عبد الستار الهيتي
– المقدمة:
اقتضت الطبيعة البشرية منذ بدء الخليقة أن يستقر الإنسان مع مجموعة من بني جنسه في منطقة معينة من الأرض تتناسب مع إمكاناته وقدراته، ليتحول هذا التجمع البسيط مع مرور الأيام إلى مكون اجتماعي يمثل الوطن الأم لكل إنسان، يتواصل فيه مع الآخرين، وينصهر في بوتقة تكوينه الديني والثقافي والفكري، وكنتيجة طبيعية لذلك يتفاعل هذا المورد البشري مع الموارد الطبيعية المحيطة به والمتمثلة في الأرض والنبات والمعادن ليستغلها ويقوم باستثمارها وتعميرها، وهو الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها (هود:61)، وبذلك يتم ارتباط الإنسان بالأرض لتكون وطناً له ينتمي إليها وينتسب إلى مجتمعها عرقاً وديناً وثقافة وانتماء.
ومع تزايد الحاجات وتعدد المتطلبات الحياتية وتجدد أنماطها ولدت لدى الإنسان الرغبة في الهجرة من موقع إلى موقع آخر، ومن بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى، طلباً للرزق ورغبة في التطوير، وطموحاً للوصول إلى الأفضل، بحيث مثلت تلك الهجرة ظاهرة فردية في بعض الأحيان، وظواهر جماعية في أحيان أخرى، عرفتها البشرية منذ تاريخها القديم، وتواصلت أشكالها مع تطور العصور والأزمان، وها هي اليوم تمثل إحدى ظواهر العصور الحديثة التي نعيشها، وستظل سارية مستمرة ما وجد الإنسان على هذه البسيطة باعتبارها سنة كونية من سنن التكامل البشري والسكاني، وقانوناً من قوانينه التي لا تتخلف مهما تغيرت الظروف وتعددت الدوافع.
نشير هنا إلى أن الهجرة من الأوطان الأصلية إلى الأوطان البديلة ليست في جميع حالتها وليدة الرغبة الذاتية للإنسان، وإنما هي في أغلب حالاتها تحمل معاني القسوة والاضطرار وتنشأ عنها آلام الفرقة والحنين من جهة ومشاكل الاغتراب من جهة أخرى، لكنها مع ذلك تعتبر أحد العوامل المهمة في التقدم الإنساني، وسبباً من أسباب التطور الحضاري بجميع مجالاته العلمية والفنية والأدبية والفكرية، فمن خلالها يتم تلاقح الأفكار وتزاوج الطروحات، ونتيجة لها تتعدد الرؤى وتتفاعل الخبرات والتجارب، مما يعد سبباً أساسياً من أسباب النمو الحضاري للأمم والمجتمعات.
وبالعودة إلى المجتمعات العربية والإسلامية نجد أن للهجرة في التاريخ الإسلامي معاني خاصة ومفاهيم متميزة مرتبطة بالمفاهيم الشرعية والنصوص الدينية التي تحث على الهجرة، وتعتبرها صيغة من صيغ الدعوة ومنهجاً من مناهج تبليغ أحكامه وتوصيل تشريعاته إلى الناس كافة، عملاً بقوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض (النساء:97)، وعلى هذا الأساس كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، رضوان الله عليهم، من مكة إلى المدينة فتحاً للدعوة ونصراً لمفاهيمها، وتوالت بعد ذلك هجرات المسلمين إلى كافة بقاع العالم لنشر الدين مما أسهم في إحداث تلاقح فكري وحضاري بينهم وبين الأمم الأخرى، بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية المرتبطة فيها والتي أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (النساء:100)، فهي في المفهوم الإسلامي دعوة إلى الله ونشر لدينه وأحكامه، وسعة في الرزق، وتواصل مع الخلق لغرض التعارف والتفاعل والبناء.
ومن خلال هذه المعطيات المتقدمة يتضح لنا أهمية بحث هذا الموضوع ودراسته للوقوف على الأبعاد المختلفة التي تحملها هجرة الكفاءات العربية والإسلامية من بلدانهم الأصلية إلى البلدان والدول الأخرى، وسنحاول هنا التركيز على البعد الاقتصادي لهجرة الكفاءات باعتباره واحداً من الأبعاد المهمة المرتبطة بالهجرة، ودافعاً من دوافعها الأساسية، وقد اقتضى ذلك أن توزع هذه الدراسة إلى المباحث التالية:
المبحث الأول: أسباب ودوافع هجرة الكفاءات العلمية:
المبحث الثاني: الآثار المترتبة على هجرة الكفاءات العلمية:
الخاتمة: النتائج والتوصيات:
أملي كبير أن أكون موفقاً في دراسة هذا الموضوع بما يتناسب مع أهميته وخطورته في حياة الأمة وتكوينها المعاصر.
المبحث الأول
أسباب ودوافع هجرة الكفاءات العلمية
يطلق مصطلح هجرة الكفاءات ويراد به: نزوح حملة الشهادات الجامعية العلمية والتقنية والفنية، كالأطباء والعلماء والمهندسين والتكنولوجيين والباحثين، ويشمل أيضاً علماء الاقتصاد والرياضيات والاجتماع وعلم النفس والتربية والتعليم والآداب والفنون والزراعة والكيمياء والجيولوجيا وجميع أصحاب المهارات والمواهب، مما يعني أن مفهوم الكفاءة لا يعني فقط أصحاب الشهادات الجامعية بل أيضاً أصحاب المؤهلات والخبرات على اختلاف أنواعها( ).
تعد مسألة هجرة العقول المتميزة من بلدانها الأصلية إلى بلدان المهجر ظاهرة عالمية وليست حالة مقصورة على العلماء العرب والمسلمين فقط، فهناك هجرة للعقول المتميزة من الهند وباكستان والصين واليابان والعديد من الدول النامية في كل من آسيا وأفريقيا، بحيث يكون اتجاهها بشكل ملحوظ إلى الدول الصناعية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية.
والمتابع لحياة الأمة خلال القرن الماضي «القرن العشرين» وبالذات خلال النصف الثاني منه يجد أنه قد شهد هجرة أعداد ليست بالقليلة من أبناء المسلمين إلى الدول الغربية تحت وطأة دوافع متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية حتى وصل عدد المهاجرين من العرب والمسلمين إلى الملايين في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمنظومة الأوربية الغربية عموماً، فقد أوضح تقرير منظمة الهجرة الدولية لعام 2005م أن حجم الهجرة الدولية بصفة عامة بلغ ( 64.6 ) مليون نسمة في عام 2000م( )، وكان من بين تلك الملايين كفاءات وعقول آثرت أن تهاجر طلباً للرزق أو رغبة في التطوير أو فراراً من الواقع المرير.
هذه الأعداد الهائلة التي خرجت من العلماء والمفكرين العرب والمسلمين في مختلف تخصصاتهم، اتجهوا إلى بلاد الغرب بفعل النقلة الحضارية التي حصلت لتلك البلاد، حيث استقروا هناك للعمل والإقامة، فذهبوا يضيفون إلى تقدم الغرب تقدماً ورفاهية، تاركين مجتمعاتهم الأصلية وبلدانهم التي هي بأمس الحاجة إليهم، حتى ضاعت هوية بعض منهم، وأصبح من البديهي أن الأجيال التالية من أبنائهم وأحفادهم سوف يذوبون في تيار الحضارة الغربية الجارف.
وقد أثبت الواقع المعـاصر أنه مـتى ما يتم اكتشـاف كفاءة عربية أو مسلمة شاب أو فتاة في الجامعات والمراكز العلمية العربية والإسلامية، حتى يتم العمل على ابتعاثه إلى جامعة عالمية لتنمية إمكاناته العلمية والحصول على درجة علمية متقدمة، ومع مرور الأيام يزداد ارتباطه بواقعه الجديد أرض المهجر عندما يلحظ اهتماماً متزايداً بفكره وطروحاته حتى يتخذ قراره بعدم العودة إلى بلده الأصلي، ويفضل البقاء والاستمرار في المجتمع الغربي، الأمر الذي يفوت على الأمة فرصة الإفادة من إمكانية أبنائها وتطلعاتهم الفكرية والعلمية في خدمة مجتمعاتهم وبلدانهم الأصلية، وبذلك تقدم الأمة هدية مجانية للأمم الأخرى، وتساهم بقصد وبدون قصد في توسيع الفجوة العلمية بينها وبين الآخر.
– أرقام وإحصاءات مخيفة:
تعتبر ظاهرة هجرة الكفاءات من أهم العوامل المؤثرة على المجال الاقتصادي للبلدان الأصلية وعلى التركيبة السكانية والقوى البشرية لتلك الدول، خاصة بعد تزايد أعداد المهاجرين من الكوادر العلمية المتخصصة، مما أدى أن ينعكس ذلك سلباً على خطط التنمية العلمية والاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي( ). وبالعودة إلى التقارير الصادرة من الجهات المعنية بهذا الأمر يتضح لنا حجم الأرقام المذهلة والمخيفة المرتبطة بهجرة العقول والأدمغة العربية والمسلمة، فقد أشارت تقارير صادرة عن الجامعة العربية ومؤسسة العمل العربية ومنظمة الأمم المتحدة إلى أن المجتمعات العربية والإسلامية أصبحت بيئة طاردة للكفاءات العلمية، حيث تشير الدراسات المتخصصة إلى جملة من المعطيات مفادها أن ما يزيد عن «100.000» مائة ألف من المختصين والمهنيين وعلى رأسهم العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء يهاجرون كل عام من ثمانية أقطار عربية هي لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر، وأن 70% من هؤلاء العلماء الذين يسافرون للدول الرأسمالية للتخصص لا يعودون إلى بلدانهم، وأن 50% من الأطباء، و23% من المهندسين، و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا، إذ يساهم الوطن العربي في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية خاصة، وأن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، ونتيجة لذلك يشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا نحو 34% من مجموع الأطباء العاملين فيها( ).
وتشير تلك التقارير إلى أن مصر وحدها قدمت في السنوات الأخيرة 60% من العلماء العرب والمهندسين إلى الدول الغربية في حين كان إسهام كل من العراق ولبنان 15%، وشهدت العراق ما بين ( 1991-1998م ) هجرة (7350) عالماً تركوا بلادهم نتيجة الأحداث السياسية والأمنية وبسبب الحصار الدولي الذي كان مفروضاً على العراق، وتشير هذه التقارير إلى عمل عدد كبير من العقول العربية في اختصاصات حساسة في بلاد الغرب مثل: الجراحات الدقيقة، والطب والهندسة النووية وعلوم الليزر، وعلوم الفضاء وغيرها من الاختصاصات عالية التقنية، وتشير دراسة أعدتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة إلى وجود ( 4102 ) عالم إسلامي في مختلف علوم المعرفة في مؤسسات ومراكز أبحاث غربية( ).
وفي تقرير آخر أعدته الجامعة العربية بدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان في حزيران 2009م يتضح أن فرنسا تستقبل 40% من العقول العربية المهاجرة، وأن أمـيركا 23%، وكندا 10%، وتشير دراسات أخرى للجامعة العربية أن الوطن العربي يُسهم بنحو 31% من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية( )، ويذكر التقرير أن الكفاءات العربية المهاجرة إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي تفوق أعداد المهاجرين إليها من الصين والهند.
ويشير تقرير آخر حول العمالة العربية المهاجرة أعدته مؤسسة العمل العربية أن عدد حملة الشهادات العليا فقط من العرب المهاجرين إلى أمريكا وأوروبا يبلغ 450 ألف عربي، ما يعني أن الولايات المتحدة ودول المنظمة الغربية الأوربية توفر مليارات الدولارات نتيجة هجرة الكفاءات والمهارات إليها، حيث لم تبذل تلك الدول أي تكلفة اقتصادية ومالية في تدريب وتعليم تلك العقول والكفاءات، في الوقت الذي تتحمل الدول الأصلية كلفة تنشئتها وتدريبها وتعليمها، ونتيجـة لذلك يصب إنتاج هذه الكفاءات في خدمة البلدان المتقدمة وإثراء عمليات التطور ودفع مسيرة التقدم والتنمية فيها، في الوقت الذي تخسر الأوطان الأصلية ما تنفقه عليهم، وتخسر فرصة التقدم العلمي والتنمية الاقتصادية الموازية التي كان بالإمكان أن تسـهم تلك الكفـاءات والخبرات العلمية في إيجادها وتطويرها( ). وذكر تقرير صادر عن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة أن الهند تخسر حوالي (2) ملياري دولار سنوياً نتيجة لهجرة المهنيين من ذوي الخبرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية( ).
نشير هنا إلى أن العقول والكفاءات الإسلامية تمثل أضخم هجرة قادمة من دول الجنوب إلى دول الشمال، فقد أثبتت الإحصاءات أنه في فرنسا مثلاً يشكل الطلبة المهاجرون من أصل بلدان المغرب العربي أكثر من نصف مجموع الطلبة الأجانب، وتستوعب مؤسسات الغرب البحثية حوالي70% من الباحثين ذوي الأصول الجنوبية( ).
ويتوقع أن يكون أغلب الباحثين الفيزيائيين والمهندسين المستقرين في ديار الغرب في المستقبل القريب من أصل مناطق الجنوب، وإن كان قد بدأ الاهتمام في السنوات الأخيرة يتجه نحو تشجيع تبادل الخبرات بين الدول الأوربية نفسها بعد دخولها تجربة وحدتها الاقتصادية والنقدية، وبعد التنسيق العلمي في مجال الدراسات الجامعية والمؤسسات التعليمية الأخرى، حيث يتم الآن الاستفادة من الخبرات والكفاءات العلمية القادمة من دول أوربا الشرقية بعد توسيع مجموعة الاتحاد الأوربي.
وإذا أردنا تحديد الأسباب والدوافع التي تقف وراء هجرة الكفاءات والخبرات فإن أغلب الدراسات التي اهتمت بهذا الموضوع تجمع على أن هذه الهجرة هي نتيجة لتشابك جملة من الأسباب والدوافع والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولذلك سنقوم بتوزيع تلك الأسباب إلى أسباب اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وهو ما سنتعرض له بشيء من التفصيل في المحور التالي من هذه الدراسة.
– الأسباب الاقتصادية لهجرة الكفاءات العلمية:
يمكن تحديد الأسباب الاقتصادية التي تقف وراء ظاهرة هجرة الكفاءات بما يلي:
1- عدم توفر فرص العمل في البلدان الأصلية:
يرى كثير من الباحثين أن من أبرز الأسباب التي تدفع الكفاءات العلمية للهجرة من بلدانهم الأصلية عدم توفر فرص العمل المناسبة لهم ولمستواهم العلمي والمهني، وأن أكثر الذين يستجيبون للهجرة هم من فئة الشباب بسبب عدم توافر فرص عمل تناسب مستوياتهم العلمية وخبراتهم العملية، ذلك أن الدول التي تمثل بلاد المهجر لديها طلب متزايد للكفاءات والمتعلمين والمهرة في معظم التخصصات، وبالتالي تحدث هجرة العقول من الدول التي يرتفـع فيها العرض إلى الدول التي يتزايد فيها الطلب، فالبطالة أو عدم توفر فرص العمل المناسبة في الدولة الأم هي التي تدفع بالعقول إلى الهجرة إلى الدول التي يزداد فيها الطلب عليهم، وتتوفر فيها فرص عمل وظروف حياة أفضل، كما أن تدني وهبوط معدلات الأجور لعمال الدول النامية تساهم في ازدياد حالات الهجرة من قبل الكفاءات المهنية والفنية( )، وهو ما يتضح جلياً في السبب الثاني من أسباب الهجرة.
2- تباين مستوى الدخل بين الوطن الأصلي ووطن المهجر:
فقد أثبت الواقع المعاصر انخفاض مستوى الدخل وتدني مستوى المعيشة في البلدان الأصلية، في مقابل ارتفاع مستوى الدخل وتوفير الحياة الرغيدة في بلـدان المهجر، ففي الوقت الذي لا يتقاضى فيه العالم أو المفكر أو المهني سوى ما يسد به رمقه وبما لا يتجاوز حد الكفاف في بلده الأصلي، يجد نفسه في حالة من الرفاهية عند وصوله إلى بلد المهجر، ويشير أحد الكتاب من واقع الخبرة الشخصية التي عاشها فيقول: إن أحد الزملاء رجع من الولايات المتحدة الأمريكية إلى بلده الأصلي كطبيب جراح أعطي راتب ما يعادل (10) عشرة آلاف دولار أمريكي شهرياً وله (4) أربع عيادات أسبوعياً، ولديه خمس أسرة للتنويم في جناح فيه (25) خمسة وعشرون سريراً يتشارك فيه هو وزملاؤه من الجراحيين الآخرين، ويوم ونصف في الأسبوع للعمليات، وقد عمل في بلده الأصلي مدة سنة ونصف، ثم رجع للولايات المتحدة الأمريكية مره ثانية، فحصل على راتب بما يعادل (40) أربعين ألف دولار معفي من الضرائب، وعلى سكن مناسب، وسيارة، ومدارس خاصة للأبناء، وتأمين صحي كامل، وتذاكر سفر سنوية درجة أولى لأي مكان في العالم، بالإضافة إلى قسم طبي كامل يحتوي على (60) ستين سريراً يمكن له القيام بإجراء عملية في أي وقت يشاء، مع طاقم كامل للتمريض والرعاية الصحية( )، مما يوضح الفرق الكبير بين الوفرة المالية بين البلد الأصلي وبلد المهجر.
3- الإحباط العلمي والمهني للباحثين في مجالات البحث العلمي:
حيث أدى النقص الواضح في أدوات الدراسات الأكاديمية في الأوطان الأصلية للباحثين إلى الإحباط العلمي والمهني بسبب عدم توفر إمكانات وأدوات البحث العلمي المتمثلة في الكتب والمجلات العلمية المتخصصة، والمعدات والأجهزة، والوقت اللازم للبحث، والبنيان المؤسسي للبحث العلمي، والاتصال العلمي الدولي( ).
ويتمثل هذا الإحباط في تدني نسبة الإنفاق على البحث العلمي والدراسات الأكاديمية من الناتج القومي، مما يشكّل عقبة أمام العلماء والباحثين في إنتاجهم العلمي وفي سبل معاشهم ووضعهم المالي وعدم قدرتهم على نشر أبحاثهم العلمية( ).
فقد ورد في دليل الأمم المتحدة للتنمية البشرية في الفترة من (1996- 2002م) أن ما ينفق على الباحث العربي سنوياً من الناتج القومي لا يتجاوز (24) أربعة وعشرين دولاراً في حين يصل إلى (124) مائة وعشرين دولاراً في الدول الصناعية، ويشير نفس الدليل أن الدول العربية تصرف أقل من 0.03% من ناتجها القومي على البحث العلمي والتطوير الأكاديمي، في حين نجد أن العالم الغربي (أوروبا وأمريكا) قد صرفت خلال عام 1996م فقط ما يقارب (417) أربعمائة وسبعة عشر بليون دولار، وهو ما يتجاوز 75% من الإنفاق المالي على البحث العلمي( ).
أما في مجال النشر العلمي فيشير التقرير أنه في الأعوام ما بين (2000- 2005م ) وصل عدد الأوراق المنشورة في دول العالم العربي ما يزيد قليلاً على (10.000) عشرة آلاف ورقة بحثية سنوياً، بينما بلغ ذلك في إسرائيل وحدها (67.000) ورقة بحثية( )، مما يشكل عامل إحباط للباحث العربي، ويدفع المفكرين والعلماء إلى البحث عن وطن بديل، في مقابل عوامل الجذب المغرية في بلاد المهجر الذي توفر له كافة الأدوات والمتطلبات لتحقيق طموحه العلمي، وتحسين وضعه المادي، واحترام ذاته وشخصه وعلمه.
ومن أشكال الإحباط النفسي والإداري أن يكون الأقل منه كفاءة وعلماً وخبرة هو المسؤول عن تسيير دفة العمل في المؤسسات التنموية والاستثمارية، وهو المسؤول عن برامج التخطيط في المراكز العلمية مثل الجامعات ومراكز الأبحاث وغيرها، الأمر الذي يجعل المسؤول غير المؤهل مدركاً للنقص الحقيقي في داخله، فيعتبر كل متميز وخبير عقبة في طريقه؛ لأن وجوده يظهر نقصه وخلله أمام الآخرين، فيلجأ إلى التخلص منه وإبعاده عن مصدر القرار، ولا يتيح له فرصة التخطيط أو التنفيذ، مما يحدث إحباطاً كبيراً في نفسيته ويجعله يفكر بجدية في ترك العمل والهجرة إلى بلاد المهجر.
4- سيطرة النظام الاقتصادي الرأسمالي على جميع دول العالم:
ذلك أن المتابع للسياسات الاقتصادية العالمية يدرك ارتباط جميع دول العالم وبخاصة دول العالم الثالث والتي منها الدول العربية والإسلامية بمنظومة النظام الاقتصادي الرأسمالي( )، حيث أدى هذا الارتباط بمركز النظام الرأسمالي العالمي في دول الغرب المصنعة إلى خلق علاقة تخلف وتبعية من قبل دول العالم الثالث للدول الصناعية المتقدمة، وفقاً لنظرية الأمة الغالبة والأمة المغلوبة، مما أدى إلى النظر إلى تلك الدول المتقدمة على أنها حلم كثير من أبناء الدول النامية، فهي تحمل مزايا فردية ضخمة للمهاجر، تجعله متميزاً عن أقرانه في وطنه الأصلي، خاصة في ظل التفكير الأناني الذي صنعته الحضارة المادية المعاصرة، والذي يدفع الفرد للسعي لتحقيق أعلى مستوى من الرفاه الخاص، بصرف النظر عن الرفاه الجمعي الذي يحقق المصلحة العامة للأمة.
ونتيجة لهذه السيطرة الرأسمالية على العالم في المجال الاقتصادي، فقد حصلت عمليات إغراء وسرقة متعمدة من قبل بعض المراكز المتخصصة في دول المهجر لاستقطاب خيرة الكفاءات العلمية في بلدان العالم الثالث، حيث أتاحت لها إمكانية الاندماج في النشاط العلمي والمهني القائم في الدول الغربية المصنعة، وقد قامت بهذه العمليات المشبوهة بعض الشركات متعددة الجنسيات وعابرة القارات التي تشكل القطب الرئيس لنظام العولمة.
– الأسباب الاجتماعية لهجرة الكفاءات:
يمكن تحديد أبرز الأسباب الاجتماعية التي تدفع الكفاءات العلمية للهجرة من بلدانها الأصلية والاستقرار في بلد المهجر بما يلي:
1- انتشار الأمية العلمية:
حيث يعاني العلماء والمفكرون في العالم الثالث من انتشار الأمية العلمية بين المجتمعات التي يعيشون فيها، المتمثلة في عدم تقدير الكفاءات العلمية وعدم الاهتمام بأصحابها، اللهم إلا من دخل منهم ميدان السياسة أو المال، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالغربة وهم في أوطانهم في الوقت الذي يرون أن المجتمعات الغربية تعنى بالكفاءات العلمية وتهتم بشأنها، سواء كان ذلك على مستوى المجتمع أو الدولة، حيث يتم تخصيص المكافاءات المجزية لهم، ويتم التركيز عليهم إعلامياً واجتماعياً، وبهذا يكون مركز القرار السياسي في أعلى هرم الدولة معتمداً على البحث العلمي ورأي المختصين فيه، بحيث يكون للكفاءات العلمية دور أساسي في صنع القرار واتخاذه، وهو ما ليس متوفراً في البلدان الأصلية التي يهاجر منها الخبراء والمفكرون من الكفاءات العلمية.
2- ضعف الانتماء الوطني:
ويتمثل ذلك في ضعف انتماء الكفاءات العلمية لحضارة بلد الأصل بسبب تأثير الحضارة الغربية السائدة التي يعيشون في ظلالها، وربما يكون سبب ضعف علاقات الانتماء إلى بلد الأصل عائداً إلى الضغوط التي يتعرض لهـا أصحاب الكفاءات العلمية بسبب انتمائهم إلى أقليات دينية أو مذهبية أو عرقية، مما يؤثر سلباً على تماسك العلاقات الاجتماعية في البلدان الأصلية، فيدفعهم ذلك إلى التفكير بالهجرة.
3- الزواج من بلاد المهجر:
حيث يعمل الارتباط الأسري الذي يتم بين بعض طلاب البعثات الدراسية القادمة من بلـدان العـالم الثالث وبين فتيات من أبناء المجتمعات في بلاد المهجر إلى الاستقرار مع الزوجة في بلدها الأصـلي، وعدم التفكير في العودة إلى البلدان الأصلية، الأمر الذي يؤدي إلى خسارة الوطن الأصلي للمبتعث إلى جهوده وإمكاناته العلمية( ).
فقد تزايدت في الآونة الأخيرة ظاهرة الزواج من الأجنبيات بين فئات الدارسين والمبتعثين في الدول الغربية، حيث يجد الشباب أن هذا الزواج سيؤدي إلى تحقيق الاستقرار المالي والنفسي، وإلى التعرف على الثقافات والعادات الأخرى، وإلى تحسين الدخل المادي، وسيكون عاملاً مساعداً في إنجاز مهمته العلمية التي قدم من أجلها. لكن هذه الإيجابيات تتلاشي في ظل سلبيات كثيرة تتمثل في ابتعاد الفرد عن موطنه الأصلي، وإلى هجرة العقول والأيدي الماهرة المدربة، بفعل اندماجه في مجتمع بلاد المهجر، وعدم التفكير في العودة إلى بلده الأصلي.
– الأسباب السياسية لهجرة الكفاءات:
هناك جملة من الأسباب السياسية التي تدفع الكفاءات العلمية والمهنية والفنية إلى ترك البلد الأصلي والانتقال إلى بلد المهجر، وأبرز تلك الأسباب السياسية ما يلي( ):
1- القمع والاستبداد السياسي:
يمثل الاضطهاد السياسي القائم على خلفيات ثقافية أو عرقية أو حزبية أو فئوية، وكذلك كبت الحريات الفكرية من أبرز الأسباب الرئيسة لهجرة الكفاءات العلمية، فكثير من الحركات التحررية والوطنية لم تتح لها الفرصة في أن تمارس نشاطها في البلاد الأصلية، ولم تستطع إثبات وجودها وتفعيل قدراتها إلا بعد الهجرة، ذلك أن القمع والاستبداد السياسي الذي تمارسه بعض أنظمة الحكم في البلدان النامية وانعدام الحقوق السياسية للمواطن، كلها كانت عوامل تشجع الهجرة وتدفع إليها، فالواقع يثبت أن الكثير من الكفاءات العربية هاجرت بسبب عدم انسجامها وتوافقها مع المناهج التي تتخذها أنظمة الحكم للإمساك بدفة الحكم.
إن عدم الاستقرار السياسي في العديد من الدول العربية والإسلامية، ابتداء من الاضطهاد وانعدام الحقوق السياسية، ومروراً بالاعتقال دون قوانين واضحة وكبت الحريات، وختاماً بالتصفيات الجسدية جعلت المواطن في تلك الدول وخاصة صاحب الكفاءة العلمية يفكر في الهجرة ويسعى إليها للتخلص من هذا الكبت والاضطهاد.
والمتابع لطبيعة وأوضاع المهاجرين يجد أن أكثر العلماء المهاجرين ينتمون إلى دول غير مستقرة سياسياً بسبب وجود نزاعات عرقية أو طائفية أو مذهبية، أو بسبب عدم التوافق إيديولوجياً مع النظام القائم في بلده مما يدفعه إلى البحث عن وطن يهاجر إليه( ).
2- المحسوبية في تبوء المناصب:
تعتبر المحسوبية أسوأ وأخطر أنواع الفساد الإداري والسياسي، لأنها تعني محاباة شخص أو جهة ما على شخص أو جهة أخرى في تقديم فائدة معينة كان من الأولى أن تذهب إلى من هو أحق بـها من الباقين، وكان أبرز معـالمها القيـام بإسناد الوظائف المرموقة لأبناء الشخصيات المعروفة أو لأصحاب انتماءات معينة، وينتج عن ذلك عدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، الأمر الذي يؤدي في أغلب الأحيان إلى استبعاد الكفاءات العلمية والمهنية من مركز القرار الإداري أو السياسي، وهذا يعني أنه لم يعد التعليم والشهادة والكفاءة هي التي تحكم آلية الاختيار والتنافس، وإنما يتم ذلك عن طريق العلاقات والارتباطات الاجتماعية والفئوية.
وبهذا تكون المحسوبية مرض خطير ينهش الوطن، ويضيع ثرواته ويبدد أمواله، ويقتل روح المنافسة، ويؤدي إلى عدم تحمل المسؤولية.
وبناء على ذلك يربط كثير من الباحثين بين انتشار قيم الفساد وعدم الكفاءة, وانتشار ظاهرة المحسوبية والمحاباة، وبين هجرة الكفاءات العلمية والفنية، لأن تلك الكفاءات لا تتمكن من تبوء المناصب القيادية في الجوانب الإدارية أو السياسية بسبب عدم توفر المحسوبية والمحاباة لديهم، الأمر الذي يضطرهم إلى ترك أوطانهم الأصلية والانتقال إلى بلاد المهجر.
وقد لعبت المحسوبية دوراً حاسماً في التقدم الوظيفي في المجتمعات العربية، أما التقدم العلمي فهو أمر هامشي بالمقارنة بالمحسوبية التي أوجدت نوعاً من عدم التوازن الاجتماعي في المجتمع، ولذلك فإن عدم تحقيق العدالة الاجتماعية بالصورة المطلوبة دفع بالكفاءات العلمية للبحث عن دور لها في بلاد المهجر، مما جعلها تتجه نحو العالم الخارجي المتقدم باحثة لها عن مكان لم تجده في مجتمعاتها.
3- الاستقطاب الطائفي والتوظيف السياسي:
الطائفية نهج سياسي يقصد به توظيف المذهب أو العرق أو الجنس لهدف سياسي ومطمع شخصي، وهي بالنتيجة حالة انتهاز سياسي من قبل ساسة وأطراف بعينها تريد أن تصبغ أطماعها السياسية بالدفاع عن حقوق الطائفة أو العرق أو الملة أو اللغة واللسان( )، وبذلك تكون الطائفية حالة من الانكفاء على الذات والاعتداد بها تهدف إلى الاستحواذ على كل شيء وإقصاء الآخرين وتهميشهم ورفض التعايش معهم، بناء على اعتبارات دينية أو مذهبية أو سياسية.
هذا الاستقطاب الطائفي إنما هو عامل من عوامل هدم العلاقة مع الآخرين، وتقويض لعرى التواصل والتكامل بين بني البشر، وينتج عنه بروز الطائفية السياسية التي تأخذ شكل التعصب وعدم الاعتراف بالآخر ومحاولة إقصائه وتهميشه من قبل أشخاص وأطراف همهم الوحيد تحقيق مكاسب شخصية أو فئوية على حساب المكونات الأخرى للمجتمع.
ومن أبرز سلبيات هذا الاستقطاب الطائفي الفشل في بناء الأمة وإدارة الدولة، فقد أثبتت الأحداث التي تعيشها بعض بلدان العالم الإسلامي أن انتشار داء الطائفية يعد أكبر عائق في بناء الدولة وتنظيم أعمالها، بسبب الاستقطاب الطائفي والبحث عن مصلحة الفئة قبل مصلحة الأمة، ذلك أنه غالباً ما يتم استغلال الطائفية سياسياً، فيؤدي ذلك إلى عدم استقرار وأمن المجتمع، في حين أن الأمة بحاجة إلى دولة يشعر فيها الجميع بأنهم مواطنون، ولا يشعرون بأنهم أتباع مذاهب أو طوائف أو أي انتماء آخر.
وقد أثبتت التجارب التي تمر بها بعض المجتمعات المعاصرة فشل النظام الطائفي في إقامة دولة حديثة، ففي لبنان تم اعتماد كيان سياسي يعتمد المحاصصة بين الطوائف والأديان فغابت لديهم الهوية الوطنية، وسعت كل فرقة ومذهب إلى زيادة غلتها من الغنائم والمكاسب لأتباعها وليس لعموم المواطنين.
– عوامل الجذب للكفاءات العلمية:
وبعد هذا التفصيـل في ذكر أسباب هجرة الكفاءات العلمية موزعة على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، نشير هنا إلى أن هناك حوافز وعوامل جذب لهجرة العقول والخبرات العلمية إلى بلاد المهجر، يمكن إجمالها بما يلي:
1- ارتفاع مستويات الأجور في بلاد المهجر، لتحقيق مستوى معيشي لائق ومقبول لها ولأسرتها.
2- اعتماد التقدم العلمي هو المعيار الأساسي للتوظيف والمنافسة.
3 – الاهتمام بتطوير التعليم والبحث العلمي ومنح الحوافز الكافية للبحث والتطوير، من خلال وجود أنظمة تعليمية حديثة ومتطورة تفتقدها الأوطان الأصلية.
4- الاستقرار السياسي وحرية الفكر والبحث وممارسة المهنة، بما يوفر المناخ المـلائم للبحث العـلمي والدراسة الأكاديمية المتخصصـة، وتوافر ما يحتاجه الباحث من الاستقرار والأجواء العلمية المواتية.
5- التشجيع الذي تمنحه الدول المتقدمة لجذب الكفاءات إليها من توفير الموارد المالية الضخمة التي تمكنها من توفير فرص عمل مجزية.
المبحث الثاني
الآثار المترتبة على هجرة الكفاءات العلمية
تختلف آراء الباحثين حول آثار ونتائج هجرة الكفاءات العلمية، فهناك من يرى فيها ثماراً إيجابية للدول الأصلية المصدرة، وهناك من يرى أنها تحمل نتائج إيجابية للشخص نفسه من خلال كونها حقاً إنسانياً للعالم والباحث، وأنها تعمل على تحقيق المشاركة في إنتاج المعرفة الإنسانية وتطويرها باعتبار أن العلم لا وطن له ولا جنس ولا عرق، وهناك من يرى أن هجرة العقول استنـزاف لموارد التنمية للدول الأصلية، مما ينتج عنها آثار سلبية كثيرة، وبين هذا وذاك طروحات وآراء متعددة تختلف في تحديد إيجابيات وسلبيات تلك الهجرات إلى دول العالم المختلفة.
ونحن نرى أن كل عمل أو خطوة يقدم عليها الناس في هذا الكون يمكن أن تحمل قدراً معيناً من الإيجابيات، ويمكن أن تحوي قدراً من السلبيات، فليس هناك في هذا الكون شر محض ولا خير محض، ولذلك سنحاول في هذا المبحث تسليط الضوء على الآثار الإيجابية التي يمكن أن تحققها هجرة الكفاءات العلمية على دول المصدر وعلى دول المهجر، حيث أن لهذه الظاهرة نتائج إيجابية لعدة اعتبارات منها أن الكفاءات المهاجرة تنتقل إلى مجتمع أكثر تقدماً يوفر لها ظروف عمل ومعيشة أفضل مما يؤدى إلى ارتفاع إنتاجها ويساهم في تطوير المعرفة والتقدم البشرى، علاوة على أن وجود العلماء العرب في الخارج يعد مكسباً علمياً وحضارياً، لأنه يفتح قنوات للأمة العربية والإسلامية كي تتقدم من الناحية العلمية والإدارية والتنفيذية، وسنحاول التركيز على أبرز الآثار المترتبة على هجرة الكفاءات العلمية، سواء كانت إيجابية أو سلبية بقدر تعلق الأمر بموضوع البحث.
– الآثار الإيجابية لهجرة الكفاءات العلمية:
مع بروز ظاهرة العولمة وانتشار ثورة المعلومات، حيث أصبح العالم كله قرية واحدة نتيجة للتطور الهائل في وسائل الاتصال، وحيث تميزت السنوات الأخيرة باختزال الزمن وتقارب المسافات، فإنه يمكن النظر إلى هجرة الكفاءات العلمية نظرة موضوعية تختلف عن النظرة التقليدية لها، فهي تحمل اليوم بعضاً من الجـوانب الإيجابية ولم تعد جميع جوانبها سلبية ومؤذية، خاصة بعدما أصبح الناس وكأنهم يعيشون في غرفة واحدة، حتى وإن تباعدت ديارهم ومؤسساتهم ومراكزهم العلمية، إذ لم يعد للتكدس السكاني أثر في تكامل المعلومة وتواصلها، حيث يمكن الإفادة من الخبرات العلمية والبحثية والمهنية في أي مكان بالعالم، دون الحاجة إلى الانتقال والهجرة وترك الأوطان.
وبناء على ذلك فإن هجرة الكفاءات العلمية رغم خطورتها على حاضر ومستقبل الأمم، فإنها لا تخلو من بعض الآثار الإيجابية، ومن أبرزها:
1- تنمية العنصر البشري علمياً ومهنياً:
ذلك أن هجرة الكفاءات العلمية تعمل على تفاعل العنصر البشري في البلاد الأصلية مع ما توصلت إليه الحضارة الغربية في بلاد المهجر من العلوم والتقنيات والاختراعات والنظم الإدارية المتطورة، وذلك عن طريق نقل هذه المكتسبات العلمية المتوفرة في بلاد المهجر من قبل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، وتيسير سبل الاستفادة منها.
وقد أدى ذلك إلى تطوير وتنمية العنصر البشري في البلاد الأصلية، وإلى نشر المكاسب العلمية في أوساط المهتمين في البلاد الأصلية، وتيسير وصولها إليها عن طريق التأليف أو التعليم المباشر، أو من خلال مساعدة المؤسسات المختصة بأي وجه من وجوه المساعدة للحصول على برامج التطوير والتنمية.
ولعل أبرز الأمثلة على ذلك صناعة المعلوماتية والاتصالات في الهند، فقد أظهرت دراسة علمية أن أبناء الأقلية الهندية المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية يشاركون إلى حد كبير في بناء هذه الصناعة عالمياً، وأن هناك عشر شركات من بين العشرين شركة الأكثر تفوقًا في إعداد البرامج الإلكترونية عالمياً يديرها كفاءات هندية مهاجرة عادوا من الولايات المتحدة الأمريكية أو قاموا هم بتأسيسها( ).
2- التحويلات المالية من بلاد المهجر إلى الوطن الأصلي:
ذلك أن البلدان الأصلية تستفيد مالياً نتيجة عمل أبنائها من ذوي الكفاءات العلمية والمهنية في بلاد المهجر، مما يدفع باتجاه القيام بنشاطات تنموية واستثمارية في الوطن الأصلي، وقد أثبت تقرير البنك الدولي الصادر سنة2006م أن حوالي (200) مائتي مليون شخص من الدول النامية يعيشون خارج أوطانهم الأصلية، وتبلغ تقديرات تحويلاتهم المالية إلى تلك الدول حوالي (225) مائتين وخمسـة وعشرين مـليار دولار فقـط لسنة 2005م( )، مما يساهم في إحداث حركة استثمارية داخل الوطن الأم، خاصة إذا علمنا أن هذا الرقم أكثر بكثير من المساعدات الأجنبية التي تتلقاها الدول النامية.
وقد أوضح تقرير صادر عن بنك النقد الدولي بعنوان «تمويل التنمية العالمي» لعام 2003م «Global Development Finance» أن الحوالات المالية التي يحوّلها المهاجرون إلى ذويهم من دخل متلقيها ومن احتيـاطي العمـلات الأجنبية في البلد المتلقـي في زيادة مطـردة، وإذا ما استثمرت هذه الأموال بالشكل الصحيح فإنها ستساهم في رفع القدرات الاقتصادية لتلك البلدان، أما إذا استهلكت استهلاكاً خدمياً فإنها ستحدث تأثيرات سلبية مضاعفة، في الوقت الذي اعتبرت فيه مجلة «نيوزويك» الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ ١٩ يناير ٢٠٠٤م أن الحوالات المالية التي يحوّلها المهاجرون إلى ذويهم تعد شكلاً جديداً لمساعدة خارجية لتلك الدول التي يتم التحويل إليها( ).
ومن نتائج هذه التحويلات المالية المساهمة في تقليل حالات الفقر في الأوطان الأصلية للمهاجرين، ذلك أن التحويلات التي تتلقاها الأسر من أبنائها المهاجرين تعمل على تخفيض عمالة الأطفال وتقلل من حالات استغلالهم، وتؤدي إلى زيادة التحاقهم ببرامج التعليم والتدريب، كما أن تلك التحويلات تؤدي إلى زيادة المشاريع الاستثمارية باستخدام رؤوس الأموال القادمة من تحويلات الكفاءات المهاجرة، حيث يشير تقرير الأمم المتحدة أن هذه التحويلات ستتزايد خلال السنوات القادمة، إذ يتوقع أن تصل بحلول عام 2025م إلى (356) ثلاثمائة وستة وخمسين مليار دولار، مما يعتبر مكسباً لا يستهان به للدول الأصلية للمهاجرين، كما يتوقع أن يتم إنفاقها في مجالات تنموية مختلفة كالصحة والتعليم والخدمات التنموية الأخرى( )، ومما لاشك فيه فإن هذه التحويلات المالية تشكل مصدراً مهماً للعملات الصعبة، وتنعكس آثارها على الاقتصاد المحلي للبلدان الأصلية( ).
3- المساهمة في الحد من مشكلة البطالة:
تساهم هجرة الكفاءات العلمية والمهنية في الحد من مشكلة البطالة في الدول الأصلية، ذلك أن تلك الدول النامية غالباً ما تعاني من ارتفاع معدلات النمو السكاني وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، لذلك تكون الهجرة واحدة من الأسباب التي تعمل على حل ولو مؤقت وجزئي لهذه الظاهرة الخطيرة في مجتمعات الدول النامية.
4- المساهمة في التقدم الصناعي والتكنولوجي:
فقد ساهمت الكفاءات العلمية والمهنية إسهاماً فاعلاً في التقدم الصناعي والتكونولوجي العالمي، وعملت على تسريع حركة التنمية الشاملة في بلاد المهجر وعلى المستوى العالمي أيضاً، ولعل أكبر دليل على ذلك حصول بعض العلماء المهاجرين ممن يتمتعون بالكفاءة العلمية على جوائز عالمية متخصصة، ومنها جائزة نوبل، في تخصصاتهم الدقيقة، ونذكر منهم على سبيل المثال الدكتور أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999م لإنجازاته العلمية الهائلة في دراسة ذرات المواد المختلفة.
5- تحقيق التفاعل الحضاري:
تؤدي هجرة الكفاءات إلى الانفتاح على (الآخر) والتواصل معه، وكذلك التفاعل الحضاري بين الأمم، إذ يتم الإفادة من الناتج العلمي والتقني للأمم والحضارات الأخرى بسهولة ويسر، حيث يتم من خلالها استيعاب ما لدى الحضارة الغربية من معارف علمية ومكاسب من منابعها خاصة وأن الفئة المهاجرة تحمل عقولاً ناضجة ووعياً علمياً متميزاً، وهي بذلك تستطيع فرز الأوراق بدقة وغربلة المعارف المكتسبة من الغرب، وتوظيفها توظيفاً يتلائم مع عقيدة وقيم الأمة العربية والإسـلامية، والبعد عما يتنافى مع تلك العقيدة والقيم فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية من سياسة واقتصاد واجتماع، وقد قامت المراكز الفكرية الإسلامية الموجودة في بلاد المهجر بهذا الدور التمحيصي لتقديم المعلومة وبما يتفق مع ثقافة الأمة وطروحاتها الفكرية.
وقد أدى ذلك إلى تحقيق تقارب ثقافي وحوار حضاري بين العالمين الإسلامي والغربي، حيث مثلت الطليعة المسلمة من المثقفين والخبراء جسر علاقة بين الثقافتين والحضارتين، وكان ذلك الخطوة الأولي في حراك التصالح والتفاعل بينهما، والعامل الأساسي في نزع فتيل الصراع الحضاري، ونقله إلى صيغة من صيغ التحاور والتفاعل، الأمر الذي أدى إلى تقديم رسالة الإسلام الإنسانية العالمية بصورتها السمحة ودخولها إلى عمق المجتمعات الغربية، وتقليص أسباب التوتر وسوء التفاهم بين العالم الإسلامي والغربي.
ومن خلال هذه النتائج الإيجابية للهجرة فإنه يمكن القول: إن بإمكان البلدان الأصلية للمهاجرين أن تفيد من هذا الرصيد المهاجر من الكفاءات العلمية عن طريق الارتقاء بالواقع العربي والإسلامي على جميع المستويات، باعتبار أن الخبراء والعلماء ومواقعهم العلمية ومراكزهم البحثية التي ينتسبون إليها يمكن أن تكون ميادين خبرة ودراية وتخصص تصب نتائجها في العالم الإسلامي وتساهم بنهضته، وتعمل على مد أوطانهم الأصلية بمقومات تلك النهضة العلمية، ونقل المعارف والتقنيات الفنية والمهنية إلى بلدانهم، لتمكينها من تحقيق حضور علمي وعملي واستشاري في مجتمعها وبين أبنائها.
– الآثار السلبية لهجرة الكفاءات العلمية:
رغم ما ينتج عن هجرة الكفاءات العلمية من بعض الآثار الإيجابية للبلدان الأصلية أو لبلد المهجـر، في كونها توفر ظروف عمل ومعيشة أفضل للمهاجرين، مما يؤدى إلى أن ترتفع إنتاجيتها وأن تساهم بدرجة أكبر في الناتج الاقتصادي العـام، باعتبار ذلك معيناً عاماً تشترك فيه كل البشرية، سواء منها البلـدان الأصلية أم بلد المهجر، فإن تلك الهجرة تعد نزيفاً لمورد حيوي يؤدي إلى إضعاف فرص التنمية للبلدان الأصلية من الناحية الاقتصادية.
إن من البديهي أن هجرة فرد يتمتـع بكفاءة علمية أو مهنية ينجم عنها خسارة لبلده الأصـلي، تتمثل في التكلفة التاريخية والعلمية والمادية التي تكبدها المجتمع في تكوين وتعليم هذا العالم والخبير، في مقابل حصول بلد المهجر علي مكسب كبير يعادل التكلفة التي كان سيتكبدها لو كان المهاجر إليه قد تكون أساساً داخل حدوده أو ضمن مؤسساته العلمية والمهنية، ولا شك أن هذه التـكلفة التاريخية والمادية ترتفع كلما زادت درجة تأهيل المهاجر.
وبذلك تُفرز هجرة العقول والكفاءات العلمية إلى البلدان المتقدمة عدّة آثار سلبية على واقع التنمية في بلدانها الأصلية، بحيث تؤثر على واقع ومستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية، وتمتد كذلك إلى التعليم والتدريب، وبناء على ذلك فإن المخاطر المترتبة على هجرة العقول والكفاءات العلمية ذات تأثيرات مركبة، كونها تعد خسارة فادحة في ميادين عديدة، من أهمها:
1- استنـزاف العقول المتميزة:
تمثل هجرة العقول العربية استنـزافاً لشريحة متميزة ومؤثرة وفاعلة في المجتمع، خاصة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ بلدانها، التي بدأت بتنفيذ خطط تنموية واسعة النطاق، فهي في هذه المرحلة بأمس الحاجة إلى الكفاءات العلمية والأيدي العاملة المدربة القادرة على النهوض بالأعباء الملقاة على عاتقها للوصول بمجتمعاتها إلى مستوى الطموح والتقدم العلمي والتطور المهني.
2- خسارة في مجال التعليم:
تعتبر هجرة العقول والكفاءات العلمية خسارة للبلدان الأصلية في مجال التعليم في جميع مراحله، باعتبار أن تلك البلدان تعاني أصلاً من الأمية العلمية والتقنية، وأن هجرة الكفاءات العلمية يمثل أحد المعوقات الرئيسة أمام التنمية والتقدم العلمي، في عصر تمثل فيه الكفاءات العلمية والتقنية التي تتمتع بالمعرفة والخبرة المصدر الرئيس للقضاء على الأمية العلمية والنهوض بالأمة العربية والإسلامية لتكون منافسة لغيرها من الأمم.
3- الخسائر الاقتصادية للبلدان الأصلية:
تؤدي هجرة الكفاءات العلمية إلى خسائر اقتصادية كبيرة للبلدان الأصلية، تتمثل في هدر الأموال الطائلة على الطلبة الذين نالوا هذه الكفاءات المتقدمة، حيث تتحمل دولهم، سواء أكان الطالب يدرس على حسابه الخاص أو على حساب حكومته، فإن رأس المال المصروف يمثل خسارة للاقتصاد الوطني، ذلك أن تعليم وتدريب العالم الواحد لا يقل بحدوده الدنيا عن (500.000) خمسمائة ألف دولار أمريكي( )، بالإضافة إلى الخسـارة الناتجة عن فقدان الدور التنموي لتلك الكفاءات العلمية في رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والصحي في البلد الأصلي من خلال إنتاجاتهم العلمية.
4- توسيع الهوة بين الدول الغنية والفقيرة:
تؤدي هجرة العقول العربية إلى توسيع الهوة بين الدول الغنية المتقدمة علمياً واقتصادياً وبين الدول الفقيرة التي تعاني من التخلف العلمي والاقتصادي، ذلك أن هجرة الأدمغة إلى الدول المتقدمة تعطي تلك الدول فوائد كبيرة ذات مردود اقتصادي مباشر، بينما تشكل بالمقابل خسارة مضاعفة للبلدان التي نزح منها أولئك العلماء، خاصة وأن التقنيات والاختراعات المتطورة التي يبدعها أو يسهم فيها العلماء المهاجرون تعتبر ملكاً خاصاً لدول المهجر الجاذبة لهم، في الوقت الذي تحرم دولهم الأصلية من الاستفادة من إبداعاتهم الفكرية والعلمية في مختلف المجالات.
5- تكريس فكرة التبعية للبلدان المتقدمة:
حيث تكرس ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية فكرة التبعية للبلدان المتقدمة، وتبرز مظاهر التبعية في هذا المجال بالاعتماد على التكنولوجيا المستوردة، وكذلك من خلال تكريس التبعية الثقافية والاندماج في سياسات تعليمية غير متوافقة مع خطط التنمية من خلال تفضيل (الكم) على (النوع) في هذا الميدان( )، مما يتسبب في اتساع الهوة العلمية بين مستويات تطور المجتمعات العربية بالمقارنة مع مجتمعات الدول المتقدمة.
6- تبديد الموارد البشرية:
حيث تؤدي هذه الهجرة إلى تبديد الموارد البشرية وإهمالها، الأمر الذي يوصل إلى ضعف وتدهور الإنتاج العلمي والبحثي في البلدان الأصلية، بالمقارنة مع الإنتاج العلمي والبحثي في دول المهجر، مما يعني بالنتيجة ضياع الجهود والطاقات الإنتاجية والعلمية لهذه العقول، التي تصب في شرايين البلدان الغربية، بينما تحتاج التنمية الوطنية لمثل هذه العقول في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والتخطيط والبحث العلمي في بلدانها الأصلية.
– حجم الخسائر الاقتصادية لهجرة الكفاءات العلمية:
مما لاشك فيه أن خسارة القدرات البشرية المتخصصة تفقد البلدان الأصلية التي تصدر المهاجرين مورداً أساسياً متمثلاً بخسارة القواعد العلمية للبحث العلمي والتقني، كما أنها تؤدي إلى تبديد الموارد المالية التي أنفقت على تكوين تلك القدرات العلمية، فقد بلغت الخسائر التي مُنيت بها البلدان العربية من جراء هجرة الأدمغة العربية في عقد السبعينيات فقط (11) أحد عشر مليار دولار، فيما يقدّر الخبراء إجمالي الخسائر نتيجة هذه الظاهرة اليوم بأكثر من (200) مائتي مليار دولار( )، كما تتحمل الدول العربية والإسلامية بسبب الهجرة خسارة مزدوجة، من خلال ضياع ما أنفقته من أموال وجهود في تعليم وإعداد وتدريب الكفاءات العربية المهاجرة من جهة، وكذلك مواجهة نقص الكفاءات أو بالأحرى سوء استغلالها والإفادة منها من جهة أخرى، حيث يتم استقدام الكفاءات الغربية للتدريب والتأهيل بتكلفة كبيرة( ).
لابد من الإشارة إلى أن مجمل هذه الخسائر الباهظة التي تتحملها الدول العربية والإسلامية إنما تصب في خدمة دول المهجر، وأن المستفيد الأول من ظاهرة هجرة العقول عالية التأهيل الدول الأوربية وأمريكيا وإسرائيل.
– معالجة ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية:
بعد أن حددنا أبرز الأسباب التي تدفع الكفاءات العلمية للهجرة وترك أوطانهم الأصلية في المبحث الأول من هذه الدراسة، وبعد أن ذكرنا الآثار الإيجابية والسلبية الناتجة عن الهجرة في هذا المبحث، نشير هنا إلى أبرز السبل والجهات التي يمكن من خلالها معالجة هذه الظاهرة للحد من هجرة العقول البشرية، حيث تأخذ تلك المعالجة وسائل متعددة، تقوم بها جهات متعددة ممثلة بالدولة في إطارها العام والمؤسسات الحكومية الخدمية، وكذلك الجامعات والمراكز العلمية، وبقية المنظمات المجتمعية، وفقاً للتفصيل التالي( ):
أولاً: دور الدولة في معالجة ظاهرة الهجرة:
إن بإمكان الدولة بإطارها العام السياسي والاقتصادي والخدمي أن تنهض بمهمة معالجة ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية للحد من هجرة العقول والخبرات عن طريق جملة من الإجراءات والسياسات العليا تجاه تلك الكفاءات، منها:
1- تقديم برامج دقيقة متعلقة بسياسة التوظيف في مؤسسات الدولة، من حيث الأجور والمرتبات المجزية لتحقيق الكفاية الاقتصادية لتلك الكفاءات، وتوفير مستقبل آمن لهم ولأسرهم، ووضع برامج أخرى على مستوى الترويح والراحة والرفاهية، ليكونوا مطمئنين على مستقبل أبنائهم وليتفرغوا للإنتاج والإبداع العلمي والتقني.
2- اختيار المكان المناسب للكفاءات العلمية، بما يتفق مع مؤهلاتهم وإمكاناتهم، وبما يتناسب مع تخصصاتهم وخبراتهم، بحيث يحقق لهم شعور الجدية بالعمل والاهتمام بالقدرات العلمية والفنية، الأمر الذي يؤدي إلى رفع كفاءة وقدرة الأشخاص بممارستهم لتخصصاتهم التي قضوا سنين طويلة في دراستها، كما أنه يحقق الفائدة المرجوة منه ويدفع العمل إلى الإمام للنهوض بالأمة والدولة على حد سواء.
3- توفير المناخ السياسي الذي يمنحهم المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار، ويتيح لهم حرية الفكر والرأي والتعبير، بما ينعكس إيجاباً على تقدم البحث العلمي وتشجيع الباحثين والكفاءات على خدمة المجتمع وتطوير أدواته العلمية.
4- إتاحة الفرصة لأصحاب الكفاءات والخبرات العلمية والمهنية والفنية للمشاركة في قيادة أوطانهم، بما يحقق الفائدة على تلك المجتمعات وعلى العلماء أنفسهم الذي يشعرون أنهم جزء مهم في المجتمع وأن عليهم الإسهام في تطوير الأمة وتقدمها.
5- اعتماد ميزانيات مجزية لمؤسسات البحث العلمي، لغرض النهوض بالجامعات والمراكز البحثية، وتقديم إغراءات مالية ومعنوية للكفاءات العلمية، من خلال منحها مناصب مرموقة وظيفياً واجتماعياً على مستوى البحث العلمي ومؤسسات الدولة الأخرى.
ثانياً: دور المؤسسات الحكومية والجامعات والمنظمات في معالجة هجرة الكفاءات:
وتشمل هذه المؤسسات قطاعات التربية والتعليم، وقطاعات الشباب والرياضة، وقطاعات الخدمة الاجتماعية، والتشغيل والقوى العاملة، ويمكن لهذه المؤسسات والقطاعات أن تساهم في معالجة ظاهرة الهجرة وفقاً لما يلي:
1- نشر ثقـافة الولاء الوطني والابتعـاد عن الولاءات الضيقة حزبياً أو عرقياً أو مذهبياً.
2- احترام الحريات الأكاديمية وصيانتها وعدم تسييس التعليم، من خلال بناء المناخات العلمية لتشجيع المواهب المتميزة، وإعطاء أعضاء الهيئات الأكاديمية والعلمية حرية الوصول إلى مختلف علوم المعرفة والتطورات العلمية وتبادل المعلومات والأفكار.
3- إعداد خطة منهجية لتطوير مناهج التعليم، بما يتناسب مع حاجة المجتمع المحلي للاختصاصات المختلفة وبالأعداد المطلوبة لتلبية تلك الاحتياجات، بحيث تكون مخرجات الأنظمة التعليمية متفقة مع الحاجة الفعلية للمجتمع.
4- التركيز على طرح برامج الدراسات العليا في جميع التخصصات العلمية، وتوفير الإمكانات المادية والعلمية لتلك البرامج، وتحسين ظروف الباحثين، ودمجهم بمؤسسات الدولة الأخرى، لتقديم المشورة العلمية والمساهمة في حل المشاكل التي تعترض تلك المؤسسات.
5- تفعيل دور الشباب في حرية إبداء آرائهم وأفكارهم من خلال المنتديات والمراكز الثقافية والشبابية والمؤسسات الحكومية والجامعات العلمية.
6- تشجيع الشركات والمؤسسات الخاصة للمشاركة في تمويل البحوث العلمية والإفادة منها، عن طريق تحويلها إلى برامج تنفيذية ومخترعات صناعية.
7- تطوير نظام الرواتب والأجور والمكافئات الخاصة بالمهنيين والفنيين من أصحاب الخبرة والكفاءة، وإعادة النظر في سلم رواتبهم وأجورهم، وتقديم حوافز مادية ترتبط بالبحث والنتاج العلمي، وخاصة فئة الشباب، حتى لا يضطروا إلى التفكير بالهجرة( ).
8- توفير أدوات وأجهزة البحث العلمي من قبل الجامعات العلمية للباحثين، وتشجيعهم على نشر بحوثهم ودراساتهم في الدوريات والمجلات العالمية.
9- عقد المؤتمرات والندوات وورش العمل العلمية التي لها ارتباط بالواقع الصناعي والاقتصادي والعلمي، ودعم العلماء والخبراء للمشاركة في هذه المؤتمرات، من أجل إحداث احتكاك علمي بين الخبرات المحلية والعالمية، وصولاً إلى الإبداع والابتكار.
10- وأخيراً: يمكن أن تشارك المجتمعات العربية والمسلمة ممثلة بمنظماتها المحلية في العمل على الحد من ظاهرة هجرة العقول والكفاءات العلمية، عن طريق توجيه رسائل ونداءات إلى المواهب الوطنية المهاجرة للعودة إلى الوطن الأم، والمساهمة في تنمية تلك الأوطان وتطورها وتقدمها، ويمكن أن يتم ذلك عن طريق ميثاق شرف مشترك يهدف إلى توظيف العقول والكفاءات العلمية وعدم إهمالها وتهميشها، وصولاً إلى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، مع عدم التفريق بين أجور الخبراء المحليين من أبناء البلد وبين الخبراء الأجانب، مادامت المؤهلات متساوية والخبرات متوافقة.
النتائج والتوصيات
وبعد هذا التطواف السريع مع الأبعاد الاقتصادية في هجرة الكفاءات العلمية، فقد توصلت الدراسة إلى جملة من النتائج والتوصيات، أهمها:
1- إن مجمل الإحصاءات التي تمت الإشارة إليها في هذه الدراسة تشير بعمومها إلى أن 60% ممن درسوا في الولايات المتحدة خلال العقـود الثلاثة الأخيرة لم يعودوا إلى بلادهـم الأصلية، وأن 50% ممن درسوا فى فرنسا لم يعودوا إلى بلدانهم الأصلية، وأن ما يقرب من (750) سبعمائة وخمسين ألف شخص من ذوي الكفاءات والخبرة العلمية قد هاجروا من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة في العقدين الماضيين فقط، ومن المتوقع أن تتزايد ظاهرة هجرة العقول إلى تلك الدول المتقدمة في المستقبل القريب، نتيجة لنظام العولمة والقوى المحركة لها، التي تريد أن تكرس العقول والكفاءات المبدعة في سوق عالمية واحدة.
2- حددت الدراسة الدوافع الاقتصادية التي تقف وراء ظاهرة هجرة الكفاءات بعدة أسباب، أبرزها: عدم توفر فرص العمل المناسبة لهم ولمستواهم العلمي والمهني، وكذلك انخفاض مستوى الدخل وتدني مستوى المعيشة في البلدان الأصلية، في مقابل ارتفاع مستوى الدخل وتوفير الحياة الرغيدة في بلدان المهجر، ومن تلك الأسباب الإحباط العلمي والمهني للباحثين من أصحاب الكفاءات العلمية بسبب عدم توفر إمكانات وأدوات البحث العلمي من الكتب والمجلات والمعدات والأجهزة والبنيان المؤسسي للبحث العلمي، وكذلك تدني نسبة الإنفاق على البحث والدراسات الأكاديمية من مجمل الناتج القومي، وأن من أشكال الإحباط النفسي أن يكون الأقل منه كفاءة وعلماً وخبرة هو المسؤول عن تسيير دفة العمل في المؤسسات التنموية والاستثمارية، وهو المسؤول عن برامج التخطيط في المراكز العلمية مثل الجامعات ومراكز الأبحاث وغيرها.
3- إن ارتباط جميع دول العالم وبخاصة دول العالم الثالث والتي منها الدول العربية والإسلامية بمنظومة النظام الاقتصادي الرأسمالي أدى إلى خلق علاقة تخلف وتبعية من قبل دول العالم الثالث للدول الصناعية المتقدمة، حيث أصبح الوصول إلى الدول المتقـدمة حلم كثير من أبناء الدول النامية، لما تحمله من مزايا فردية للمهاجر تجعله متميزاً عن أقرانه في وطنه الأصلي، ونتيجة لذلك حصلت عمليات إغراء وسرقة متعمدة من قبل بعض المراكز المتخصصة في دول المهجر لاستقطاب خيرة الكفاءات العلمية في بلدان العالم الثالث، ومنها العديد من الدول العربية والإسلامية.
4- إن أبرز الأسباب الاجتماعية لهجرة الكفاءات العلمية هي انتشار الأمية العلمية بين المجتمعات التي يعيشون فيها، المتمثلة في عدم تقدير الكفاءات العلمية وعدم الاهتمام بأصحابها، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالغربة وهم في أوطانهم، وكذلك ضعف الانتماء الوطني لحضارة البلد الأصلي بسبب تأثير الحضارة الغربية السائدة أو بسبب الضغوط التي يتعرضون لها عرقياً أو مذهبياً أو دينياً، مما يؤثر سلباً على تماسك العلاقات الاجتماعية في البلدان الأصلية، فيدفعهم ذلك إلى التفكير بالهجرة.
5- حددت الدراسة بعض الأسباب السياسية لهجرة الكفاءات العلمية، من أبرزها القمع والاضطهاد وعدم الاستقرار السياسي، وكبت الحريات الفكرية، كما تعتبر المحسوبية أسوأ وأخطر أنواع الفساد الإداري والسياسي، الأمر الذي يؤدي إلى استبعاد الكفاءات العلمية والمهنية من مركز القرار، الأمر الذي يدفع تلك الكفاءات للبحث عن دور لها في بلاد المهجر، وقد كان الاستقطاب الطائفي والتوظيف السياسي له أحد الأسباب التي أدت إلى هجرة تلك الكفاءات، بسبب غياب الهوية الوطنية وبسبب سياسة الإقصاء والتهميش لأبناء المجتمع بناء على خلفيتهم المذهبية والطائفية، الأمر الذي دفع تلك الكفاءات إلى ترك الوطن الأصلي والبحث عن حياة جديدة في وطن المهجر.
6- ترى الدراسة أن من المنطقي النظر إلى هجرة الكفاءات نظرة موضوعية، باعتبارها تحمل بعضاً من الجوانب الإيجابية ولم تعد جميع جوانبها سلبية ومؤذية، وبناء على ذلك فإن هجرة الكفاءات العلمية رغم خطورتها على حاضر ومستقبل الأمم، فإنها لا تخلو من بعض الآثار الإيجابية، منها تنمية العنصر البشري علمياً ومهنياً، والإفادة من عوائد التحويلات المالية من بلاد المهجر إلى الوطن الأصلي، والمساهمة في الحد من مشكلة البطالة، وكذلك المساهمة في التقدم الصناعي والتكنولوجي للبلد الأصلي، وتحقيق التفاعل الحضاري بين الأمم والحضارات، إذ يمكن للبلدان الأصلية أن تفيد من هذا الرصيد المهاجر من الكفاءات العلمية للارتقاء بواقع البلدان الأصلية، والإفادة من مواقعهم العلمية ومراكزهم البحثية، لتكون ميادين خبرة ودراية تصب نتائجها في العالم الإسلامي وتساهم بنهضته.
7- من أبرز النتائج السلبية لهجرة الكفاءات العلمية أنها تمثل عملية استنزاف للعقول المتميزة، كما أنها تمثل خسارة في مجال التعليم، وخسائر اقتصادية فادحة للبلدان الأصلية، وتعمل على توسيع الهوة بين الدول الغنية والفقيرة، وتكريس فكرة التبعية للبلدان المتقدمة، وتبديد الموارد البشرية، الأمر الذي يوصل إلى ضعف وتدهور الإنتاج العلمي والبحثي في البلدان الأصلية، بالمقارنة مع الإنتاج العلمي والبحثي في دول المهجر، مما يعني بالنتيجة ضياع الجهود والطاقات الإنتاجية والعلمية لهذه العقول، التي تصب في شرايين البلدان الغربية، بينما تحتاج التنمية الوطنية لمثل هذه العقول في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والتخطيط والبحث العلمي في بلدانها الأصلية.
8- توصي الدراسة بالعمل على معالجة ظاهرة هجرة الكفاءات للحد من هجرة العقول البشرية، من خلال تقديم برامج دقيقة متعلقة بسياسة التوظيف في مؤسسات الدولة، من حيث الأجور والمرتبات المجزية لتحقيق الكفاية الاقتصادية، واختيار المكان المناسب لتلك الكفاءات العلمية، بما يتفق مع مؤهلاتهم وإمكاناتهم، وتوفير المناخ السياسي الذي يمنحهم المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار، والعمل على نشر ثقافة الولاء الوطني والابتعاد عن الولاءات الضيقة حزبياً أو عرقياً أو مذهبياً، وإعداد خطة منهجية لتطوير مناهج التعليم، بما يتناسب مع حاجة المجتمع المحلي للاختصاصات المختلفة، وتفعيل دور الشباب في حرية إبداء آرائهم وأفكارهم من خلال المنتديات والمراكز الثقافية والشبابية، وتشجيع الشركات والمؤسسات الخاصة للمشاركة في تمويل البحوث العلمية والإفادة منها، وتوفير أدوات وأجهزة البحث العلمي من قبل الجامعات العلمية للباحثين، وعقد المؤتمرات والندوات وورش العمل العلمية التي لها ارتباط بالواقع الصناعي والاقتصادي والعلمي، من أجل إحداث احتكاك علمي بين الخبرات المحلية والعالمية، وصولاً إلى الإبداع والابتكار، ووصولاً إلى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، مع عدم التفريق بين أجور الخبراء المحليين من أبنـاء البلد وبين الخبراء الأجانب، مادامت المؤهلات متساوية والخبرات متوافقة.
9- توصي الدراسة بضرورة إقرار استراتيجية عربية وإسلامية تعمل على وضع ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية على جدول أعمال اجتماعات جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، من خلال مؤسساتها ووحداتها المختلفة، من أجل رصد إحصاءاتها الدقيقة والتنبيه إلى خطورتها، وتقديمها إلى اجتماعات القمة عربياً وإسلامياً، ووضع برامج عملية لمعالجتها، وتبني مشروعات طموحة تدعو من خلالها هؤلاء العلماء الموجودين بالخارج إلى العودة إلى بلدانهم الأصلية والإسهام في بناء نهضتها وتطورها العلمي والتقني، باعتبارها قضية من قضايا الأمن القومي؛ لأن تفريغ أي أمة من عقولها يعني تركها أمة خاملة وتابعة وغير قادرة على الابتكار.
10- توصي الدراسة بضرورة تبني المواهب العلمية المختلفة، وعدم إهمال المخترعات التقنية التي يتقدم بها أعداد من الطلبة والباحثين العرب والمسلمين إلى الجامعات ومراكز البحث العلمي، دون أن تجد طريقها للتنفيذ والمتابعة، حيث يتحمل مسؤولية هذه المهمة كل من الدولة والقطاع الخاص على حد سواء، من أجل تبني المخترعات العلمية التي تساعد على تطوير المنتج الصناعي كما يحدث في الدول المتقدمة.
11- توصي الدراسة بضرورة رعاية الجامعات العربية والإسلامية للعلماء والخبراء المنتسبين إليها، والحرص عليهم وتوفير كل السبل التي تتيح لهم الابتكار والإبداع، والعمل على تقديرهم مادياً أو أدبياً -بدلاً من الوقوف بوجه طموحاتهم العلمية والمهنية-والتوسع في إنشاء الأكاديميات التكنولوجية والبحثية، لإتاحة الفرصة لهذه الكفاءات أن تمارس دورها العلمي والقيادي في نهضة الأمة وتقدمها.
وأخيراً، فإن هجرة العقول -كما أشرنا- سنة كونية من سنن الله الطبيعية، إذا ما أحسن استثمارها وتوظيفها لكانت خيراً وبركة على الأمة، ولكانت كسباً حضارياً وعلمياً وتقنياً يسهم في تقدم الأمة وازدهارها، وزيادة تجاربها وتواصلها مادياً ومعنوياً، وبالعكس تماماً إذا ما أسيء استخدامها فإنها ستكون عامل تقويض وضعف للأمة.
وإن ما تـم ذكره أو الإشارة إليه في هذه الدراسة لا يمثل الرؤية الشاملة الكاملة لظاهرة هجرة الكفاءات العلمية، وإنما هي مجموعة أفكار وإشارات ونوافـذ يتم من خلالها النظر والتفـكير في أبعاد هذه الظاهرة، تم الاعتماد فيها على مجموعة من الأرقام والإحصاءات، لتكون جهداً مضافاً ومكملاً لجهد السابقين في هذا المجال، فإن كان صواباً فهو ما وفقني الله إليه، وإن كان غير ذلك فحسبي أنني لم آلُ جهداً في مراجعة هذا الموضوع ودراسة أبرز جوانبه وأبعاده الاقتصادية، للوقوف على أبرز أسبابه وآثاره وبعض من معالجاته.