تعامل الكثيرون مع موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب من تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن على أنه مزحة أو مسرحية هزلية أو قفزة في الهواء، وفي أحسن الأحوال مقترح قابل للنقاش والتعديل والتهذيب، بينما تعامل معه رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو وقوى اليمين المتطرف في بلده وداخل الولايات المتحدة على أنه خطة عمل يجب تنفيذها، بزعم أنها تحوي حلا نهائيا لمشكلة غزة التي تتجدد كل بضع سنوات وتؤدي أحيانا إلى حرب تشعل أزمات في المنطقة.
لم تكن الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة خلال خمسة عشر شهرا عادية، أو مثل كل الحروب السابقة التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، ولأن هذه الحرب غير تقليدية اصطحبت معها حلولا من رحمها، في مقدمتها مقترح ترامب الذي أعلنت مصر والأردن بوضوح رفضه، وشددت دول عربية عدة على ذلك.
وقد تخرج القمة العربية الطارئة بالقاهرة في السابع والعشرين من فبراير الجاري بموقف أكثر وضوحا وصرامة، يتجنب الصدام مباشرة مع الولايات المتحدة، ويقدم خطة بديلة لما طرحه رئيسها، سواء أكان جادا أم مازحا.
تلقف نتنياهو حديث ترامب عن التهجير، وبدأ يبني عليه تصورات عملية، مؤكدا أنه كان يعلم به مسبقا بعد أن أظهر العكس عند لقائه بالرئيس ترامب في واشنطن، ليضفي مصداقية عليه ويمنحه ثقة ويستكمل مسيرة تحويل الفكرة إلى واقع من خلال أدوات ناعمة، حيث قررت إسرائيل تسهيل إجراءات التهجير الطوعي، والنأي عن التهجير القسري، الذي يمكن أن يسبب مشكلات كبيرة مع القاهرة، لا تريدها تل أبيب حاليا.
وجد نتنياهو في مقترح ترامب فرصة لتهدئة خواطر اليمين المتطرف في حكومته بعد اعتراضه على توقيع صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس، وضرورة استكمال أهداف الحرب، وما لم يحصل عليه بالأدوات العسكرية قد يتمكن من تحقيقه بالأدوات السياسية، ومعه ضوء أخضر من الرئيس الأميركي الذي يحمل أجندة تتوافق في مقاطع كثيرة منها مع أغراض نتنياهو، ويجد تناغما معه ربما لم يسبقه زعيم آخر في إسرائيل، وتوفير شبكة أمان تحميه من الضغوط المستمرة لقوى اليمين، وترضي طموحها في التخلص من الفلسطينيين، فاليوم يتم التخطيط لغزة وغدا الضفة الغربية.
وضع رئيس الحكومة الإسرائيلية جانبا كبيرا من خطته العسكرية على الرف، وقرر التعامل سياسيا مع مقترح ترامب لضمان ولاء المتطرفين له وعدم التهديد بإسقاط حكومته، والثقة به كأقدر من يحقق أطماعهم، وأول من ينهي حلم الدولة الفلسطينية، فالتوطين يلغي هذا الأمل ويضع مصدات صلبة أمام من يدعمون هذا الحلم من بقايا اليسار في إسرائيل، باعتباره السبيل الوحيد للهدوء والأمن والاستقرار.
وعلى المستوى الخارجي، يرى نتنياهو أن التمسك بورقة التوطين علنا إن لم تتحقق الآن سوف تفتح ثغرة في جدار من يتمسّكون بحل الدولتين، وتجبرهم على إعادة النظر في مسلّماتهم القائمة على الشرعية الدولية، وفي أفضل الأحوال تخفّض سقف الطموحات في الضغط على إسرائيل لإيجاد حل عاجل للقضية الفلسطينية.
ومن المتوقع أن يستغرق الشد والجذب وقتا طويلا، وربما يؤدي الأخذ والرد حول مقترح ترامب إلى حرف الأجندة العربية عن مسارها بشأن التشبث بحل الدولتين، وإعادة طرح مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت عام 2002 معدلة.
ما أحدثه مقترح ترامب من ضجة، وربما غليان، حقق لنتنياهو أكثر مما يتمناه، إذ وضع قضية جديدة على الأجندة الإقليمية، وبدلا من الحديث عن مسؤولية إسرائيل عما لحق بغزة من دمار شامل تتم مناقشة مصير سكان القطاع، وبدلا من أن تتاجر حماس بعدم قدرة إسرائيل على اقتلاعها تتم حوارات حول آليات اقتلاعها الناعم من الحياة الفلسطينية، والدخول في دوامات وتفاصيل دخول المساعدات الإنسانية وكيفية استرضاء إسرائيل للسماح بمرور شاحنات تحمل “كرفانات” أو بيوتا متنقلة، وصولا إلى ربط إعادة الإعمار باختفاء حماس، عسكريا وسياسيا واجتماعيا، من القطاع كله.
أفضى مقترح ترامب اللامنطقي إلى رجّة كبيرة في المنطقة، وتسبب في انقسام المعنيين به إلى فريقين، أحدهما يراه خياليا وغبيا، والآخر يخشى من تحويل الخيال والغباء إلى واقع. فترامب الذي بدا متذبذبا في موقفه يعود إليه من وقت إلى آخر بما يضفي عليه قدرا من الجدية، ويتعامل معه نتنياهو على أنه منهج، والزعم أن ترامب وضع خطة عمل وليس مقترحا يصعب القبول به، ويستحيل تطبيقه على الأرض.
هناك تقديرات رأت أن مقترح ترامب سوف يقلب الطاولة على إسرائيل، لكن نتنياهو يصر على وضعه في مقدمة جدول أعماله، دون التفات لتطبيقه من عدمه، فقد تحول في تفكيره إلى حبل إنقاذ، ويراوغ به للهروب من الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية ثم الثالثة لصفقة الأسرى، ويوظفه لكبح تمرد اليمين عليه، ويردع به خصومه.
وإذا كانت إسرائيل تستطيع الذهاب بعيدا وتفكر خارج الصندوق مع ترامب، أو خارج العقل، كما قال الكاتب الأميركي توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز أخيرا، فلماذا تظل متقوقعة حول أفكار تقليدية، يراها نتنياهو عفا عليها الزمن؟
تحويل مقترح ترامب إلى خطة عمل في إسرائيل يعيد ترتيب الأولويات في المنطقة، ويربك الكثير من دولها، ويمكن المقايضة عليه بقضايا حيوية من أجل التراجع عنه، بعد أن جاء من العدم، ما يجعل نتنياهو يتمسك به ويتصرف بموجبه، ويقرر إعادة النظر في صفقة الأسرى، بل التلكؤ في بدء المرحلة الثانية للصفقة، ومضى أسبوعان على موعدها المحدد دون جلوس على طاولة التفاوض لمناقشة معالمها التفصيلية المؤسسة لوقف دائم لإطلاق النار.
ويستند نتنياهو إلى مقترح ترامب الذي جعله طوق نجاة لتعويضه على ما قدمه من تنازل في المرحلة الأولى، ووضع المقترح خلف الطاولة أو ضمن ظلالها عند استئناف المرحلة الثانية، كأداة سياسية يضغط بها على حماس والوسطاء، وما لم يتمكن من تنفيذه كاملا فقد يحصل على مكاسب في ملفات أخرى، ويجعل عملية التخلص من حماس شرطا أساسيا يصعب تجاهله الأيام المقبلة.
بدأت الحكومة الإسرائيلية تستخدم ترامب نفسه كفزاعة لإثارة ذعر عام في المنطقة، وتراهن على تليين الموقف العربي الرافض للتوطين اعتمادا على قصر نفس من يبارزونها سياسيا من الفلسطينيين، وصعوبة تشكيل موقف موحد ضد إسرائيل التي لم تدرك أن حالة السخونة التي ظهرت يمكن أن تسبب ألما لنتنياهو، لأن الرئيس الأميركي يواجه تحديات داخلية وخارجية متعددة، ولن يستطيع الدفاع عن مقترحه لفترة طويلة، في ظل وجود شبكة مصالح قوية تربطه مع دول عربية مهمة.