بعد هنري كيسنجر، ها هو إيمانويل ماكرون يُعلّق الجرس، ويُحذّر مُجَدَّدًا من إذلال روسيا لعدم إغلاق الأبواب كليًّا أمام فُرص التوصّل إلى مخرجٍ سلميّ للأزمة الأوكرانيّة، وناشد الرئيس فلاديمير بوتين بإيقاف هذه الحرب خدمةً للإنسانيّة.
ماكرون على اتّصالٍ شِبهِ دائمٍ بالرئيس الروسي، وكان من القادة الأوروبيين القلائل الذين لم يزوروا كييف، والأهم من ذلك أنه لم يُرسل أسلحةً ثقيلةً دعمًا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ومُقاتليه، لأنّه يُدرك، وبكُل بساطة، أن الولايات المتحدة وحُلفاءها الإنجلوسكسون (بريطانيا وأستراليا) خسروا هذه الحرب، وكلّما طال أمَدها دون حسم، ستتعاظم هذه الخسائر اقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا.
الرئيس الفرنسي، مِثل كيسنجر وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق، يُدرك جيّدًا أن روسيا لن تُواجه الإذلال، ولن تُهزَم أيضًا إذا استمرّت قوّاتها في التقدّم، وقضم الأراضي الأوكرانيّة والمُدن الموانئ الواحدة تِلو الأخرى، ويتبنّى هذا الانتقاد “المُهذّب” تَجَنُّبًا لاستفزاز كُل من الحُكومتين الأمريكيّة والبريطانيّة.
القوّات الروسيّة سيطرت حتى الآن، وبعد مِئة يوم من اقتِحام قوّاتها للحُدود الأوكرانيّة، على خُمس الأراضي الأوكرانيّة، خاصَّةً في جنوب شرق البِلاد، بالإضافة إلى ضمّها لشبه جزيرة القرم، ووصلها بريًّا باليابسة الروسيّة، ولعلّ الرئيس الفرنسي يُجَدِّد دعواه لفتح القنوات السياسيّة مُجَدَّدًا مع روسيا تقليصًا للخسائر وتَجَنُّبًا للهزيمة الكُبرى والفضائح التي يُمكن أن تترتّب عليها.
قبل يومين أكّد المحرّر الاقتصادي لصحيفة “الغارديان” البريطانيّة ما قُلناه أكثر من مرّةٍ في هذه الزّاوية، أو على قناة “اليوتيوب” عندما شذّ عن كُل التّغطيات الغربيّة “المُتفائلة” أو “المُضلّلة” على وجه الدقّة، وقال “العُقوبات الغربيّة فشلت وروسيا كسبت الحرب الاقتصاديّة، فأسعار الغاز والنفط ارتفعت ممّا أدّى إلى تعزيز ميّزانها التجاري، وتمويل مجهودها الحربي، حيث ارتفعت صادراتها النفطيّة إلى الصين وحدها بأكثر من 50 بالمِئة مُقارنةً بالعامِ الماضي.
إدارة الرئيس جو بايدن، وبعد كُل هذه الإنجازات الروسيّة قالت إنها ستُرسل شُحنات من صواريخ “هيمارس” الأمريكيّة التي يبلغ مداها 80 كيلومتر إلى أوكرانيا، شريطة أن لا يتم استخدامها لضرب الأراضي الروسيّة، الرئيس بوتين ردّ بأنّه سيضرب هذه المنظومات الصاروخيّة، ويُدمّرها مِثل تدمير “البسكويت”، مثلما سيضرب أهدافًا أوكرانيّة تجنّب ضربها طِوال الأسابيع الماضية، لأنّ هدف أمريكا من وراء هذه الخطوة هو إطالة أمَد الحرب.
الرّسالة التي يُريد بوتين توجيهها إلى نظيره الأمريكي تقول بأنّه لم يلجأ حتى الآن إلى “القصف السجّادي” وأيّ صاروخ أمريكي يُؤدّي وصوله لأوكرانيا لتغيير قواعد الاشتباك الحاليّة سيتم الرّد عليه بقُوّةِ ردعٍ جبّارة وفوريّة.
غريبٌ أمر الرئيس بايدن، فإذا كان يشترط على “أداته” زيلينسكي رئيس أوكرانيا بعدم استخدام هذه الصّواريخ لضرب الأراضي الروسيّة، فما فائدتها؟ وأين ستُستخدم إذن؟ إنه الخوف والرّعب الأمريكي من الدّخول في حربٍ مُباشرةٍ مع روسيا لا أكثر ولا أقل.
الغرب بدأ يشعر بالسّخونة من جرّاء فشل مُعظم سيناريوهاته التي يُطبّقها في هذه الحرب، بعد أن بات سِحرها ينقلب عليه تصاعدًا في مُعدّلات التضخّم والبِطالة، وارتفاع الأسعار في مُعظم المواد الغذائيّة الأساسيّة، ناهِيك عن أسعار الطّاقة، فها هو بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا الحليف الأوثق والأقرب لبايدن يُواجه تصويتًا بالثّقة في البرلمان البريطاني اليوم، يُؤكّد مُعظم المُحلّلين السياسيين في بريطانيا أنه سيخسره بعد فشل سياساته ليس بسبب “حماسه” للحرب الأوكرانيّة، وإنّما أيضًا لفشل سياساته الداخليّة التي جعلت الكثير من البريطانيين تحت خطّ الفقر ممّا دفع بحُكومته إلى “الغاء حدّ الحرابة” وعدم مُعاقبة “اللصوص” الذين يسرقون الطّعام لسدّ جُوعهم.
روسيا لم تكسب الحرب الاقتصاديّة مثلما اعترف رئيس القسم الاقتصادي في صحيفة “الغارديان”، وإنما كسبت أيضًا الحربين السياسيّة والعسكريّة حتى الآن، وكُل ما فعله بعض حُلفاء أمريكا من الدّرجة الثانية من الأوروبيين الجُدُد (بلغاريا ومقدونيا الشماليّة، ومنتينيغروا) هو عدم السّماح لطائرة سيرغي لافروف المُرور عبر أجوائها، أمّا الأوروبيّون القُدامى مِثل ألمانيا وبلجيكا ما زالت غارقة في جدلٍ بيزنطيّ “هل يحظرون النفط والغاز الروسي وكيف وتحت أيّ شُروط”، وهو جدل بدأ مُنذ اليوم الأوّل من الحرب، وربّما سيستمر لألفِ يومٍ أُخرى، لقد آنَ الأوانُ لأبو علي بوتين أن يمدّ رجله