعى عالم أردوغان إلى حسبة مفيدة يخرج منها الجميع بدور الرابح. ولضمان الرابح، تحرك الأتراك للبحث عن ممولين. جاء الممول في المرة الأولى من خلال تركيبات حزبية إخوانية قتلها الطمع وأدت إلى أن تفتك بنفسها. لكنها تداركت نفسها وتحولت إلى عالم مختلف أكثر ميلا إلى البراغماتية، وجاءت الدوحة لتكون الممول الصبور الذي لا يهمه أن يصبر إلى حين تحين ساعة الربح، بل والربح الكبير.
ها هي أنابيب الغاز القطرية تتمدد على الورق أولا، ثم قريبا على الأرض أو تحت البحر لتصل إلى شواطئ العراق ثم صحرائه وبادية الشام، كي تجد من يستقبلها على حافة البحر المتوسط الشرقية المتلهفة لغاز مسال تريده أوروبا بسرعة وكفاءة بعيدا عن الدورات الجغرافية الطويلة التي أعيت منتجي الغاز الكبار. نظرة واحدة إلى خط من أنبوب الغاز من الدوحة إلى خور عبدالله العراقي فإلى داخل العراق ثم سوريا ثم الطرف الأوروبي كافية لرؤية الفرق الهائل بطول المسارات وحجم المخاطر، مقارنة بدورة تمر خلال مضيق هرمز وكل البحار التي تلف الخليج العربي وخليج عمان وبحر العرب وخليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج السويس ثم مضيقها للوصول إلى تلك النقطة المطلة على البحر المتوسط. هذا عالم مختلف تماما، بمخاطر متراجعة، خصوصا وأن هذه المخاطر الآن تحت حماية دولة كبرى مثل تركيا، صارت دولا مثل الدولة السورية الجديدة التي ربحتها تركيا من المراهنة الأردوغانية طويلة الأمد على انهيار نظام بشار الأسد، والتي تمتد بها هذه المراهنة لتصل إلى حافة مفيدة أخرى عندما تستجلب شبكة الأمان هذه إلى جانبها ما يسمى بالشبكة التركمانية للغاز المسال القادمة من حوض القوقاز العملاق.
يعزز الامتداد الكردي هذا الإحساس بأن التوسع الإقليمي مع الأكراد هو جزء من وعي تتبدل فيه الأولويات لتصبح أكثر تأثيراً وأهمية. نحن هنا لا نريد أن نجري مقارنات عرقية أو انتهازية مثل تلك التي يستمر في إجرائها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، حيث تتقدم المصالح الشوفينية والمالية على كل شيء آخر، بل على شبكة علاقات إقليمية راسخة وذكية يتبناها الحزب الديمقراطي الكردستاني، الوريث الشرعي للحركة الكردية التاريخية والذي وجد نفسه جزءا راسخا من علاقة الدولة العراقية بالإقليم بما لا يجعله قوة انفصالية مستفزة.
الأكراد الصاعدون، ومنهم قيادات نبهة مثل الزعيم مسرور بارزاني رئيس حكومة إقليم كردستان – العراق، بدأوا برسم حدودهم الذاتية لما يمكن لهم أن يحققوه وما لا يمكن تحقيقه إقليميا. والأهم من كل هذا، سأل بارزاني نفسه: أي نوع من العلاقات يمكن أن يقام مع القوتين الكبيرتين التركية والإيرانية في المنطقة (أو ما تبقى من القوة الإيرانية بعد أن نالها ما نالها من تدمير وإهانة في المنطقة). لا شك أن الأكراد من الحزب الديمقراطي سيفهمون أنهم أقوى مع عراق عربي موحد من الركض وراء حلم خامنئي المريض، الذي لم يكتف بتدمير قوة حلفائه من تجمعات الميليشيات، بل يبدو مصرا على السير أكثر في طريق دمار إيران نفسها. إنه دمار تستحقه إيران التي لم تترك أحدا دون أن تلحق به الأذى، ودون حد أدنى من التمنع أو التركيز على حقيقة أن هذه المنطقة تستحق أن تحيا بسلام، وليس على وقع “دخان البنادق” الإيرانية الذي خنقها وآذاها.
يقول خامنئي، دون تركيز كبير على ما يقول، بأن على المنطقة أن تحمي نفسها. ونحن نؤيد ما يقول بأن العدو الأكبر الذي يستحق أن تحمي المنطقة نفسها منه هو إيران نفسها، بل لا نبالغ إن قلنا إن على إيران أن تحمي نفسها من نفسها. طهران عدو لدود يلغ في دماء أهل المنطقة ولا يريد أن يلتفت إلى نفسه ليسأل أول وأهم الأسئلة: ماذا فعل العرب لإيران في العصر الحديث للوصول معهم إلى هذا المستوى من العداء؟ سؤال أبسط: هل يستحق الاستعراض الفلسطيني كل هذا الدمار لتقول إيران أنا موفقة؟
ها هي سوريا الأسد تنتهي إلى عالم تحكمه تركيا، واليوم لا يجرؤ مقاتلو حزب الله على التعرض لجنود الجيش اللبناني، وهم الجنود أنفسهم الذين طالما سخر منهم مقاتلو حزب الله ونكلوا بهم. حتى الحلفاء البعيدون من أمثال جنود الجيش الجزائري ومقاتلي بوليساريو الانفصالية لم يسلموا من الأذى وها هم محتارون في ما سيؤول إليه مصيرهم وما إذا كانت محاكم جرائم الحرب السورية ستجرهم إلى أحكام قاسية لتنفيذهم أعمالا خارج قوانين الحرب. أما قضية حماس نفسها، فهي حكاية من نوع آخر لا نزال بالأساس نجهل أين بدأت ولماذا، وكيف ستنتهي. قضية حماس شائكة إلى درجة أن أردوغان والمشروع التركي – السوري الجديد يحاولان تحاشيها بشكل واضح، ويركزان كل تركيزهما على ما تحقق من إنجاز على الأرض في سوريا رغم أن الحاجة إلى إعادة إعمار ما دُمر في سوريا لا تقل عن حاجة غزة.
لعل المنافسة بين الأتراك والإيرانيين لم تصل بعد إلى ذروتها. لكنها منافسة قائمة وليس من اليسير القول إنها لن تتحول إلى صدام. وما يجعلها صعبة أكثر هو أن الأطراف العربية لم تدخل حلبة الصراع بعد. يريد الإسرائيليون أن يجروا العرب إلى الحلبة. هذا مهم بالنسبة إليهم لأنه يجعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب مهتما ومزايدا، ويجعل من القطريين مضطرين إلى التدخل بشكل مباشر أو عبر عميلهم التركي، ويجعل من أهم عنصر في المعادلة، أي السعوديين، مجبرا على التدخل، بل وإعادة توزيع شبكة المصالح وفق ما يراه مناسبا وما يليق بمكانته. إعادة رسم خارطة القوى ليست سهلة الآن. لا أحد يريد الخروج عن حافة الدور المفترض الذي رسمه لنفسه أو فرضته عليه الولايات المتحدة أو غيرها من القوى الكبرى.
لا ننسى أن ما يجري الآن في شمال الجزيرة العربية أيضا، فيما صار يسمى بخارطة الهلال الشيعي، هو بروفا تدريبية لما يتم الإعداد له من خارطة طريق في جنوب المنطقة، وعندئذ سيتوجب على الجميع أن يرسموا خرائطهم للجنوب، وحينما تكتمل هذه الخرائط فإن القوى الكبرى ستشرع في تقطيع حصصها من قوى اليمن والبحار المحيطة باليمن ومنطقة القرن الأفريقي. يا لها من لعبة أمم.