من كندا إلى غرينلاند مرورا ببنما، يشكك دونالد ترامب في مبدأ سيادة الدول الذي دافعت عنه واشنطن حتى الآن، ويشجع بذلك على معاودة ظهور مناطق النفوذ، معززا خطر تقسيم جديد للعالم بين القوى الكبرى، بحسب محللين.
فمن روسيا التي تغزو أوكرانيا، إلى الصين التي تريد السيطرة على تايوان، وصولا إلى الولايات المتحدة التي باتت تنتهج موقفا مماثلا عبر نيتها جعل كندا “الولاية الأميركية الحادية والخمسين”، أو “ضم” غرينلاند، أو التصدي للمصالح الصينية في قناة بنما.
الأربعاء، اقترح وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث إنشاء قاعدة أميركية لضمان أمن قناة بنما، بعد حوالي 35 عاما من الهجوم الأميركي للإطاحة بالدكتاتور مانويل نورييغا، الذي شكل رمزا للوضع في أميركا اللاتينية التي كانت تعتبر آنذاك بمثابة الحديقة الخلفية لواشنطن.
وأعلنت بنما موافقتها على تأمين مواقع تنتشر فيها القوات الأميركية، ولكن ليس قواعد في حد ذاتها.
وقال البروفسور غريغوري هال من جامعة كنتاكي لوكالة فرانس برس إن “إدارة ترامب الجديدة توافق إلى حد بعيد على حصول القوى الكبرى على مناطق نفوذ”.
بدوره، أورد الدبلوماسي الهندي جواد شريف، المستشار السابق لرئيس الوزراء ناريندرا مودي، “عبر التحدث علنا عن غرينلاند وكندا وقناة بنما، والازدراء بمبادئ القانون الدولي، وقبول التبرير الروسي لغزو أوكرانيا، يبدو أن الإدارة الأميركية الجديدة تسرّع من الانزلاق” نحو تعزيز مناطق النفوذ.
فمنذ نهاية الحرب الباردة، طرحت الولايات المتحدة نفسها كضامن للنظام الدولي مستندة إلى “مبادئ المساواة بين سيادة الدول ووحدة أراضيها،” بحسب قول الباحث الأميركي جيفري مانكوف من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية ومؤلف كتاب “إمبراطوريات أوراسيا: كيف يشكل الإرث الامبريالي الأمن الدولي”.
هذه المبادئ تتنافى مع المصالح الإستراتيجية كما تراها روسيا والصين. وذكّر الباحث بأن الدولتين “نشأتا من إمبراطوريتين وتتصرفان على هذا النحو في جوانب عدة” وترغبان في اعتماد هذا النهج في محيطهما لأسباب تتصل بالهيبة والحماية وإظهار القوة.
والواقع أن مناطق النفوذ لم تختف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن الولايات المتحدة كانت تستغل هذه المبادئ لدحض الطموحات الإمبريالية لحساب مصالحها الخاصة. وأوضح جواد شريف “أنهم سعوا إلى توسيع منطقة نفوذهم نحو الشرق، في ما كان يعرف سابقا بدائرة النفوذ السوفياتية ثم الروسية”.
لكن الصورة تبدلت الآن. إذ باتت الولايات المتحدة تساهم في تقويض هذا النظام انطلاقا من اعتبارها أن الحفاظ عليه بات أكثر كلفة، في ظل رفض خصومها له وانتقاده من بقية أنحاء العالم.
ولاحظ مانكوف أن كل ذلك “يوفر فرصا لتبني السلوك الإمبريالي مرة جديدة”. ومن شأن هذا التطور أن يفسح المجال أمام تقاسم للعالم شبيه بما قرره الأميركيون والسوفيات في مؤتمر يالطا العام 1945.
وتستطيع واشنطن وبكين وموسكو التفاهم على هذا المفهوم الجديد الذي قد ينطوي على تقاسم لمناطق النفوذ على حساب بلدان أخرى.
ورأى ديريك غروسمان من مركز “راند” الأميركي للأبحاث في مارس أن “تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا والصين بات وشيكا”.
وكتبت مونيكا توفت، أستاذة العلاقات الدولية في جامعة تافتس (ماساشوستس) في مجلة “فورن أفيرز”، أن “القوى الكبرى الراهنة تسعى إلى التفاوض في ما بينها على نظام عالمي جديد”.
وتوقعت تبني “سيناريو تتفق فيه الولايات المتحدة والصين وروسيا على مصلحة حيوية تقضي بتجنب حرب نووية واعتراف كل منها بمنطقة نفوذ الأخرى، بحيث تكون آلية” لتنظيم العلاقات.
وفي هذا السياق، لفتت إلى أن “المفاوضات الهادفة إلى إنهاء حرب أوكرانيا يمكن أن تكون شبيهة بيالطا جديدة”.
لكن من شأن هذه الفرضية أن تثير غضب الأوكرانيين والأوروبيين، وخصوصا إذا رأت الولايات المتحدة، الداعم الحيوي لكييف، أن أوكرانيا باتت جزءا من دائرة النفوذ الروسية.
ورأى مانكوف أن ما ستفضي إليه حرب أوكرانيا سيكون عاملا حاسما. وقال إن “نجاح أوكرانيا أو إخفاقها في الدفاع عن سيادتها سيكون له أثر كبير على الشكل الذي سيتخذه النظام العالمي في الجيل المقبل. ومن المهم تاليا أن تتلقى مساعدة من الدول التي لديها القدرة أو النية للحفاظ على صيغة للنظام الدولي تناهض الإمبريالية”.
وأكدت ريم ممتاز الباحثة في معهد كارنيغي للسلام أن “الأوروبيين يحتاجون في عالم ترامب إلى منطقة نفوذهم الخاصة.” وأضافت أنه رغم كونها قوى إمبريالية سابقة، “تبدو الدول الأوروبية اليوم في حالة تراجع، في حين تعود دوائر النفوذ في القرن التاسع عشر كمبدأ منظم للقضايا العالمية”.