لن تستريح المنطقة كلها إلّا إذا عادت إيران دولة طبيعية بمعنى الدولة التي تهتمّ بشؤون شعبها بعيدا عن شعار “تصدير الثورة”. شيئا فشيئا، تقترب “الجمهوريّة الإسلاميّة” من يوم الاستحقاق الكبير. كان وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو واضحا إلى أبعد الحدود عندما اعتبر، قبل أيّام، أن البديل من اتفاق مع إيران، أي اتفاق أميركي معها، يتمثّل في حصول مواجهة “حتميّة”. ستكون هذه المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران. ستنضم إليها، على الأرجح، إسرائيل. كذلك، يحتمل انضمام دول غربيّة أخرى. يعود ذلك إلى أن المسؤولين الإيرانيين يتوعدون، في حال حصول تحرّك عسكري أميركي أو إسرائيلي، بمهاجمة قواعد أميركية وغير أميركية في المنطقة مثل دييغو غارسيا أو منشآت حيوية في دول خليجيّة مرتبطة باتفاقات دفاعية مع دول غربية، مثل فرنسا على سبيل المثال وليس الحصر.
من الآن، يمكن تصوّر نتيجة هذه المواجهة التي لن تكون أفضل من تلك التي خاضها “حزب الله” في لبنان مع إسرائيل بحجّة “إسناد غزّة”. ليست حال الحزب، الذي هو لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، سوى صورة مصغرة عن الحال الإيرانيّة… بل قد يكون الوضع الذي كان عليه الحزب، قبل هزيمته، أفضل من ذلك القائم في إيران في أيّامنا هذه.
لماذا على إيران العودة إلى وضع الدولة الطبيعية التي لم يعمل النظام فيها، منذ قيامه في العام 1979، سوى ممارسة لعبة الابتزاز؟ يعود ذلك، قبل أي شيء آخر إلى أن المنطقة تغيّرت منذ يوم السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023. منطقة ما قبل “طوفان الأقصى” ليست مثل منطقة ما بعد الهجوم الذي شنته “حماس” على مستوطنات غزّة يومذاك. الأمر لا يقتصر على المنطقة فحسب، بل يشمل العالم ودولا على رأسها الولايات المتحدة أيضا. بكلام أوضح، عندما تتجرّأ “حماس” على إسرائيل، بالطريقة التي تجرّأت بها، لا يعود مستبعدا مهاجمة إيران لإسرائيل في حال امتلاكها السلاح النووي يوما. من هذا المنطلق يبدو أنّ على “الجمهوريّة الإسلاميّة” التخلي نهائيا عن فكرة صنع القنبلة النووية بغض النظر عن التصريحات المتناقضة للمسؤولين فيها في هذا المجال.
راهنت إيران على “طوفان الأقصى”. لكنّ رهانها ارتدّ عليها. هذا كل ما في الأمر. لم يعد في العالم من يأمن جانب “الجمهوريّة الإسلاميّة” بأي شكل. هذا ما يفسّر ما حلّ بغزّة وما حل بـ“حزب الله” وما حلّ ببشار الأسد ونظامه العلوي وما سيحلّ بالحوثيين في المستقبل القريب. كذلك، ما يواجهه “الحشد الشعبي” في العراق. لم يتجرّأ “الحشد”، الذي هو مجموعة ميليشيات عراقيّة تابعة لـ“الحرس الثوري”، على إحراق العلم الأميركي أو دوسه، كما كان يفعل كلّ سنة في “يوم القدس” الذي أعلنه مؤسس “الجمهورية الإسلاميّة” آية الله الخميني، الذي يصادف يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان. أكثر من ذلك، تظاهرت حكومة محمّد شياع السوداني في العراق بعدم سماعها بأنّ هناك رغبة أميركيّة في الانتهاء من “الحشد الشعبي” الذي يشكّل قوة ضغط إيرانيّة في العراق.
شنّت إيران سلسلة من الحروب على هامش “طوفان الأقصى” معتقدة أنّها تمتلك مفتاح السلم والحرب في المنطقة. خسرت رهانها الذي كان يستهدف الحصول على اعتراف أميركي بأنّها القوة المهيمنة على الصعيد الإقليمي. بدل الحصول على الاعتراف الأميركي، سيكون على طهران التعاطي مع الواقع الذي عرفت دائما الهرب منه عن طريق الأذرع التي كانت تمتلكها في المنطقة. الأكيد أنّ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لم تكن خبرا سارا لها، خصوصا في ظلّ النفوذ الذي يمتلكه بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض. لن تفاوض أميركا إيران على دورها في المنطقة. ستفاوضها على ما إذا كان في استطاعتها العودة إلى وضع الدولة الطبيعية أم لا بدءا بالتخلي عن برنامجها النووي وصواريخها الباليستية وأذرعها المتمثلة في ميليشياتها المذهبيّة.
سيكون صعبا على إيران الهرب من التفاوض مع الأميركيين، أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. أصعب ما في الأمر أن الموضوع المطروح سيتناول ما هو أبعد من الملفّ النووي. سيتناول مستقبل النظام الإيراني الذي فشل على كلّ الصعد، بما في ذلك حماية رئيس الجمهورية السابق إبراهيم رئيسي الذي قتل مع مجموعة من مساعديه في حادث تحطّم طائرة هليكوبتر بعد زيارة للحدود مع أذربيجان. كان مقتل رئيسي، قبل نحو أحد عشر شهرا، نقطة تحوّل في مستوى اغتيال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” قبل ما يزيد على خمس سنوات بعيد خروجه من مطار بغداد.
أكّد اغتيال رئيسي أن “الجمهوريّة الإسلاميّة” مكشوفة. ليس هناك، إلى الآن، تحقيق جدّي يظهر حقيقة ما جرى ولماذا سقطت طائرة الرئيس الإيراني وظروف تحطّمها. يحدث ذلك في وقت يحتدم الصراع على السلطة بين أجنحة النظام مع تقدّم “المرشد الأعلى” علي خامنئي في السن.
كان في استطاعة إبراهيم رئيسي لعب دور مهمّ في مجال إدارة الصراع على السلطة في طهران. لا شكّ أن فقدانه سيزيد من حدة هذا الصراع في مرحلة تعيش فيها “الجمهوريّة الإسلاميّة” في ظلّ أزمة مركّبة ذات وجوه عدّة. من أبرز هذه الوجوه تدهور الاقتصاد والجفاف الذي يضرب البلاد والفقر وغياب القدرة على تقديم أي حلول لتجاوز العقوبات المفروضة على بلد يعاني من عزلة دولية تعبّر عنها علاقاته السيئة مع معظم جيرانه.
هل تستطيع إيران تقديم نفسها إلى دول المنطقة والعالم بغلاف جديد، غلاف الدولة الطبيعيّة التي تعرف حجمها وتعترف بفشلها؟ هذا هو السؤال الكبير. إنّه السؤال الذي يعني، بين ما يعنيه، أن مستقبل النظام على المحكّ. هذا السؤال هربت منه إيران طويلا إلى أن جاء “طوفان الأقصى” ونتائج ما قامت به “حماس” ليضعه في الواجهة أكثر من أي وقت.