كرّست نتائج الانتخابات التشريعية في ألمانيا، توجها عاما أوروبيا نحو أحزاب اليمين بشقيه الوسطي والمتطرف، ما يقطع مع التيارات السياسية التقليدية. وبرز اليمين المتطرف الألماني على غرار نظرائه في عدة دول أوروبية الفائز الأكبر بحلوله ثانيا في ثالث اقتصاد بالعالم.
برلين – عادت ألمانيا إلى حكم اليمين بعد فترة وجيزة من حكم اليسار في نقطة تحول مهمة تكرس تغيّر المزاج الانتخابي الألماني ومن ورائه المزاج الأوروبي الأوسع نطاقا.
وحل التحالف المحافظ في ألمانيا الأحد بقيادة فريدريش ميرتس في صدارة نتائج الانتخابات التشريعية، حيث حصل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي المحافظ على نسبة 29 في المئة،، فيما أحرز حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف نسبة 20 في المئة وهي نتيجة غير مسبوقة لحزب من أقصى اليمين في انتخابات اتحادية منذ الحرب العالمية الثانية.
وشكلت قضية النازحين واللاجئين غير الشرعيين الذين تدفقوا إلى دول الاتحاد وبشكل غير مسبوق في العقود الثلاثة الماضية خاصة ألمانيا التي استقبلت العدد الأكبر منهم إبان حكم المستشارة أنجيلا ميركل، القضية الأبرز التي قامت عليها برامج الأحزاب وبرامجها الانتخابية الوطنية والقارية.
وتعتبر قضية الهجرة إلى القارة العجوز القضية الأكثر إثارة وشعبية في المزاج والسلوك المجتمعي الأوروبي في مختلف دوله وبالتالي السلوك الانتخابي، حيث ظهور التذمر من اللاجئين الذين يعتبرون شرائح اجتماعية غير مرغوب فيها وهي ميزة كانت غائبة عن المجتمعات الأوروبية لعقود طويلة.
وشهدت الحملة الانتخابية سجالاً حاداً بين المتنافسين بشأن قضية الهجرة غير الشرعية، وسط مخاوف متزايدة من أن الوضع أصبح يتجاوز قدرة السلطات على ضبطه والتحكم فيه.
ورغم أن شكل الحكومة الألمانية الجديدة ما زال غير واضح، ولن يظهر إلا بعد أسابيع أو حتى أشهر، فهي من دون شك ستسعى لتشديد قوانين الهجرة واللجوء وهو الموضوع الذي طغى على الانتخابات الألمانية وكان في طليعة اهتمامات الناخبين.
وخلال الحملة الانتخابية، تعهد ميرتس بتطبيق قوانين قاسية لوقف الهجرة غير الشرعية، كثير منها كان مخالفاً للقوانين الأوروبية. كما تعهد بتسريع ترحيل المهاجرين غير الشرعيين ووقف استقبالهم على الحدود، وحتى طرح إغلاق الحدود مع دول الشنغن، وهو ما لا يسمح به الاتحاد الأوروبي إلا في ظروف الطوارئ.
وسيتوجب على الحكومة الجديدة كذلك اتخاذ قرار في وضع اللاجئين السوريين الذين أوقف مكتب الهجرة واللجوء البت بالطلبات الموجودة أمامه بشأنهم بعد الإطاحة بالرئيس السوري بشار بالأسد، مع تغير الظروف التي يتم الاستناد عليها لمنح اللجوء.
وقد تستغرق إعادة تقييم الوضع في سوريا فترة طويلة، خاصة إذا تسلمت وزارة الداخلية أو الخارجية الأحزاب التي ستدخل في ائتلاف مع الحزب المسيحي الديمقراطي.
وكان الحزب المسيحي نفسه تحت حكم المستشارة السابقة أنجيلا ميركل هو من فتح الباب أمام مئات الآلاف من اللاجئين السوريين عام 2014. ولكنه بعد زيادة الضغوط الداخلية والسخط من اللاجئين، وتسلم ميرتس زعامة الحزب، انقلب موقف الحزب المسيحي الديمقراطي بشكل كامل وعاد لجذوره المحافظة التي يتهم ميرتس ميركل بإبعاده عنها.
ويرى محللون أن الانتخابات الألمانية كرّست واقع أن اليمين المتطرف يقوى ويصعد في أوروبا، وأن الأحزاب الشعبوية تسجل تقدما في اجتذاب أصوات الناخبين.
وقبل سنوات كانت نسبة التأييد لحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، على المستوى الوطني، لا تتعدى 12 في المئة. ومع أن تأييده في الولايات الألمانية الشرقية التي كانت تحت الحكم السوفييتي حتى عام 1990 كان أعلى، فهناك أيضاً لم يتخطَّ آنذاك عتبة 20 في المائة. و تغيّر الأمر الآن، وبات الحزب المراقَب من قبل الاستخبارات بسبب شكوك بأنه يعمل ضد الدستور والديمقراطية، ثاني أقوى حزب في ألمانيا.
وتعكس نتائجه تحوّلًا كبيرًا في توجهات الناخبين الألمان، خاصة في الولايات الشرقية التي تعاني من تحديات اقتصادية واجتماعية، كما أنها تثير تساؤلات حول مستقبل الديمقراطية والتعايش الاجتماعي في البلاد.
وأكد اليمين المتطرف الألماني الاثنين أنه يطمح في أن يصبح أول قوة سياسية في البلاد ما يتيح له تولي السلطة بعدما أحرز نتيجة غير مسبوقة في الانتخابات التشريعية.
وجاء حزب البديل من أجل ألمانيا ثانيا خلف المحافظين بنحو 20 في المئة من الأصوات، أي ضعف النسبة التي حصدها قبل أربع سنوات، وتمثل نتيجة تاريخية للحزب اليميني المتطرف الذي أُسس عام 2013.
وبحسب زعيمة الحزب أليس فايدل أصبحت الحركة القومية المناهضة للهجرة “في أفضل وضع ممكن” لتخطي حزب فريدريش ميرتس المحافظ “خلال السنوات الأربع المقبلة ليصبح بالتالي أول حزب” على المستوى الوطني.
وأضافت فايدل أن هذا من شأنه أن يمنح حزب البديل من أجل ألمانيا “تفويضا للحكم” بعد الانتخابات التشريعية المقبلة في 2029.
وساعدت الصعوبات الاقتصادية والسياسات التقشفية، التي يأتي اللاجئون ليضيفوا أعباءً اقتصادية على الدول المضيفة لهم بسبب تكلفتهم في مجالات المرافق والتعليم والصحة وغيرها، قوى اليمين المتطرف على سحب البساط من تحت أقدام التيارات السياسية التقليدية خصوصاً ذات التوجه اليساري أو الاشتراكي وأحزاب يمين الوسط.
وأدى إخفاق الأحزاب التقليدية إلى دفع الناخبين الألمان والأوروبيين إلى التصويت العقابي لحساب اليمين المتطرف نتيجة لعدم الرضا عن سياسات اليمين واليسار ورفض الناخبين لبرامجهم أكثر من كونه قناعة ببرامج أقصى اليمين.
ويقول محللون إن صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في المشهد السياسي الألماني والأوروبي ، داخل الحكومات أو المعارضة ، يؤدي إلى خلق تحديات كبيرة للديمقراطيات في أوروبا.
ويشير المحللون إلى أن اليمين المتطرف في أوروبا أصبح قادرا على التأثير على وحدة وتماسك الاتحاد الأوروبي وصنع سياسات متشددة تؤثر على عملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالأزمات والقضايا الدولية. وقد تصبح وحدة الاتحاد الأوروبي مهددة للانقسام وانسحاب دول جديدة من التكتل الأوروبي.
وعلى نطاق أوسع، فإن صعود اليمين المتطرف في أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بمثابة علامة تحذير حول كيف يمكن للإصلاح المتوقف لقواعد الهجرة والمشاكل الاقتصادية ومعدلات التضخم المرتفعة – فضلاً عن التنفيذ المكلف للسياسات الخضراء في الاتحاد الأوروبي – أن يعزز الأحزاب الشعبوية والمناهضة للمؤسسة.
ويؤكد محللون أنه تنبغي على الأحزاب الألمانية التقليدية إعادة مراجعة سياساتها والأخطاء التي أفقدتها ثقة الناخب منعاً من سقوط المجتمعات الأوروبية في بؤرة لا تنتهي من التطرف لصعود اليمين المتطرف.