تشكل الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة في 11 نوفمبر 2025 نقطة محورية في مسار المنافسة الأميركية-الإيرانية داخل العراق والمنطقة.
وتشير النتائج إلى تصدر ائتلاف “إعادة الإعمار والتنمية” بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، بحصوله على 46 مقعداً من أصل 329. غير أن الفوز بالأغلبية لا يعني نهاية الصراع السياسي، بل بداية مرحلة تفاوضية دقيقة تحدد قواعد المنافسة الإقليمية والسيطرة على مؤسسات الدولة.
وتواجه الولايات المتحدة تحدياً مزدوجاً: من جهة، الحرص على الحد من نفوذ الفصائل الموالية لإيران، وخاصة قوات الحشد الشعبي، لضمان استقرار ما بعد الحرب ودعم الاستثمار والطاقة والتجارة بالدولار.
ومن جهة أخرى، السعي للحفاظ على الاقتصاد العراقي متماسكاً وعدم زعزعة الثقة في الحكومة، إذ تتحرك شركات الطاقة الأميركية الكبرى لتأمين عقود النفط والغاز الطبيعي وتقليل اعتماد العراق على واردات الطاقة الإيرانية.
وفي هذا السياق، تبقى عائدات النفط العراقي تمر عبر النظام المصرفي الأميركي، ما يمنح واشنطن نفوذاً كبيراً لكنها تحجم عن استخدامه بشكل يؤدي إلى انهيار الحكومة العراقية التي تحتاجها للتعاون الأمني ومكافحة الإرهاب في المنطقة.
وبالنسبة لإيران، العراق يمثل عمقاً استراتيجياً ومأوى سياسياً وشرياناً اقتصادياً في آن واحد. فالنتائج الانتخابية والتحالفات البرلمانية المقبلة ستحدد من يمتلك مفاتيح الميزانية، وتعيينات الأمن الداخلي، واللجان التي يمكن أن تحدد أو تضبط استقلالية الحشد الشعبي المدعوم من طهران. كما ستحدد الانتخابات ما إذا كانت الكتل السنية والكردية ستتمكن من تحويل مقاطعة الصدريين للانتخابات إلى نفوذ أكبر على تشكيل الحكومة.
وتسعى إيران إلى حكومة عراقية متوازنة يمكنها التعامل مع واشنطن ودول الخليج دون المساس بخطوطها الحمراء: عدم تفكيك الفصائل الأساسية الموالية لها، وعدم الانحياز بشكل واضح لسياسات العقوبات الأميركية ضد إيران، وحماية أراضي العراق من أي ضربات إسرائيلية أو أميركية محتملة.
وفي الوقت ذاته، تركز على الحفاظ على وصولها إلى الموارد المالية والاقتصادية، خاصة عبر التجارة والقنوات المصرفية العراقية، ما يسمح لها بالمناورة وسط العقوبات المفروضة عليها.
وتعتمد الاستراتيجية الإيرانية على مزيج من البراغماتية والواقعية: الحفاظ على شبكة الحلفاء والفصائل العربية الموالية، وتوسيع دائرة الشركاء السياسيين، وخفض ظهور الفصائل الأكثر خطورة، بحيث يبقى النظام العراقي متوازناً ومتماسكاً، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
وعلى الأرض، يظهر ذلك في دمج بعض وحدات الحشد الشعبي تدريجياً في الهياكل السياسية والإدارية، مع إبقاء عناصر الردع العسكري في الاحتياط، بحيث تتحول الميليشيات إلى قوة شبه مؤسسية تتحرك ضمن البرلمان والإدارات المحلية.
وتتعامل الولايات المتحدة، بدورها، مع العراق من خلال مزيج من التحفيز والضغط، محاولة دمج الفصائل المسلحة ضمن سلاسل قيادة مسؤولة أو توجيهها نحو المجال السياسي.
كما تسعى واشنطن إلى الحفاظ على نفوذها الاقتصادي عبر التحكم في وصول العراق إلى الدولار والعقود التجارية الكبرى، مستفيدة من قوتها المالية والسياسية لضمان توازن القوى مع طهران.
وتعتمد الولايات المتحدة في استراتيجيتها على إشارات سياسية دقيقة وتحذيرات غير مباشرة، لتجنب أي استفزاز قد يؤدي إلى مواجهة مسلحة مباشرة مع الفصائل الموالية لإيران.
وتُظهر الانتخابات العراقية أن المنافسة الأميركية-الإيرانية لم تعد تقتصر على المواجهة العسكرية أو النفوذ التقليدي، بل تحولت إلى صراع على النظم السياسية والإدارات الداخلية ومفاصل الدولة الاقتصادية.
وفي حين تسعى إيران لتعميق نفوذها عبر الفصائل والشبكات السياسية، تعمل الولايات المتحدة على ضمان سيطرة محددة على هذه الفصائل وتحويل العراق إلى ساحة تحقق مصالحها دون الانجرار إلى صدام مفتوح.
ويؤكد المشهد الانتخابي الأخير أن أي حكومة عراقية جديدة ستتعامل مع ثلاث نقاط أساسية: أولاً، ميزان القوى بين الفصائل الموالية لإيران وتلك الداعمة لواشنطن؛ ثانياً، إدارة الاقتصاد ومصادر الطاقة والتمويل الدولي، بما في ذلك دور الدولار والعقود الخارجية؛ ثالثاً، الأمن الداخلي وقدرة الدولة على فرض سيطرتها على السلاح غير النظامي.
وتجعل هذه العوامل البرلمان العراقي القادم ساحة معقدة لتوازن القوى بين الولايات المتحدة وإيران، حيث يتعين على كل طرف توخي الحذر في تحركاته.
ومن جهة أخرى، هناك محاولة إيرانية لتوسيع نفوذها عبر دمج بعض وحدات الحشد الشعبي في المؤسسات المدنية والسياسية، بما يضمن استمرار قدرتها على المناورة داخلياً.
وتقوم المعادلة الإيرانية على السماح للفصائل المسلحة بالعمل كهيئات سياسية مدنية، بينما تظل قدراتها العسكرية موجودة في الخلفية كوسيلة ردع.
وتدعم الولايات المتحدة، في المقابل، سياسات تهدف إلى دمج هذه الفصائل في سلاسل قيادة مسؤولة، مع التأكيد على أن أي تدخل مسلح على خلفية العمليات الأميركية أو الإسرائيلية سيواجه بردع مباشر.
ويشير التحليل الاستراتيجي إلى أن توازن النفوذ في العراق لن يتحقق إلا عبر تفاعل دقيق بين الولايات المتحدة وإيران، يعتمد على التعايش السياسي والاقتصادي، والحد من العمليات العسكرية المكشوفة، مع إبقاء النفوذ الاستراتيجي محصوراً ضمن حدود مقبولة للطرفين.
ويبدو أن الحل الأكثر واقعية حتى الآن هو الاحتواء التدريجي للفصائل المسلحة، وتقليل تأثيرها على السياسات، مع الحفاظ على شبكة عراقية مستقرة تضمن استمرار العلاقات الاقتصادية والسياسية مع واشنطن وطهران في آن واحد.
ولا تحدد الانتخابات العراقية فائزاً واضحاً في الصراع الأميركي-الإيراني، لكنها تضع الأسس للمرحلة القادمة من المنافسة: صراع سياسي هادئ لكنه متواصل، يعتمد على النفوذ داخل المؤسسات، والتحكم في الموارد، والموازنة بين القوة العسكرية والدبلوماسية، مع الحفاظ على توازن نسبي بين القوى الكبرى على الأراضي العراقية.
ومن المرجح أن يستمر هذا التوازن في غياب صدامات مباشرة، مع توقعات بزيادة الانخراط السياسي للفصائل الموالية لإيران، مقابل ضغط أميركي على الحفاظ على سيطرة الدولة العراقية على مؤسساتها الحيوية.
جيوستراتيجيك ميديا ما وراء الخبر
