عمر نجيب
خلال المئة يوم الأولى من العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا عرفت أو تدرجت الآلة الإعلامية الغربية الأكثر هيمنة من غيرها على الساحة الدولية، بين ثلاث خطابات تراوحت بين التعثر والعجز العسكري الروسي وبسالة المقاومة الأوكرانية ونجاعة وفعالية العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، وفرص كييف في كسب نصر عسكري مدوي يقلب كل موازين القوى إن لم يكن في العالم فعلى الساحة الأوروبية على الأقل مع احتمال سقوط نظام الحكم القائم في موسكو، ثم جاء دور التركيز على تكلفة الحرب البشرية والمادية التي تتحملها أوكرانيا وإلى متى يمكنها الاستمرار في الصمود. بين كل هذه الخطابات الثلاث استخدمت على نطاق واسع شعارات ضرورة حماية المدنيين والمدارس والمستشفيات والاتهامات بارتكاب جرائم حرب.
وفي الأيام العشر الأخيرة من مجلد حرب المئة الأولى، تركزت الدعاية الغربية بشكل مكثف على المعطى القائل أن الأسلحة الجديدة التي تزود بها أوكرانيا من ترسانة واشنطن ولندن خاصة، من شأنها تغيير مسار الحرب لصالح كييف وهو ما اعتبر من جانب جزء من الملاحظين تخليا عن أطروحة الهزائم الكبيرة التي تلحق بالجيش الروسي.
على الجانب الآخر من المعادلة أي روسيا ظل الخطاب الإعلامي والسياسي شبه ثابت وقد وصفه غربيون بأنه غير موفق ولكن آخرين أكدوا أنه كان موضوعيا، حيث تم التركيز على أن هدف العملية العسكرية ليس السيطرة على كل أوكرانيا بل حماية سكان جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك اللتان اعلنتا استقلالهما عن أوكرانيا في 12 مايو 2014 ومنذ ذلك الحين والقوات التابعة لهما تخوض مواجهة مع الجيش الأوكراني، وركز الجانب الروسي كذلك في خطابه السياسي على تحميل كييف وداعميها الغربيين مسؤولية الحرب لأنها رفضت تطبيق اتفاقيات مينسك للسلام التي تمت برعاية أوروبية.. والنقطة الثانية كانت سعي موسكو للقضاء على القوى النازية التي سعت لتصفية الناطقين بالروسية، ومنع كييف من الانضمام إلى حلف الناتو ومحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب. على الصعيد العسكري يقر الملاحظون حتى الغربيين منهم أن وسائل الإعلام الروسية خلت تقريبا من الدعاية “البروباغندا” حول البطولات الأسطورية لقواتها أو ما شابه “البروباغندا” الاوكرانية الغربية الخاصة مثلا بما سمي “شبح كييف” الطيار الذي أسقط منفردا عشرات الطائرات الروسية وتبين لاحقا أن لا وجود له.
على صعيد التعامل مع العقوبات الغربية كانت موسكو في البداية متحفظة في إبراز تأثيرها، ثم انتقلت لإظهار تعثرها أو فشلها خاصة بعد أن رفضت غالبية دول العالم الأخذ بها وبعد أن امتنعت السعودية وغالبية دول الاوبك عن رفع إنتاج النفط لدفع الأسعار إلى الانخفاض أو لتمكين الدول الغربية من الاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية.
الحرب الإعلامية بين المعسكرين المتصارعين في وسط شرق أوروبا ومتابعتها مع ما ينعكس من تطورات ومعطيا ثابتة على الساحة يمكن أن تعطينا مؤشرات حول الفرضيات المستقبلية سواء عسكرية أو اقتصادية أو سياسيا.
التفاوض قبل ضياع الفرصة
يوم السبت 4 يونيو 2022 دعا النائب السابق لقائد القوات الأمريكية في أوروبا ستيفن تويتي، إلى الاستئناف السريع للمفاوضات الروسية الأوكرانية. وقال تويتي: “كلما طال الصراع، سيصبح موقف أوكرانيا أضعف في المفاوضات المستقبلية. إذا لم يكن لديها ما تقدمه، فقد ينتهي بها الأمر بخسارة أكثر مما خططت له”.
وأشار إلى أن الجيش الروسي في أوكرانيا يتمتع “بقوة قتالية كبيرة”، والتي لا يمتلكها الجانب الأوكراني.
موقع الحرة التابع للحكومة الأمريكية نشر يوم الأحد 5 يونيو 2022 تقريرا عن تطورات الحرب جاء فيه: قالت هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية، إن القوات الروسية “تتقدم” في عدة مناطق شمال مدينة سلوفينسك بشرق أوكرانيا بعد أن “أكملت إعادة تجميع القوات”.
وذكر الجيش الأوكراني أن القوات الروسية تتقدم أيضا في اتجاه سفياتوهيرسك، “في محاولة لدفع قواتنا إلى الضفة اليمنى لنهر سيفرسكي دونيتس”، وفقا لقناة “سي إن إن”.
وتواصل القوات الروسية قصف مناطق شرق أوكرانيا.
وأكد الجيش الأوكراني أن الروس في المناطق المحيطة دونيتسك وزابوريزهيا “يطلقون النار على خط الدفاع الأمامي والمناطق الخلفية لقواتنا من أجل كبح جماح وحداتنا ومنع إعادة تجميعها”، وإن الوحدات الروسية “تركز على العمليات الهجومية لتطويق قواتنا” في سيفيرودونتسك وليسيتشانسك، و “إغلاق الطرق اللوجستية الرئيسية”.
كما ضرب وابل من الصواريخ الروسية العاصمة الأوكرانية في وقت مبكر صباح الأحد، الهجوم أنهى الشعور بالهدوء في كييف التي لم تشهد ضربات مماثلة منذ أسابيع.
إيغور كوناشينكوف، المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية ذكر إن “الصواريخ عالية الدقة بعيدة المدى التي أطلقتها القوات الجوية الروسية على مشارف كييف دمرت دبابات تي -72 التي قدمتها دول أوروبا الشرقية وعربات مدرعة أخرى كانت في حظائر الطائرات”.
وهدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأحد، بأن موسكو ستضرب أهدافا جديدة في حال سلّم الغرب صواريخ بعيدة المدى إلى أوكرانيا، مشيرا إلى أن تسليم الأسلحة إلى كييف يهدف إلى “إطالة النزاع”.
ونقلت وكالات إخبارية روسية عن بوتين قوله إنه في حال تم تسليم صواريخ إلى أوكرانيا “فسنستخلص النتائج المناسبة ونستخدم أسلحتنا.. لضرب مواقع لم نستهدفها حتى الآن”.
أشد فتكا من حربي العراق وأفغانستان
يوم الأحد 5 يونيو كذلك نشر في واشنطن تقرير جاء فيه: تظهر شواهد القبور في أوكرانيا زيادة في أعداد الجنود والقادة العسكريين الذين يقتلون في المعارك في مدن مختلفة، رغم أن السلطات لم تكشف أعداد القتلى العسكريين منذ بداية الحرب قبل 100 يوم.
وذكر الرئيس الأوكراني، زيلينسكي في تصريحات مؤخرا إن “أوكرانيا تخسر ما بين 60 إلى 100 جندي يوميا في المعارك ويجرح لها ما يصل إلى 500 آخرين على الجبهة الشرقية. وبهذا المعدل، ستخسر أوكرانيا في حوالي شهرين ونصف، جنود بمعدل القوات التي خسرتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان على مدى 20 عاما.
ويؤكد تقرير لأسوشيتد برس أنه لا أحد يعرف حقا عدد المدنيين أو العسكريين الأوكرانيين الذين لقوا حتفهم، ومن الصعوبة التحقق من مزاعم المسؤوليين الحكوميين عن الضحايا الذين يبالغون أحيانا أو يخفضون الأرقام لأسباب مختلفة.
الجنرال فيكتور موزينكو، الذي كان رئيسا للقوات المسلحة الأوكرانية حتى عام 2019، قال لوكالة أسوشيدبرس إن “الخسائر تتفاقم.. هذه واحدة من اللحظات الحاسمة في الحرب، لكنها لم تصل لذروتها”.
وأشار إلى أن هذه الحرب “الأكثر أهمية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما يفسر سبب الخسائر الكبيرة للغاية. ومن أجل تقليل هذه الخسائر، تحتاج أوكرانيا إلى أسلحة قوية تضاهي الأسلحة الروسية وتتفوق عليها، حتى تتمكن كييف من الرد”.
الجنرال المتقاعد القائد العام السابق لقوات الجيش الأمريكي في أوروبا، بن هودغز وصف الإستراتيجية الروسية بأنها “نهج استنزاف من القرون الوسطى”.
وقال للوكالة إن “ساحة المعارك في أوكرانيا أكثر فتكا بكثير مما اعتدنا عليه خلال العقدين الماضيين في العراق وأفغانستان” حيث لم يكن لدينا خسائر بشرية مثل ما يحصل في الحرب الأوكرانية.
وأشار هودغز إلى أن “هذا المستوى من الاستنزاف يشمل القادة العسكريين والجنود.. لأنهم عرضة أكثر للخطر ويتنقلون باستمرار أثناء محاولتهم لفعل أي شيء”.
كان لدى أوكرانيا حوالي 250 ألف رجل وامرأة يرتدون الزي العسكري قبل بداية الحرب، وكانت لديهم خطط لتجنيد 100 ألف عسكري إضافي.
مارك كانسيان، مستشار في مركز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن، وهو عسكري متقاعد، قال “إن المشكلة تكمن في التجنيد والتدريب، ووضعهم في الخطوط الأمامية”.
في الأيام الأخيرة، زادت مساحة الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها القوات الروسية بشكل تدريجي ووصلت يوم 2 يونيو إلى حوالي 20 بالمئة من المساحة الكلية للبلاد، نحو 125 ألف كيلومترا مربعا وفقا لزيلينسكي.
حرب واحدة
مايكل كوفمان، مدير الدراسات الروسية في معهد أبحاث “سي أن إيه” في أرلينغتون بولاية فيرجينيا قال، “في بعض النواحي، هي حرب واحدة ولكنها حملتان مختلفان”.
يشرح قائلا: “الأولى تتمثل فيما إذا كانت أوكرانيا ستبقى دولة مستقلة أم لا ؟. أما الثانية تتعلق بالأرض التي ستسيطر عليها الدولة الأوكرانية المستقلة في نهاية المطاف وهذا لا يزال محل صراع كبير”.
وشهدت الحرب عددا قليلا نسبيا من اشتباكات المشاة المباشرة أو معارك الدبابات. بدلا من ذلك، تركز روسيا قوتها المدفعية الساحقة على مناطق صغيرة نسبيا لشق طريقها إلى الأمام في طريق الدمار الهائل.
مدير مشروع التهديدات الحرجة في معهد “أميركان إنتربرايز”، فريدريك كاجان ذكر، “لقد تبنوا هذه الطريقة وهي إحدى تكتيكات الحرب العالمية الأولى بشكل أساسي، بحيث تستخدم فيها المدفعية لمحو كل شيء أمامهم ثم الزحف فوق الأنقاض”.
ولفت إلى أن مواجهة مثل هذا القصف المدفعي أمر مخيف ومدمر للجنود الأوكرانيين.
وذكر كاجان إن الخسائر التي تكبدتها القوات الأوكرانية مروعة، لكنها لن تجبر بالضرورة كييف على الاستسلام أو “خسارة” الحرب الأوسع.
وأشار إلى أنه، حتى لو سيطرت روسيا على كل منطقة دونباس، وهو الأمر الذي سيكون صعبا بسبب دفاعات أوكرانيا، فلا يزال لدى الأوكرانيين قوات يمكنها شن هجوم مضاد واستعادة الأراضي في مكان آخر.
نقطة تحول
ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية يوم 31 مايو 2022 إن التقدم الروسي في شرق أوكرانيا يمثل “نقطة تحول” مما يجعل هناك اختلافات واضحة في نهج التعامل مع الصراع.
واتسم التقدم الروسي بنفس القسوة التي كانت عليها الهجمات السابقة. وأفاد المراقبون بتكتيكات مماثلة لتلك التي تم تطبيقها في السيطرة على مدينة ماريوبول الساحلية، مع أيام وليال لا نهاية لها من نيران المدفعية والقصف الصاروخي الذي يسحق كل شيء.
والاثنين 30 مايو، دخلت القوات الروسية ضواحي سيفيرودونتسك إحدى آخر المدن ذات الأهمية الإستراتيجية بمنطقة لوهانسك التي لا تزال تحت السيطرة الأوكرانية.
وإذا سقطت المدينة، فسوف تمنح روسيا والقوات التي تعمل بالوكالة للكرملين سلطة الأمر الواقع على نصف منطقة دونباس التي تسعى موسكو للسيطرة عليها.
يأتي ذلك في الوقت الذي قال فيه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن إخراج الجيش الأوكراني من دونيتسك ولوهانسك يمثل أولوية بالنسبة لموسكو.
وذكرت الصحيفة إن موسكو تقترب شيئا فشيئا من تطويق أكبر معاقل أوكرانيا في منطقة دونباس، بينما تقاتل على الأراضي المتاخمة لروسيا بخطوط إمداد أسهل”.
يحتفظ السياسيون في كييف والعديد من مؤيديهم الغربيين بوجهة نظر متطرفة حول كيفية إنهاء الصراع من استسلام روسيا وعودة كل شبر من الأراضي الواقعة تحت سيطرة موسكو، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.
ويتعارض هذا الرأي للحرب مع المخاوف المتزايدة لخبراء السياسة الخارجية حول مخاطر إطالة أمد الحرب. ففي دافوس، دعا وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، إلى مفاوضات فورية وتقديم تنازلات إقليمية أوكرانية لتجنب المزيد من الأزمات وعدم الاستقرار العالمي.
في أوروبا، على الرغم من الكثير من الوحدة، لا تزال هناك اختلافات واضحة في نهج التعامل مع الصراع. على سبيل المثال، حثت فرنسا وألمانيا مؤخرا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على الدخول في محادثات مباشرة مع نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بشأن إنهاء الحصار المفروض على البحر الأسود والذي كان مدمرا للغاية للاقتصاد العالمي.
في إحدى لجان المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس، اقترح محلل السياسة الخارجية الأمريكي، غراهام تي أليسون، أن تجميد الصراع – مع تسوية الحدود المتنازع عليها وفقا لما هي عليه حاليا – سيكون النتيجة المثالية لتجنب خطر نشر بوتين أسلحة نووية تكتيكية.
وقال أليسون: “إما أن تكون هناك حقائق على الأرض يمكن لبوتين أن يتعايش معها أو أنه سيصعد مستوى الدمار”.
هل يبقى الغرب موحدا
منتصف شهر مايو 2022 سجل تباعد متزايد في المواقف الغربية الداعمة لأوكرانيا بين الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين حددتا هدفا استراتيجيا يقضي بإضعاف روسيا، ودول أوروبا الغربية التي تتخوف من عواقب محتملة لمثل هذا الأمر، والتي أخذت تعاني اقتصاديا وبشكل خطير وتعترف أن الحصار الذي فرضه الغرب على روسيا الحق بها خسائر أعظم. كما أخذ مزيد من قادة أوروبا يحذرون من أن واشنطن تدفعهم إلى ركوب أخطار كبيرة بينما تحاول النجاة بنفسها.
وبعيدا من التصريحات، تقدم الولايات المتحدة وبريطانيا إمدادات من الأسلحة لأوكرانيا تفوق بكثير ما تقدمه إليها فرنسا وألمانيا على سبيل المثال.
جاء في تقرير نشره موقع الاقتصادية يوم 3 يونيو 2022: لأول مرة منذ بداية العقوبات الأوروبية ضد روسيا، واجهت الدول الأعضاء في الاتحاد صعوبة بالغة في الاتفاق حول الحزمة الأخيرة التي ولدت هذا الأسبوع بعد عملية قيصرية استغرقت أكثر من شهر، وكشفت عمق التباين بين الشركاء عندما تمس هذه العقوبات مفاصل الإمدادات الحيوية للاقتصاد الأوروبي، الذي بدأت تظهر عليه بوادر الوهن والتراجع منذ أسابيع.
ولأول مرة أيضا، ترصد المؤسسات الأوروبية اتساع دائرة الاستياء بين الأوساط الاقتصادية والاجتماعية من تداعيات هذه العقوبات التي تدفع إلى ارتفاع نسبة التضخم إلى مستويات قياسية لم تشهدها منطقة اليورو منذ تأسيسها.
يقوم المبدأ الأساسي الذي استندت إليه العقوبات الأوروبية منذ بداية الحرب على إلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بالاقتصاد الروسي، والحد قدر الإمكان من الأضرار على الاقتصاديات الأوروبية، التي يمكن أن تنشأ عنها. لكن الحزمة الأخيرة، التي من المفترض أن تضرب “الشريان الأبهر” لتدفق العملة الصعبة إلى الاقتصاد الروسي، مرشحة لتعقيدات كثيرة في مراحل تنفيذها التدريجية لقطع إمدادات الطاقة الروسية إلى بلدان الاتحاد التي تعتمد عليها بنسبة عالية، فضلا عن أن تشعباتها السياسية مشفوعة بالتذمر المتزايد من الاستمرار بتزويد أوكرانيا بالأسلحة، وإطالة أمد الحرب التي لا يلوح في الأفق القريب بصيص أمل في نهايتها.
اعترفت المفوضية الأوروبية، مطالع شهر يونيو، عندما كانت الحزمة السادسة ما زالت مجرد أفكار مطروحة، بأن حظر النفط الروسي لن يكون سهلا بالنسبة لكثير من الدول الأعضاء، وأنه سيؤدي إلى تراجع إجمالي الإنتاج القومي وارتفاع الأسعار بنسبة لا تقل عن 8 في المائة. يضاف إلى ذلك أن المشهد الاقتصادي يتلبد بمزيد من الغيوم بعد إعلان البنك المركزي الأوروبي عزمه رفع أسعار الفائدة قريبا.
لكن إذا كانت تقديرات المفوضية تشير إلى أن الاقتصاديات الأوروبية قادرة على استيعاب قرار الحظر الجزئي والتدريجي للنفط الروسي من غير أن تواجه خطر الانكماش، فإن السيناريو الذي تخشاه العواصم الأوروبية الكبرى هو أن ترد موسكو بقطع إمدادات الغاز الذي من شأنه أن يدفع اقتصاديات منطقة اليورو نحو منحدر انكماشي وخيم العواقب.
وكانت المفوضية أشارت في تقرير وضعته منذ أسبوعين إلى أنه في حال قطع الغاز الروسي عن بلدان الاتحاد، سيدخل الاقتصاد الأوروبي في مرحلة من الركود هذا العام، وقد لا ينمو أكثر من 1 في المائة، في أحسن الأحوال، خلال السنة المقبلة.
ويرى بعض الخبراء أنه في حال تعويض إمدادات الغاز الروسي من مصادر أخرى، لن تتمكن الاقتصاديات الأوروبية من كبح جموح التضخم، لأن ارتفاع الأسعار، الذي بدأ المستهلكون يعانون منه، يشمل بشكل أساسي جميع المنتوجات والخدمات الأساسية التي يصعب الاستغناء عنها. يضاف إلى ذلك أن أرباح الشركات سوف تتراجع أكثر من المتوقع، وفي حال طال الحظر ستكون التداعيات كارثية على سوق العمل ونسبة البطالة.
لكن القلق الأوروبي لا يقتصر على التداعيات الاقتصادية الناشئة عن العقوبات ضد روسيا فحسب، بل يتعداه إلى الارتدادات الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تعيد المشهد الأوروبي إلى حال من التوتر أخطر من تلك التي عقبت أزمة العام 2008 والسنوات التي تلتها. فالحرب الروسية في أوكرانيا أضعفت خلال مراحلها الأولى الأحزاب والقوى الشعبوية واليمينية المتطرفة، لكن الاستطلاعات في الأسابيع الأخيرة تشير إلى أن هذه الأحزاب بدأت تستعيد شعبيتها المفقودة ممتطية صهوة الاحتجاجات المتزايدة ضد تزويد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة وإطالة أمد الحرب وتدفق اللاجئين وارتفاع معدلات التضخم.
وكانت بعض أجهزة الاستخبارات الأوروبية قد نبهت مؤخرا من أن بعض القوى والأحزاب اليمينية تستعد لحملات احتجاجية واسعة في الأسابيع المقبلة ضد السياسة والمواقف الأوروبية المشتركة من الحرب، والمطالبة بوقف تزويد أوكرانيا بالأسلحة ورفع العقوبات عن روسيا تمهيدا للتفاوض معها.
تحول في كييف
من الممكن أيضا أن يختلف الغرب حول مستقبل أوكرانيا على المدى الطويل. فماذا سيحدث إذا كانت هناك انقسامات داخل أوكرانيا؟ وماذا لو ظهرت فصائل مختلفة، مثل القوميين الذين يريدون مواصلة القتال، والذين يفضلون التسوية ويريدون التوصل إلى اتفاق؟ هل سيتعين على الغرب حينها أن ينحاز إلى أي طرف؟.
وإلى أي مدى يمكن أن تكون الانقسامات مريرة داخل أوكرانيا؟ حتى أن بعض المحللين تكهنوا بوجود احتمال اندلاع حرب أهلية، وعقدوا مقارنات مع الانقسامات داخل إيرلندا في عام 1922.
أو ماذا لو بدأت أوكرانيا باتخاذ خيارات سياسية قد يعارضها الغرب؟.
أشارت فيونا هيل، الخبيرة بشؤون روسيا والمسؤولة السابقة في مجلس الأمن القومي الأمريكي، إلى أن أوكرانيا قد يصل بها الأمر إلى السعي لامتلاك سلاح نووي لضمان أمنها في المستقبل.
وفي ندوة عقدت في مركز أبحاث” تغيير أوروبا” قالت “كلما استمر بوتين بالتهديد بالأسلحة النووية … زاد الضغط على دول مثل أوكرانيا للاعتقاد بأن الطريقة الحقيقية الوحيدة للدفاع عن نفسها هي الإسراع بالحصول على سلاح نووي”.
النقطة المهمة هنا هي أن المواقف السياسية في النزاع نادرا ما تكون ثابتة، وبالتالي قد يكون من الخطأ افتراض أن الوحدة الغربية ستستمر تلقائيا خلال التحديات المقبلة.
انكشاف أوروبي أكبر
أقر الدبلوماسي السابق الإيطالي ماركو كارنيلوس، بأن “هناك انشقاقات” بين دول الشرق المعادية جدا لروسيا بالطبع لأسباب تاريخية، وأوروبيي الغرب الذين يدعمون أوكرانيا بوجه الاعتداء، غير أنهم أكثر اعتدالا من واشنطن ومعرضون أكثر منها بكثير لعواقب الحرب.
الكتلة الأوروبية التي تضم 27 دولة تعتمد على روسيا في تلبية 25 في المئة من نفطها و40 في المئة من غازها الطبيعي.
ولخص كارنيلوس الوضع بالقول، “السؤال المطروح هو أي ثمن يكون الأوروبيون مستعدين لدفعه لقاء تغيير محتمل للنظام في موسكو؟”، موضحا أنه بمعزل عن خطر تصعيد عسكري، فإن “الثمن الاقتصادي لتحقيق الهدف الأمريكي قد يكون باهظاً”.
وشرح أستاذ الاقتصاد الصناعي في المعهد الوطني للفنون والحرف سيباستيان جان، أنه “من وجهة النظر الاقتصادية، هناك عدم تناسب حقيقي” بين انكشاف الولايات المتحدة وبريطانيا على العواقب، وانكشاف الاتحاد الأوروبي وفي مقدمته ألمانيا.
كما أن البلبلة الناجمة عن الحرب تنعكس “بشكل أساسي على المواد الأولية الخام أو المصنعة، بما فيها المواد المهمة للصناعة” مثل البالاديوم والبوتاس والنيكل وغيرها ومصدرها الأساسي روسيا. أن “الصناعة الألمانية القوية جدا مستهلكة جدا للطاقة، ومعرضة للغاية للصدمة. والأمر لا ينطبق بالقدر ذاته على المملكة المتحدة مثلا، لأن صناعتها أقل قوة”، ولا على الولايات المتحدة التي هي أبعد جغرافيا ولديها قنوات إمداد أخرى، وفق أستاذ الاقتصاد.
وتابع جان، “هذا ما يجعل النظر إلى المسائل يختلف كثيراً” بين دول أوروبا الغربية الغنية، والأمريكيين والبريطانيين الذين تنضم إليهم دول أوروبا الشرقية.
والسؤال: هل تنقسم أوروبا مرة جديدة؟
كتب المؤرخ العسكري الأمريكي إدوارد لوتواك على “تويتر”، أن “الدعم الأوروبي الكلامي لأوكرانيا يخفي تباينات كبرى في الدعم المادي، تراوح من سخاء بولندا الكبير… إلى عمليات التسليم الألمانية البطيئة جدا والضعيفة جدا، مروراً بإيطاليا في الوسط”.
تغيير في مواقف
يوم 4 يونيو 2022 قال النائب في البوندستاغ الالماني بيوتر بايسرون، إن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر حول أوكرانيا ومنشورات الإعلام الأمريكية تشير إلى تغير في المواقف من الأزمة. وأوضح النائب أن تغيير الموقف بشأن أوكرانيا في الولايات المتحدة في وسائل الإعلام الأمريكية، ظهر مؤخرا بمقال في صحيفة نيويورك تايمز الذي أكد أن الصراع المسلح مع روسيا ليس في مصلحة الولايات المتحدة.
وتابع النائب الألماني قائلا: “بالطبع، لم يتحول هنري كيسنجر ولا كبار كتاب الأعمدة في صحيفة نيويورك تايمز فجأة إلى معجبين بفلاديمير بوتين.. لكن تحولهم بمقدار 180 درجة في آرائهم بخصوص الأزمة ربما يعني أن الولايات المتحدة قد حققت بالفعل ما أرادته أو تريد ايهام الآخرين بذلك، وبالتالي فهي غير مهتمة بمواصلة الصراع”.
وخلص النائب بيسترون إلى أن واشنطن لم تعد قادرة على التدخل في الوضع في أوكرانيا، لأن أراضيها “تنتمي إلى مجال نفوذ قوة عالمية أخرى”.
ملاحظون في أوروبا أشاروا إلى أن البيت الأبيض أخذ يشعر كذلك بخطر استفادة الصين من تورط واشنطن المتصاعد في الحرب الأوكرانية لتحقيق مكاسب في آسيا والمحيط الهادئ والعمل مع موسكو وأطراف أخرى لتدمير المركز العالمي للدولار الأمريكي.
قدرة موسكو على الصمود
رغم الحزمة السادسة من العقوبات التي تبنتها دول الاتحاد الأوروبي يوم 3 يونيو 2022، قال كريس ويفر مؤسس شركة ماكرو-أدفايزري الاستشارية ومراقب الاقتصاد الروسي، “إن موسكو في موقع مالي قوي يعزز قدرتها على الصمود الاقتصادي”.
وأفاد، بأن “قرار الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع بحظر أكثر من ثلثي واردات النفط الروسية لن يؤثر بالشكل الذي كان يأمله كثيرون، وبينما يبدأ تأثير العقوبات النفطية، ستكون روسيا قد نجحت في استنساخ سوق الاتحاد الأوروبي في مكان آخر، آسيا على وجه الخصوص”.
وأشار إلى أن العقوبات سددت ضربة إلى النظام المالي في مارس وأبريل، وذلك سيدفع إلى خفض الرواتب في الأشهر القليلة المقبلة، وستتراجع الأجور، وسيؤثر ذلك، إلى جانب التضخم، بشكل كبير في الدخل المتاح للأشخاص”.
لكنه حذر من أن أي إجراءات غربية أخرى ضد قطاع الطاقة الروسي قد تتسبب في ضرر خطير “إذا انتقلت العقوبات إلى قطاع أكثر تأثيرا هو الغاز”، وفقا لـ”الفرنسية”.
وتستهدف حزمة العقوبات النفط الروسي الذي يتم تصديره عبر البحر، وتستثني النفط الذي يتم نقله عبر خطوط الأنابيب.
ويستبعد هذا خط أنابيب “دروجبا العملاق” الذي يعود إلى الحقبة السوفياتية، الذي يربط روسيا بعديد من دول شرق ووسط أوروبا. وتم تخفيف حظر النفط الروسي بعد حشد قوي من جانب المجر ودول حبيسة أخرى ضد حظر شامل مقترح من الاتحاد الأوروبي على النفط الروسي.
وتتضمن حزمة العقوبات عزل “سبيربنك” أكبر بنك روسي من نظام سويفت للمعاملات المالية الدولية، وحظر ثلاث قنوات روسية رسمية وفرض عقوبات ضد أفراد مسؤولين عن حرب في أوكرانيا. ويتعين أن يتم نشر العقوبات الجديدة في الجريدة الرسمية للاتحاد الأوروبي لتدخل حيز التنفيذ.
سلاح ذو حدين..
يمثل الحظر الأوروبي للنفط الروسي أكبر عقوبة توقع على موسكو حتى الآن، ويأمل قادة الاتحاد الأوروبي أن يكون ضربة كبيرة للكرملين، ولكن هناك مخاوف من تضرر أوروبا نفسها من القرار وأن يكون تأثيره محدودا على روسيا في المقابل.
فخبراء الصناعة قالوا إن وطأة تأثير الحظر الأوروبي للنفط الروسي قد تخف على موسكو بفضل ارتفاع أسعار الطاقة واستعداد دول أخرى لشراء بعض النفط الروسي، حسبما ورد في تقرير لوكالة أسوشيدت برس الأمريكية.
من المحتمل أن يتمخض عن حظر الاتحاد الأوروبي غالبية واردات النفط الروسي صدمة جديدة لاقتصاد العالم، ما سيؤدي إلى إعادة تنظيم تجارة الطاقة العالمية على نحوٍ قد يجعل روسيا أضعف من الناحية الاقتصادية، كما يأمل الغرب، وقد يمنح الواقع الجديد الصين والهند قوة تفاوض، ويضخ مزيدا من الأموال في خزائن الدول المنتجة للنفط مثل السعودية.
وستحتفظ روسيا ببعض أسواقها الأوروبية، فضلا عن بيع بعض نفطها- الذي كان متجهاً إلى أوروبا- للصين والهند والعملاء الآخرين في آسيا، لكنها ستضطر حينها لتقديم بعض الخصومات بحسب الرئيس التنفيذي لشركة Macro-Advisory الاستشارية كريس ويفر.
وأوضح ويفر: “لن تكون الخصومات مؤلمة للغاية ماليا بالنسبة لروسيا في الوقت الحالي، نظراً لارتفاع الأسعار العالمية. إذ أصبحت الأسعار أعلى من عام 2021 بكثير. وحتى لو قدمت روسيا بعض الخصومات، فسوف تبيع نفطها بنفس سعر بيعه عام 2021 تقريبا. وتعتبر الهند من المشترين الجاهزين، كما الصين المهتمة دون شك بشراء المزيد من النفط. وكلتاهما من الدول التي ستحصل على خصومات كبيرة على أسعار السوق العالمية”.
وقد حذر بعض خبراء الطاقة من أن العقوبات من هذه النوعية قد تقوض فاعلية الجهود الأوروبية الجديدة، ومن المرجح أن يستمر اعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي لفترة قد تصل إلى سنوات، رغم الحظر المفروض على النفط. ما قد يحفظ لبوتين قدرا من نفوذه، خاصة في حال ارتفاع الطلب على الغاز بالتزامن مع برد الشتاء.
و تمتلك روسيا أيضا بعض الأوراق الأخرى التي يمكنها استغلالها لصالحها، ومن شأنها أن تقوض فاعلية الحظر الأوروبي للنفط الروسي. إذ تعد الصين سوقا متنامية بالنسبة لروسيا، حيث يربط بين البلدين خط أنابيب يعمل بسعته الكاملة تقريبا، لكن الصين زادت شحنات ناقلات النفط من الخام الروسي في الأشهر الأخيرة أيضا.
وتمتلك الهند العديد من المصافي النفطية الكبرى التي تستطيع جني أرباحٍ هائلة من تكرير النفط الروسي وتحويله إلى الديزل وغيره من أشكال الوقود المطلوبة بشدة حول العالم والذي قد يعاد شحنه إلى أوروبا وحتى الولايات المتحدة حيث أن مصدره ليس روسيا. زد على ذلك تلتقي ناقلات النفط من مختلف الجنسيات في البحر والموانئ وتخلط حمولاتها بحيث يختل تحديد مصدره وهذا أمر تمارسه إيران منذ سنوات وكذلك فنزويلا بنجاح فائق.
وأوضحت ميغان أوسوليفان، مديرة مشروع الجغرافيا السياسية للطاقة في كلية كينيدي بجامعة هارفارد: “ستكون هناك العديد من التداعيات الجيوسياسية، إذ سيقرب الحظر الولايات المتحدة من اقتصاد الطاقة العالمي أكثر، فضلا عن توطيد علاقات الطاقة بين روسيا والصين”.
وذكر ماتيو فيلا، محلل مؤسسة ISPI البحثية في ميلان، إن روسيا ستتلقى ضربة كبيرة للغاية الآن. لكنه حذر من أن الخطوة قد تأتي بنتائج عكسية في النهاية.
وأوضح: “سيظهر الخطر في حال ارتفاع أسعار النفط عموما بسبب العقوبات الأوروبية. إذ إن ارتفاع الأسعار بشدة يخاطر بزيادة مكاسب روسيا وخسارة أوروبا لرهانها على العقوبات”.
يأتي ذلك في وقت سجل التضخم في أوروبا وأمريكا مستويات غير مسبوقة منذ ما يقرب من نصف قرن.
واستغلت موسكو من ناحيتها الحظر الأوروبي للنفط الروسي لتعبئة الدعم الشعبي ضد الغرب، الذي وصفوه بأنه عازم على تدمير روسيا.
حيث قال دميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي والرئيس السابق للبلاد، إن حظر النفط يستهدف خفض عائدات البلاد من التصدير وإجبار الحكومة على تقليص المزايا الاجتماعية.
وكتب ميدفيديف عبر قناته في أحد تطبيقات التراسل: “إنهم يكرهوننا جميعا تنبع هذه القرارات من كراهية عميقة لروسيا وشعبها بالكامل”.
في المقابل، لم تتوانَ روسيا أيضا عن تعليق صادرات الطاقة الخاصة بها. إذ قالت عملاقة الطاقة الروسية Gazprom إنها ستقطع إمدادات الغاز الطبيعي عن شركتي GasTerra الهولندية وOersted الدنماركية، بالإضافة إلى وقف شحناتها الخاصة بشركة Shell Energy Europe والتي كانت متجهةً إلى ألمانيا لرفضها دفع ثمن مشترياتها بالروبل.
ولكن الأمر المثير لسخرية البعض أن الدول التي حرمت من النفط والغاز الروسي لرفض الدفع بالروبل تشتري هذه المواد من روسيا عبر أطراف وشركات تدفع بالروبل.
وسبق للشركة الروسية كذلك أن أوقفت إمداداتها المتجهة إلى بلغاريا، وبولندا، وفنلندا.
ولا يمتلك زعماء أوروبا الكثير من البدائل للغاز الروسي، لأن كبار الدول المصدرة الأخرى -الولايات المتحدة وأستراليا وقطر- لا يمكنها زيادة صادراتها بدرجة كبيرة على الفور.
إذ قال ويفر: “الرسالة العالية والواضحة التي ستسمعها موسكو أنه من شبه المستحيل أن يتوصل الاتحاد الأوروبي لأي اتفاق على حظر الغاز، لأن الغاز لن يسهل الحصول عليه من مصادر أخرى في أوروبا مثل النفط”.