الرئيسية / أخبار / تركيا وسياسة أنثى العنكبوت الأسود في سوريا

تركيا وسياسة أنثى العنكبوت الأسود في سوريا

الطبيعة تلهم ناسها، فتلك حقيقة خبرتْها مختلف الآداب والعلوم منذ تكوين البشرية. أما أن تورّث الطبيعة سياستها في الحياة، فتلك رؤى ميتافيزيقية ليس لحقيقتها خلاص من جدل المفكرين، لكنهم اتفقوا على أن المجتمعات أبناء بيئاتها.

وسواء اختلفنا أو اتفقنا على أن تركيا الراعية الأولى لتكوين سياسة سوريا ما بعد الأسد، فتلك حقيقة ساطعة لا تحجب بغربال تفسير هذه الرعاية. فمنهم مَن يذهب إلى أنها تتريكٌ محدّثٌ للدولة السورية، توارب استعادة الهيمنة بصورة الإمبراطورية العثمانية التاريخية.

ويصعب نكران أن تركيا ما بعد أتاتورك، لاهثة وراء أحلامها الإمبراطورية السالفة. لذلك سعت بتنظيم قواها السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية للقبض على أطياف هذا الحلم، وتعد العدة لذلك.

استلهمت تركيا -في بناء قواها الذاتية في ظل حزب العدالة والتنمية- سياسة أنثى العنكبوت الأسود. وتنسب هذه السياسة إلى إستراتيجية ما يسمى سلوك الأرملة السوداء، وهي نوع من العناكب السامة للغاية، تعتمد في بناء مملكتها على أكل شريكها بعد الإنجاب.

وتلتقي هذه الطريقة مع مقولة جاك دانتون: “الثورة تأكل أبناءها” في التخلص من رفاق الدرب، تجسيدا لمنطق السلطة الميكيافلية: “الغاية تبرر الوسيلة.” لكنها تختلف عنها بأنها لا تتبع سياسة الانفراد الفردي أي التمسك بالسلطة لصالح زعيم فردي، يرى في نفسه قائداً ملهماً، يؤدي به إلهامه إلى دكتاتورية مطلقة، مستبدة بقوة نفوذ قائدها. إنما تتبع سياسة أنثى العنكبوت الأسود مبدأ الانفراد المتفرّد الذي يبرر التخلص من القيادات الفردية لصالح القيادات المتفرّدة. وترى أنّ ذلك التخلص حقّ للقائد الذي يملك مواهب متفردة مبدعة في سياسة بناء الدولة والانتقال بها إلى مراحل متطورة، وهذا هو الفرق بين التفرد والانفراد في السياسة الذي يحققه منهج أنثى العنكبوت الأسود في قتل شريكها بهدف التفرغ لبناء مملكتها، لا للتمتع بفردية سلطتها المطلقة.

ربما تكون هذه الحجج لتسوغ التخلص من الشركاء واهية، وأن الشعرة الفاصلة بينها وبين الدكتاتورية وهمية. غير أن ما يحسب للثانية أنها تقدّم تطوراً ملموساً في بناء قوة الدولة.

ويعدّ أردوغان أبرع من جسّد سياسة أنثى العنكبوت الأسود، سواء في سياسته الداخلية بالتفرد بالحكم قصدَ بناء قوة ذاتية لدولته مؤثرة إقليميا وعالميا، أو في سياسته الخارجية بفرض وجود تركيا بوصفها لاعبا إستراتيجيّا في السياسة الدولية.

قد يكون عرض صور سياسة أردوغان -التي تمثّل طريقة أنثى العنكبوت الأسود في قيادة حزب العدالة والتنمية- سياقا تفصيليا لتأكيد المؤكد. غير أنّ مثل هذا العرض يستوحي البراهين على حقيقة تلك السياسة في الممارسة.

بدأ تحطيم الإمبراطورية العثمانية المريضة بدعم أوروبي على يد مصطفى أتاتورك الذي استولى على الحكم (من 1931 إلى 1938)، وفرض النهج العلماني على أنقاض النهج الإسلامي في حكم تركيا. وتتابع على حكم تركيا خمسة عشر حاكماً جميعهم اتخذ العلمانية منهجاً شاملاً في الحكم، إلى أن أصيبت العلمانية في مقتل بعد أحمد نجدت سيزر (من 2000 إلى 2007). وكان حزب العدالة والتنمية قد تمكن من الوصول إلى الحكم بقوة انتخابية، تولّدت من شعبوية دينية.

تأسس حزب العدالة والتنمية يوم 14 أغسطس – آب 2001 على يد مجموعة من نواب منشقين عن حزب الفضيلة الإسلامي، بعد أن حُلّ بقرار من المحكمة الدستورية التركية في 22 يونيو – حزيران 2001، وكان يطلق عليهم جناح المجددين في حزب الفضيلة. وبلغ عدد أعضائه المؤسسين 63 شخصًا برئاسة رجب طيب أردوغان، الذي انتُخب أول زعيم للحزب.

حقق حزب العدالة والتنمية خلال مسيرته في الحكم أداء سياسيا رفيعا، لقي تقديرا عالميا. فتبنى سياسة صفر مشكلات إقليميا ودوليا. وأنجز نموا اقتصاديا هائلا بلغ معدل 9 في المئة، إضافة إلى بناء قوة صناعية مدنية وعسكرية طامحة.

بدأ حكم الحزب مع عبدالله غل (2007 – 2014)، وإن كان الحاكم الفعلي أردوغان، الذي نحّاه بطريقة غير مباشرة ليستلم الحكم بداية كرئيس وزراء، ثم حوّل النظام إلى رئاسي، فاستمر في حكم تركيا منذ 2014 حتى اليوم.

عمل أردوغان خلال فترة حكمه على إخراج قادة الحزب وكبار شركائه في بناء إستراتيجيته، مثل عبدالله غل وأحمد داوود أوغلو وبن علي يلدرم. وكان أقسى انقلاب قام به أردوغان على أستاذه الصوفي فتح الله غولن، بعد أن اتهمه بتدبير انقلاب فاشل عليه في 15 يوليو – تموز 2016.

أما ممارسة سياسة أنثى العنكبوت الأسود خارجيًا، فتجلت بتأييد الثورة السورية عام 2011 ومعاداة بشار الأسد، صديقه السابق. وفي أتون الثورة السورية قام أردوغان بسلسلة تحولات خطيرة في سياسته الخارجية، فتصادم مع روسيا في سوريا وكاد يشعل فتيل حرب معها إثر إسقاط طائرة روسية عام 2015. لكنه وطّد لاحقًا علاقته مع روسيا وإيران لمواجهة سياسات الاتحاد الأوروبي وأميركا.

في عام 2024 تمكنت تركيا بدعم المعارضة السورية من الإطاحة بنظام بشار الأسد، بإسناد من حليفها القطري. وتعمل تركيا حاليًا على بناء دولة سورية جديدة بقيادة جهاديين لا يحظون بتأييد إقليمي أو دولي، وسط تحديات كبيرة من حلفاء النظام السابق وإسرائيل، التي تسعى لتقويض الدولة الجديدة.

يبدو أن تركيا لن تستسلم بسهولة لتحديات دعم بناء دولة جديدة، تنتهج نهجها في سياسة أنثى العنكبوت السوداء.