فاطمة أحمد الثني
في هذه الورقة العلمية التاريخية نحاول شرح مراحل تطور الاقتصاد الإسرائيلي ، و المقارنة بين الدول الفقيرة و الغنية ، و تعتبر الدول العربية من الدول النامية فمنها دول تمكنت من تحقيق النمو الاقتصادي ، و بالمقابل هناك دول تعاني من ازمات اقتصادية ، و البعض منها دول فقيرة ، و أما ” اسرائيل ” تعدّ من الدول المتقدمة حتى و أن كانت لم تصل إلى مرتبة انمو الاقتصادي في الدول المتقدمة ، إلا أنها أكثر قوة من الناحية السياسية و الاقتصادية و التكنولوجيا و الصناعية و الأمنية و العسكرية و امتلاكها القوة النووية ، إضافة تمكنت من إقامة مجتمع معرفي .
اولاً : الاقتصاد الإسرائيلي
أن إقامة الدولة اليهودية أو الدولة الإسرائيلية سواء رسمنا بأقلامنا خريطة الوطن العربي بوجود دولة إسرائيل أو كتابنا فلسطين المحتلة فإن ” إسرائيل ” هي موجودة في العالم العربي نحاول التعامل مع هذه الحقيقية بواقعية دبلوماسية و سياسية و اقتصادية كما تعامل معها العديد من أساتذة علم السياسة الكبار في العالم العربي من خلال تفعيل الاتفاقيات التاريخية و المعاصرة نذكر أهمها مقررات مؤتمر انشاص – 1946 ، القرار 181 التوصية بخطة لتقسيم فلسطين الصادر بتاريخ 29/11/1947 م ، وثيقة القرار 194 حق اللاجئين بالعودة الصادر بتاريخ 11/12/1948 م ، البرنامج السياسي المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية الصادر بتاريخ 8/6/1974 م ، وثيقة اعلان دولة فلسطين الصادر بتاريخ 15/11/1988 م ، نص ملاحق الاتفاق الفلسطيني – الإسرائيلي ، و من الاتفاقيات المعاصرة ، الاتفاق بين إسرائيل و منظمة التحرير الفلسطينية المعقود بتاريخ 19/8/1993 م ، و مؤتمر مدريد الذي عقد بتاريخ 30/10/1991 م ، و اتفاقيات أوسلو الذي عقد بتاريخ 13/9/1993 م ، و قرارات مجلس الأمن الدولي في منظمة الأمم المتحدة رقم 242-338- ، نظراً لان وجود إسرائيل أصبح حقيقية موجودة في منظمة التجارة العالمية و الشراكة الأوروبية المتوسطية و الاتحاد من اجل المتوسط و شكلت عائق إمام الدول العربية المتوسطية و الدول العربية الغير متوسطية التي تسعى جاهدة إلى الانضمام إلى هذه التكتلات عند انضمامها إلى هذه التكتلات الاقتصادية الاقليمية الدولية و إمام الدول العربية مجتمعة عند انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في حالة رفضها الاعتراف بوجود ” إسرائيل ” و التعامل معها من الناحية التجارية و الاقتصادية إلا انها يمكن الاعتراف بوجودها سياسياً الامر الذي يتطلب القدرة على التعامل مع هذه القوة الاقتصادية و الصناعية و النووية ؛ و أن كانت لم تصل إلى قوة الدول الصناعية المتقدمة نظراً لأنها تعدّ من القوى الصغرى المتقدمة الصناعية من خلال اللجوء إلى استخدام الأساليب الدبلوماسية و تفعيل الاتفاقيات التاريخية و المعاصرة بين الجانب الفلسطيني و الإسرائيلي و الجانب العربي و الإسرائيلي و عقد اتفاقيات جديدة في هذا الشأن و ضمان تنفيذه من خلال تقيد الجانب الفلسطيني و العربي .
مما سبق يتضح ضرورة دراسة المراحل التي مر بها الاقتصاد الإسرائيلي و التغيرات التي طرأت عليه منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية بتاريخ 15/5/1948 م على جزء من الأراضي الفلسطينية , و يمكننا التمييز بين ثلاثة مراحل أساسية ، و هي :
المرحلة الأولى تمتد من سنة 1948 م إلى نهاية عقد الخمسينيات من القرن العشرين :
تميزت هذه المرحلة بضرورة التركيز على الانتاج الزراعي بهدف مواجهة الزيادة السريعة في عدد المهاجرين اليهود و اشباع حاجاتهم الأساسية و أنشاء رابطة قوية بين هؤلاء المهاجرين و الدولة الجديدة ، أن اتاحة المجال من اجل تحقيق زيادة كبيرة من الانتاج الزراعي من خلال مدى توفر الأراضي الزراعية التي تم الاستيلاء عليها من قبل المهاجرين من أصحابها العرب ، و قد تميزت هذه المرحلة بمنح أولوية عالية للاستثمار في المرافق الأساسية و المشروعات العامة كبناء الطرق و المساكن و التعليم و الصحة مما اتاح المجال بإنشاء فرص كبيرة للعمالة كانت ضرورية بغرض استيعاب الأفواج الكبيرة من المهاجرين و مع نهاية عقد الخمسينيات كانت هناك فرص للتوسع الكبير في الانتاج الزراعي قد بدأت في النضوب نظراً لمجموعة من الأسباب نذكر أهمها ، ندرة مصادر مياه الري ، تراجع معدل نمو الطلب على المواد الغذائية ، مدى انخفاض مستوى البطالة ، و بدأت مرحلة جديدة من التركيز على النمو الصناعي من خلال الاعتماد على مختلف الاجراءات الحمائية لم ينخفض نصيب الزراعة في اجمالي القوة العاملة فيما بين 1955 و 1960 انخفاضاً يذكر ، انخفض هذا النصيب من 17.3% في 1960 إلى 12.3% في 1966 ، بينما زاد نصيب الصناعة في القوة العاملة من 23.2% إلى 26.1% في الفترة نفسها ([1]) ، و بعد انتهاء حرب 1967 حدثت تغير ملحوظ في هيكل الانتاج الصناعي من خلال انخفاض نصيب الصناعات التقليدية كالصناعات الغذائية و الجلدية و المنسوجات و الأثاث و ارتفاع نصيب الصناعات المعدنية و خصوصاً صناعة الآلات و وسائل المواصلات و ارتفاع نصيب المعدات الكهربائية و الإلكترونية .
المرحلة الثانية : عقد الستينات من القرن العشرين :
بلغ الاقتصاد الإسرائيلي مفترق الطرق الجديدة مع نهاية عقد الستينات من خلال إما الاتجاه نحو فتح الأسواق جديدة للتصدير أو الاختناق ، حيث أن استمرارية الارتفاع في متوسط الدخل يتوقف أكثر فأكثر على مدى كيفية نمو مجموعة من الصناعات الحديثة نظراً لان هذه الصناعات يتطلب نموها مستوى عال من الطلب بحيث يتيح لها الوصول إلى حجم من الانتاج يمكن من خلالها القدرة على منافسة الصناعات الأوروبية و الأمريكية ، إلا أن السوق المحلية من الضيق بحيث لا يمكنها استيعاب إلا نسبة ضئيلة للغاية و بطيئة النمو من اجمالي الانتاج و مدى ارتفاع متوسط الدخل و ارتفاع نسبة الواردات في الانتاج الصناعي الذي يعدّ ضغطاً متزايد على ميزان العمليات الجارية لاسيما لم يعدّ من الإمكان الارتكاز في تمويله على المعونات و القروض الأجنبية مثلما كان خلال عقد الخمسينيات و بدايات عقد الستينات . حظيت إسرائيل بدعم و تأييد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية و الدول الأوروبية و من قبل الجاليات اليهودية خلال عقدي الخمسينيات و الستينات بعد أنشاء الدولة الإسرائيلية إلا أن هذا الدعم و التأييد لم يستمر بذات القوة نظراً لتغيرات الاقليمية و الدولية سواء في المنطقة العربية و على المستوى الدولي خصوصاً من الناحية السياسية و الاقتصادية نظراً لسعى إسرائيل للتوسع على حساب الدول العربية الشرق أوسطية المجاورة لحدودها ، و الجدير بالقول ، أن إسرائيل انتهجت سياسة العمل على زيادة نسبة الصادرات إلى السوق الأوروبية المشتركة و الولايات المتحدة الأمريكية و بعض الدول الأفريقية و الآسيوية ، و قد تمكنت من اجتذاب الاستثمارات الأجنبية إلى إسرائيل كبديل للمعونات و القروض الخارجية ، و في شهر اغسطس سنة 1971 م لجأت إسرائيل إلى تخفيض عملتها بنسبة 20% بهدف زيادة الصادرات و تخفيض الواردات ، و عادت فخفضتها بنسبة 43% في تشرين الثاني/نوفمبر 1977 ([2]) ، كما اتخذت الحكومة الإسرائيلية مجموعة مختلفة من اجراءات الدعم و اعانة الصادرات في سنة 1973 م ، و دخلت في مجموعة من الاتفاقيات التجارية التفضيلية مع السوق الأوروبية المشتركة و بعض الدول الأوروبية الأخرى و الولايات المتحدة الأمريكية و اليابان من اجل زيادة صادراتها ، و في سنة 1979 م اعلنت ” حكومة بيغن ” ” 1977-1983 ” سياسة اقتصادية جديدة تتضمن العديد من الاجراءات التي تهدف إلى تشجيع الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل من أهمها إلغاء القيود على تحويل العملات و اصدار قانون جديد يمنح مختلف التسهيلات لرأس المال الأجنبي ، و لكن هناك مجموعة من الأسباب تؤكد ضرورة إيجاد الحلول لمشكلة ميزان المدفوعات الإسرائيلية و زيادة نسبة الصادرات بالمعدل المطلوب نظراً لان تخفيض ” الليرة الإسرائيلية ” يؤدي إلى انخفاض نسبة الواردات الإسرائيلية من السلع الاستهلاكية و ازدياد الطلب على صادراتها و يؤدي في آن الوقت إلى ارتفاع نسبة تكاليف وارداتها من المستخدمات التي تعتمد عليها صناعاتها و صادراتها اعتماداً بشكل أساسي ، أن دول السوق الأوروبية المشتركة و الولايات المتحدة الأمريكية حتى في حالة استيراد نسبة كبيرة من الصادرات الإسرائيلية التقليدية من الماس و المواد الغذائية و منتجات الصناعات الغذائية إلى نهاية عقد السبعينات فمن الصعوبة توقع ازدياد طلبها بنسبة كبيرة من صادرات إسرائيل من منتجات الصناعات الحديثة نظراً لتعرض هذه المنتجات من منافسة المنتجات المماثلة لدول السوق الأوروبية المشتركة و الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها نظراً لفارق الحجم بين الصناعات الإسرائيلية و الصناعات الأوروبية و الأمريكية ، و في هذا الاطار قال أحد المسؤولين عن التجارة الخارجية الإسرائيلية بعد تسعة أشهر من تطبيق اتفاقية 1975 م مع السوق الأوروبية المشتركة ، لقد توقعنا أن يؤدي تطبيق الاتفاقية إلى زيادة كبيرة في صادراتنا للسوق الأوروبية المشتركة ، بالمقارنة بصادراتنا إلى الدول الأخرى … و لكن من المؤسف أن الأرقام تدل على أن مجموع صادرات إسرائيل إلى هذه السوق بقى عند مستوى عادي ، و إن صادراتنا من المواد الغذائية الأولية و المصنعة لازالت تشكل 36.5% من اجمالي صادراتنا لدول السوق ، بل و زاد نصيبها زيادة طفيفة ( بنسبة 3.4% ) ، و إن صادراتنا الصناعية ( باستثناء الماس ) لم تمثل أكثر من 37% من اجمالي صادراتنا إليها ، و هو ما يمثل انخفاضاً عن نصيبها السابق الذي بلغ 40% … إن من الواضح الان تخفيض الرسوم الجمركية لا يكفي وحده ، في ظل ظروف الصناعة الإسرائيلية الحالية ، لأحداث زيادة يعتد بها في الصادرات إننا نحتاج إلى مزيد من الاستثمارات و مزيد من المعرفة الفنية ([3]) ، لاسيما أن من أهم أهداف الاتفاقية إقامة منطقة التجارة الحرة بينهما سنة 1980 م و تم منح إسرائيل معاملة خاصة مع ضمان تمتعها بامتيازات السوق من مساعدات مالية و نقدية و تنشيط حركة السياحة في إسرائيل مع تدعيم مركز إسرائيل الاقتصادي عالمياً ، اضعاف حلقة المقاطعة العربية ، و الفكاك من العزلة المفروضة عليها ([4]) ، و قد وقعت إسرائيل اتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية في شهر يناير سنة 1976 م تم الإعفاء بمقتضاها معظم الصادرات الصناعية الإسرائيلية من الرسوم الجمركية في الولايات المتحدة الأمريكية و بالمقابل أصبح من حق إسرائيل تحقيق الاستفادة الأمثل من النظام المعمم للتفضيل التجاري حيث أفاد من هذا الاعفاء أكثر من 2700 صنفاً من الصادرات الصناعية الإسرائيلية تشمل السلع المعدنية و الآلات و الأدوات الكهربائية و الالكترونية و المواد الكيماوية و الأدوية و الآلات الحاسبة و الأدوات الدقيقة و المجوهرات و الأثاث ([5]) .
المرحلة الثالثة : بدأت بعد حرب 1967 م :
بدأت المرحلة الثالثة مع الظروف المحيطة بحرب الاستنزاف سنة 1967 م ، حيث تم إيجاد الحلول المناسبة لمشكلة ميزان المدفوعات فيما يتعلق بالاستثمارات الأجنبية الخاصة حيث يتوقف نجاح إسرائيل في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية على مدى نجاحها في فتح أسواق جديدة لصادراتها و تأمين مصادر جديدة للمواد الأولية و قوة العمل الرخيصة نظراً لان مدى ضيق السوق الإسرائيلية و افتقارها و حاجتها إلى المواد الأولية و استمرارية المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل و استمرارية خطر الحرب مع الدول العربية الشرق أوسيطة المجاورة لا يعدّ عامل أساسي لاستثمار رؤوس الأموال الأجنبية في إسرائيل ، لاسيما مع نهاية عقد السبعينات نظراً لقيام حرب الاستنزاف بتاريخ 1/يوليو/1967 م إلى 7/8/1970 م بين إسرائيل و مصر وسوريا و الأردن و فلسطين نظراً لاحتلال إسرائيل في حرب 1967 م الضفة الغربية و غزة و جولان و سيناء و انتهت إلى حالة اللاسلم و اللاحرب ، هذا يفسر عدم ملائمة ظروف سوق العمل للاستثمار الأجنبي رغم حصول إسرائيل على مصدر للعمل الرخيص في الأراضي العربية التي احتلتها سنة 1967 م في الضفة الغربية و غزة ، و مدى الانخفاض الكبير في معدل الهجرة إلى إسرائيل و قد أدت ندرة القوة العاملة إلى ارتفاع في مستوى الأجور و نفقات الانتاج و ارتفاع معدل التضخم الامر الذي يوضح جزئياً كيفية تضاؤل الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل مع اندلاع حرب أكتوبر بتاريخ 6/10/1973 م بين إسرائيل و مصر و سوريا .
و قد أوضحت الكتابات الحديثة عن الاقتصاد الإسرائيلي على ضرورة رفع معدل نمو الصادرات باعتباره الشرط الأساسي لاستمرار معدل النمو في الاقتصاد الإسرائيلي و لحل مشكلة ميزان المدفوعات في الوقت نفسه ([6]) ، نظراً لان عدم تمكن إسرائيل من زيادة صادراتها المتنوعة بنسبة كبيرة مع عدم إمكانية إيجاد أسواق خارجية لتصريف منتجاتها الامر الذي سوف ينعكس سلباً على البنية الاقتصادية الإسرائيلية لاسيما مع ازدياد اتساع العجز في الميزان التجاري علماً أن الاستثمارات في إسرائيل قد وصلت مراحل متقدمة و توسعت الطاقة الانتاجية الإسرائيلية ، و هذا يفسر كيفية تهديد الحياة الاقتصادية الإسرائيلية و ازدياد حدة المشاكل و التحديات إمامها .
مما سبق يتضح كيفية سعى إسرائيل إلى توطيد علاقاتها مع مصر نظراً لان الأخيرة بالنسبة لإسرائيل من أوسع أسواق البلاد العربية حيث أن اتاحة المجال لصادرات الإسرائيلية بالدخول إلى السوق المصري يؤدي إلى ارتفاع انتاجها إلى الحجم الذي يتيح لإسرائيل من الدخول في المنافسة الاقتصادية مع الدول المتقدمة الصناعية التي تسيطر على الأسواق الخارجية ، أن التوقيع على معاهدة الصلح بين إسرائيل و مصر بتاريخ 26/3/1979 م في مدينة ” واشنطن ” و تصريف المنتجات و الخدمات الإسرائيلية في مصر التي لا تلقي رواج في الأسواق العالمية سوف يزيد من اجتذاب الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل نظراً لان السوق المصرية الواسعة عوضت عن ضيق السوق الإسرائيلية و أوجدت العامل المصري الرخيص عن ارتفاع أجور العمال الإسرائيليين ، و نمو الصناعة الإسرائيلية و كيفية قدرتها على اشباع الحاجات الأساسية للمواطن الإسرائيلي و ارتفاع مستوى أجور العمال ، و أنهاء المقاطعة الاقتصادية مع إسرائيل يعنى تجريد أو سلب القوانين التجارية و الاقتصادية المصرية التي شكلت جدار حماية من دخول الصادرات الإسرائيلية إلى السوق المصري و يحقق للاقتصاد الإسرائيلي منافع و مكاسب متعددة سواء داخل إسرائيل أو خارجها و سوف ينعكس ايجابيا على العلاقات الدولية – العربية و الإسرائيلية – الدولية نظراً لان الشركات الدولية لم تحظى بالعمل مع الدول العربية أو إسرائيل نظراً لتطبيق أحكام المقاطعة مع إسرائيل حيث قدر أن أكثر من 700 شركة أمريكية قد قوطعت من جانب دولة عربية أو أكثر نتيجة تطبيق أحكام المقاطعة ([7]) ، نذكر على سبيل المثال اضطرت شركة رينو الفرنسية نظراً لأحكام المقاطعة إلى التخلي عن إقامة مصنع لتجميع السيارات في إسرائيل ، و منعت طائرات شركة الطيران الفرنسية من الطيران فوق الأراضي العربية إلى أن تخلت عن المساهمة في بعض المشروعات الاستثمارية في إسرائيل ، شركة كوكاكولا التي خضعت لأحكام المقاطعة في سنة 1966 م نظراً لترخيصها لشركة إسرائيلية بالانتاج ، هذا يوضح أن المستثمر الأجنبي يرحب بانهاء المقاطعة الاقتصادية مع إسرائيل نظراً لأنه ينعكس ايجابياً على الاستثمارات الأجنبية و الشركات الدولية التي سوف يتم اتاحة المجال لكل منهما بالعمل في البلاد العربية و إسرائيل على حد السواء كما سوف ينعكس ايجابياً على البنية الاقتصادية الإسرائيلية حيث سوف تحقق أرباح و مكاسب طائلة تنعكس ايجابياً
على الحياة السياسية و العسكرية و الثقافية و لكن : هل سوف تحقق البلاد العربية مجتمعة ذات المكاسب و الانجازات أن أنهت المقاطعة الاقتصادية مع إسرائيل في اطار احترام مواقف البلاد العربية التي إقامة علاقات اقتصادية مع إسرائيل طبقا للمواثيق و الاتفاقيات الدبلوماسية الاقليمية و الدولية أو يحبذاً مخاطبة المواطن الدبلوماسي و السياسي و الاقتصادي في إسرائيل بإقامة دولة فلسطين إلى حدود سنة 1948 م و انهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من خلال الاتفاقيات الدبلوماسية الاقليمية و الدولية بهدف احلال السلام و الأمن الدوليين في منطقة الشرق الأوسط و على المستوى الدولي ؟ .
هذا يدفعنا ربما إلى التفكير في تنصيف أنواع العلاقات مع إسرائيل نظراً لأننا نعيش في القرن الحادي و العشرين قرن الاقتصاد و الأعمال ، بحيث يمكننا التأكيد على المقاطعة الاقتصادية و لكن سوف نقيم معها علاقات دبلوماسية و سياسية من أجل إقامة دولة فلسطين ، إعادة اللاجئين ، انهاء النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي و العربي – الإسرائيلي في اطار احترام الاتفاقيات و المعاهدات الدولية بمعنى أدق نتحلى بسياسية الاقتصادية المرنة و مبدأ الشفافية مع إسرائيل بهدف اتاحة المجال لكل الدول العربية الدخول في التكتلات الاقتصادية الاقليمية الدولية و منظمة التجارة العالمية و بالمقابل الدول نتيح المجال للدول المتقدمة الصناعية إقامة علاقات مع إسرائيل في اطار معين و مع الدول العربية في اطار معين آخر نظراً لان الدول المتقدمة ترتبط بعلاقات تاريخية سياسية-اقتصادية مع إسرائيل و هذا سوف ينعكس ايجابياً على الاقتصاد العالمي لأنه يجعله أكثر مصداقية في كافة مجالاتها في اطار احترام القانون الاقتصادي الدولي .
عند بداية عقد السبعينات بلغ مجموع الاستثمار الصافي في الصناعات المعدنية و الكهربائية و الالكترونية نحو 50% من إجمالي الاستثمارات الصناعية ([8]) ، و تضاعفت قيمة انتاجها بالأسعار الثابتة ثلاث مرات خلال عشر سنوات 65-1975 و ارتفع نصيبها في اجمالي الناتج الصناعي من نحو 20% في 1965 إلى نحو 30% في 1975 ([9]) ، و قد ساعد على التطور في مجال الاستثمارات الإسرائيلية مجموعة من العوامل منها زيادة نسبة طلب الصناعات الحربية على هذه المنتجات و في ذات الوقت تناقص معدل النمو في الطلب المحلي على الصناعات التقليدية و ارتفع معدل نمو الطلب المحلي على السلع الاستهلاكية المعمرة مع النمو السريع في متوسط الدخل ، علماً بأن نمو كلا النوعين من الطلب المحلي الحربي و المدني كان ينبغي أن يصطدم بشكل سريعاً بمدى ضيق السوق الإسرائيلي الناتج عن ضآلة حجم السكان ، و أصبح هناك ضرورة أن يستند تصريف هذه المنتجات اعتماداً بشكل أساسي على التصدير ، و بالتالي بدأ الاقتصاد الإسرائيلي يتحول بسرعة إلى اقتصاد يتعمد نموه ليس على نمو السوق المحلي بل على زيادة الطلب الخارجي حيث ارتفعت نسبة الصادرات من 15.2% من الناتج القومي الاجمالي ، ارتفعت هذه النسبة إلى 20% في 1970 ([10]) مع الزيادة المطردة في مدى
أهمية المنتجات المعدنية و الكهربائية و الالكترونية في هيكل الصادرات ، و في اطار مدى الأهمية نلاحظ أنه رغم النمو السريع في صادرات الصناعات المعدنية و الكهربائية و الالكترونية إلا هذه الصادرات مازالت عاجزة على استيعاب نسبة كبيرة من انتاج هذه الصناعات و رغم زيادة نسبة صادرات المنتجات المعدنية خلال الفترة الممتدة 65-1974 ثماني مرات حيث بلغت 155 مليون دولار في 1974 ، فإن هذه القيمة لم تزد على 9.6% من اجمالي مبيعات هذه الصناعات التي بلغت 1620 مليون دولار في السنة نفسها ([11]) ، و ازدادت تبعا لذلك صادرات المعدات الكهربائية و الالكترونية بأكثر من ثلاث مرات خلال الفترة الممتدة بين 70-1974 نجد أن مجموع انتاجها زاد في هذه الفترة بمعدل مقارب حيث لم تزد نسبة الصادرات إلى اجمالي الانتاج من هذه الصناعات على 2.2% في 1974 بالمقارنة بنسبة 1.8% في 1970 ([12]) ، رغم الزيادة السريعة في صادرات إسرائيل من المنتجات المعدنية و الكهربائية و الالكترونية إلا أن معدل هذه الزيادة لا يفوق بدرجة كافية معدل الزيادة في انتاج هذه الصناعات في ذات الوقت الذي يتطلب فيه ضيق السوق الإسرائيلي و مدى سرعة انتشار هذه المنتجات أن يزداد معدل نمو الصادرات بدرجة ملموسة عن معدل نمو الانتاج .
مما سبق يتضح أن الخطة في قطاع الصناعة الإسرائيلية تهدف إلى زيادة قيمة الانتاج من الصناعات المعدنية و الكهربائية و الالكترونية بالأسعار الثابتة ، أن إسرائيل في حاجة إلى دفعة قوة جديدة من اجل زيادة نسبة الصادرات لا ترجع إلى مدى حاجة صناعاتها الحديثة إلى تصريف منتجاتها بل ترجع إلى مدى حاجتها من اجل مواجهة الزيادة الكبيرة في نسبة الواردات التي صاحبت الارتفاع الكبير في متوسط الدخل و في الانتاج الصناعي ، أن الاقتصاد الإسرائيلي يواجه مشكلتين أساسيتين :
- مدى صغر حجم السوق .
- ندرة المواد الأولية .
أن المشكلة الأولى خفف من حدتها في عقد الخمسينيات الزيادة الكبيرة في عدد المهاجرين و في عقد الستينات من اعتماد النمو الصناعي على سياسة الاحلال محل الواردات و لم تتضح مشكلة صغر حجم السوق بقوة إلا مع بداية من أواخر عقد الستينات حيث تمكنت من استنفاد امكانيات هذه السياسة ، و بدأ معدل الهجرة إلى إسرائيل في التضاؤل ، أما فيما يتعلق بندرة المواد الأولية فقد ظلت خفيفة الوطأة نسبياً طالما كان التركيز على النمو الزراعي مثلما كان الحال إلى منتصف عقد الستينات إلا أنها ازدادت حدتها مع تزايد نصيب الصناعات المعدنية و الكهربائية و الالكترونية في هيكل الانتاج الصناعي ، و نصل إلى نتيجة مفادها بأنه بينما كانت إسرائيل تعتمد منذ أنشائها اعتماداً كبيراً على استيراد رأس المال فقد ازداد هذا الاعتماد بقوة مع النصف الثاني من عقد الستينات أي أن نسبة فائض الاستيراد إلى مجموع الموارد أي فائض الواردات من الصادرات
بالنسبة لإجمالي الناتج القومي مضافاً إليه فائض الواردات عن الصادرات قد ازداد في النصف الأول من عقد السبعينات ، و يعدّ عجز ميزان العمليات الجارية سمة أو خاصية مستديمة من سمات الاقتصاد الإسرائيلي منذ أنشاء الدولة الإسرائيلية نظراً لمدى ارتفاع قيمة الواردات من الأسلحة و نظراً لمدى اعتماد كل من الاستهلاك المحلي و الصادرات بدرجة كبيرة على الاستيراد ايضا ، و استمر العجز في تزايد مستمر رغم مدى ارتفاع معدل الزيادة في الصادرات في اطار استمرار اعتماد إسرائيل على تمويل هذا العجز على تدفق المعونات و التعويضات و التحويلات الأجنبية حيث قدر ما تحصلت عليه إسرائيل من رؤوس الأموال الأجنبية خلال فترة العشرين سنة الممتدة بين 50-1970 بنحو 500 مليون دولار سنوياً في المتوسط ([13]) ، و نلاحظ هناك عجز في تدفق رؤوس الأموال من الخارج عن سد العجز في ميزان العمليات الجارية و هو أحد مكونات ميزان المدفوعات منذ قيام دولة إسرائيل حيث تحقق لأول مرة عجز في ميزان المدفوعات ، و مدى انخفض الاحتياطي من العملات الأجنبية في الفترة القصيرة الممتدة بين عامي 68-1969 ، أن انخفاض معدل تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى إسرائيل في النصف الأول من عقد السبعينات و انخفاض نصيب إسرائيل من مجموع صادرات الولايات المتحدة الأمريكية إلى منطقة الشرق الأوسط نظراً لاندلاع حرب الاستنزاف و حرب اكتوبر سنة 1973 م ، و أصبح مطلباً انهاء المقاطعة العربية لإسرائيل أكثر الحاح بهدف التصدير إلى البلاد العربية و الاستثمار فيها و ضرورة توفر الاستقرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط لفترة مناسبة من اجل اتاحة المجال لنمو الاقتصادي في البلاد العربية و المحافظة على رؤوس الأموال الأجنبية مما يدّلل على مدى أهمية تسوية النزاع العربي-الإسرائيلي و الفلسطيني-الإسرائيلي مطلباً اساسياً من الدول المتقدمة و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية نظراً لأنها قدمت العديد من المعونات الاقتصادية و العسكرية إلى إسرائيل منذ نشأتها إلى سنة 1973 م ، و يتضح ذلك في ازدياد العجز في الميزان التجاري بين إسرائيل و الولايات المتحدة الأمريكية نظراً لان المعونات الممنوحة إلى إسرائيل الحقت بالاقتصاد الأمريكي أعباء متزايدة نظراً لان لتدهور ميزان المدفوعات الأمريكية و نظراً لأنها لم يعد هناك أسباب لتبريره لاسيما مع تحقيق الاقتصاد الإسرائيلي التقدم و النجاح مما طرح العديد من التساؤلات في أذهان المسؤولين الأمريكيين عن كيفية تدهور ميزان المدفوعات الأمريكية و عجزه و تحمل الأعباء المادية لدولة لا تشكل الدول العربية الشرق أوسطية تهديداً لها نظراً لان إسرائيل أصبحت دولة تشكل الدول العربية الشرق أوسطية تهديداً لها نظراً لان إسرائيل أصبحت دولة صناعية متقدمة كبرى و أن لم تصل إلى مرتبة الدول الصناعية الكبرى ، و هذا بطبيعة الحال يحتم التخفيف من هذه الأعباء المادية أو إلغاءها خصوصاً في اطار عقد معاهدة ” كامب ديفيد ” بين إسرائيل و مصر التي سوف تفتح الافاق إمام الاقتصاد الإسرائيلي و يحقق الاستقلال الاقتصادي لإسرائيل عن الاقتصاد الأمريكي و كافة الدول المتقدمة .
ثانياً : العلاقات الاقتصادية بين الدول الغنية و الفقيرة
أن العلاقات الاقتصادية بين الدول الغنية و الدول الفقيرة هي علاقات غير متكافئة نظراً لان الجزء الأكبر منها ينعكس ايجابياً على الدول الغنية و لا يمكننا إلقاء المسؤولية الاقتصادية في العلاقات الاقتصادية القائمة بينهما في تفسير عجز الدول الفقيرة عن اشباع الحاجات الأساسية للسكان الأقل دخلاً نظراً للدخول في علاقات اقتصادية غير متكافئة أو علاقات قائمة على الاستغلال الأمثل و هناك بعض الأفكار التي ترجح بأنها من الأفضل لهذه الفئة من السكان عدم إقامة علاقة اقتصادية مع الدول الغنية على الاطلاق (*) ، كما هناك العديد من الانتقادات إلى شروط التجارة الدولية بين الدول الصناعية المتقدمة و الدول الفقيرة و حركة رؤوس الأموال بينها لاسيما الانتقادات التي تتمحور حول محدودية المنافع التي تتحصل عليها الدول الأقل نمواً من إقامة علاقات اقتصادية مع الدول الغنية ، أن التعارض الحقيقي بين نمط التنمية الذي يستند على الانفتاح الاقتصادي على الدول الصناعية المتقدمة و بين كيفية تحقيق هدف اشباع الحاجات الأساسية ، يرتكز بشكل أساسي على أن الدول الصناعية المتقدمة رغم كونها تتمتع بوفرة السلع و الخدمات إلا القدر المحدود الذي يمكن به اشباع الحاجات الأساسية للسكان الأقل دخلاً في الدول الفقيرة و تحرص الدول الصناعية في ذات الوقت على تصريفه بمعنى أن الدول الصناعية تقوم بإنتاج بشكل فعلي الكمالي و الضروري و تتمتع بالقدرة على اتقان فنون انتاج السلع الضرورية و الكمالية على حد السواء ، إلا أنها نظراً لبلوغها مرحلة النمو المتقدمة لا تستطيع تحقيق أكبر نفع من بيع السلع التي تعدّها البلاد الفقيرة أكثر ضرورة و لا فنون الانتاج التي تعدّها البلاد الفقيرة أكثر مناسبة أي أن الدول الصناعية قد تقبل بإقامة علاقات تجارية مع الدول الفقيرة تبيع بمقتضاها سلعة أساسية و ضرورية كالقمح الذي يتوفر لديها فائض منه في معظم الاحيان بل يمكن أن تقوم بمنحها مجاناً في صورة معونات و لكن بشرط أن تكون البلاد المشترية أو المتلقية للمعونة زبوناً جيداً و تتمحور صورة الزبون الجيد حسب رؤية الدولة المتقدمة تكون على استعداد لشراء كميات وفيرة من السلع الأخرى التي يحتاجه البائع ” الدول المتقدمة ” إلى تصريفها و تحقق ربحاً عالياً مثل السيارات أو الأجهزة الكهربائية أو الأسلحة و في معظم الاحيان لا تلبي هذه السلع المفروضة شرائها الحاجات الضرورية الأساسية للبلاد المشترية أو المتلقية للمعونة ، و هذا يوضح كيفية تدفق السلع على الدول الفقيرة قد تؤدي وظيفة حقيقية في الدول المنتجة لها و بالمقابل لا تحقق وظيفة في الدول المستوردة لها ” الدول الفقيرة ” على سبيل المثال في منتصف القرن التاسع عشر اضطر ” الخديوي المصري ” تحت ضغوطات من الشركات البريطانية كانت تبحث عن أسواق من اجل
تصريف معدات السكك الحديدية إلى التعاقد مع الشركة البريطانية بهدف مد خطوط السكك الحديدية بين القاهرة و السويس لم يكن للاقتصاد المصري آنذاك في أدنى حاجة إليه و في عقد السبعينات من القرن العشرين تعاقدت الدول الفقيرة تحت ضغط بائعي الأسلحة على تزويد جيشها بأحدث الأسلحة بغرض الاستعداد لحرب لا تقوم ، و تعدّ ” تجربة مصر رائدة ” منذ عقد الخمسينيات من القرن العشرين حيث حاولت توفير التمويل الضروري من اجل بناء السد العالي بقروض البنك الدولي و معونات الدول الغربية و كان أحد الأهداف الأساسية لبناء السد العالي هو تحقيق اشباع الحاجات الأساسية و لم يتم الاعتراض من قبل البنك الدولي أو الدول الغربية على مبدأ تمويله إلا أنها اشترطت ضرورة قبول مصر نوعاً من الوصاية تتمحور حول السياسة الاقتصادية الواجب اتباعها حيث تم اشترط قبول دخول السلع و استثمارات من نوع آخر ، أما تجربة شيلي ” سلفادور أليندي ” 1970-1973 ، تعدّ أفضل مثال على موقف هبات المعونة الدولية من دولة تطلب منها معونات من اجل اشباع الحاجات الأساسية و ترفض في ذات الوقت فتح المجال للسلع و الاستثمارات الأجنبية دون تمييز و في الاجتماع السنوي لمجلس محافظي البنك الدولي و صندوق النقد الدولي الذ عقد في واشنطن بتاريخ 28/9/1972 فقد تكلم مندوب شيلي في عهد ” سلفادور أليندي ” حيث رحب بمدى تأكيد رئيس البنك الدولي على التناقض الواضح بين ارتفاع معدلات النمو في الدول النامية و مدى فشلها في رفع مستوى المعيشة لفئات الدخل الدنيا و اضاف ” إن حكومة شيلي الحالية قد قامت بجهود كبيرة للتغلب على هذه المشكلة . ففي 1971 و بعد سنوات طويلة من الركود الاقتصادي بلغ معدل النمو في شيلي أكثر من 8% و انخفض معدل البطالة ، بعد ان كان يزيد على 8% ، إلى أقل من 4% ، و تحقق تحسن ملحوظ جدا في توزيع الدخل لصالح تلك النسبة الكبيرة من السكان منخفضة الدخل التي اشار إليها السيد ماكنمارا … و مع ذلك فإنه خلال الاثني و عشرين شهرا التي مرت على الحكومة الحالية في شيلي ، لم تتلق شيلي قرضا واحدا جديدا من البنك الدولي ، على الرغم من تقديمها عددا كبيرا من الطلبات لتمويل مشروعات مدروسة و مفصلة ([14]) .
مما سبق يمكننا دراسة الآثار الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية المترتبة على العلاقات الاقتصادية بين الدول الغنية و الدول الفقيرة و الانفتاح الاقتصادي على الدول المتقدمة الصناعية ، و هي على التوالي :
اولاً : الآثار الاقتصادية الناتجة على العلاقات الاقتصادية بين الدول الغنية و الفقيرة ، و هي :
- عدم وجود درجات متعددة من الانفتاح الاقتصادي أو الانغلاق نظراً لان حرية الدولة الفقيرة في الاختيار ما تحصل عليها أو العكس محدودة للغاية نظراً لأنها أن أكدت على ضرورة حصولها على سلع و استثمارات ضرورية وحدها تم منع عنها الضروري و الكمالي و بالمقابل إذا لم تؤكد على ذلك تدفق إليها كافة السلع و الاستثمارات التي ليست في حاجة إليها .
- تتسم المفاوضات و المساومات الاقتصادية و التجارية بين الدول الفقيرة و الشركات الدولية بعدم جدوها و فعاليتها نظراً لان اقصى ما يمكن تحقيقه للدولة الفقيرة هو تحسين شروط الصفقة من خلال تقوية قدرتها التفاوضية إلا أنها لا يمكنها استرداد حريتها في تحديد الاستثمارات و تحديد نوعية السلع التي تقوم الشركات الدولية بأنتاجها .
- عدم اتاحة المجال في استيراد المعرفة الفنية و التكنولوجيا في ميدان استيراد السلع و رأس المال نظراً لعدم مصلحة الدول الصناعية اتاحة المجال للدولة فقيرة استيراد فنون الانتاج التي تتفق مع نسب عناصر الانتاج المتوفرة في الدولة الفقيرة نظراً لان ذلك ينعكس سلباً على الدول الصناعية و لا يتيح المجال لتصريف السلع كثيفة رأس المال التي تتمتع فيها الدول المتقدمة بأكبر ميزة نسبية من ناحية و لا يخلق طلباً على نوع محدد من الخبرات التي تتفوق فيها الدول المتقدمة بنوع خاص من ناحية ثانية و في حالة قبول الدولة الفقيرة على تطبيق فنون الانتاج التي تحرص الدول المتقدمة على تصريفه فإنها سوف لن تساهم مساهمة فعالة في رفع مستوى العمالة .
- عدم مراعاة الشركات الدولية التي تقوم بالاستثمار في الدولة الفقيرة بهدف التصدير كان ينبغي عليها مراعاة متطلبات الأسواق التي تصدر إليها من خلال كيفية اختيار الفن الانتاجي فإذا كانت تنتج في دولة فقيرة بغرض التصدير إلى دولة صناعية كما هو الحال في معظم الأحوال فإن فن الانتاج المناسب سوف يتسم بأنه كثيف الاستخدام لرأس المال و العمل الماهر إذا تم مقارنته بالفن الانتاجي الذي يتطلبه انتاج سلع للسوق المحلية ، و يسرى الامر في حالة كان كثيف الاستخدام للعمل غير الماهر إذا تم مقارنته بالفن الانتاجي الذي يستخدم في الصناعات المقابلة في الدول الصناعية .
- أن الشركات الدولية التي تقوم بالإنتاج لمختلف أذواق المستهلكين تلجأ إلى استيراد المواد الأولية المستوردة بدلاً من استخدام المواد الأولية المحلية مما يسبب عدم التوازن في ميزان المدفوعات و اضافة العديد من فرص العمالة التي كان يمكن تفاديها في حالة الزيادة في نسبة الطلب على المواد الأولية المحلية ، و يرجع ذلك إلى أن الشركات الدولية تعمد إلى تطبيق فنون الانتاج في الدول الفقيرة ذات المطبقة في دولها نظراً لمجموعة من الأسباب من أهمها ، أن مديري و مهندسين الشركات الدولية لا يتمتعون في معظم الأحوال بالمعرفة أو الثقة إلا بفنون الانتاج المعتمدة لديهم ، مدى حرصهم على أن تكون سلعهم ذات نمط واحد في كل مكان الذي يتم الانتاج فيها نظراً لان ذلك يؤدي إلى تخفيض بعض نفقات الانتاج و التوزيع ، و أن حجم عملياتها في الدول الفقيرة لا يشكل في معظم الأحوال إلا نسبة محدودة من اجمالي انتاجها و لا يتطلب عناء تكييف طرق الانتاج و الآلات المستخدمة بما يتناسب مع ظروف الدولة الفقيرة .
السؤال الذي يطرح : لماذا نتوقع من التجارة الدولية أن تنتهج سياسات اقتصادية لإشباع الحاجات الأساسية في الدول الفقيرة و توقع من الاستثمارات الأجنبية أن تعمد إلى أعداد خطط لتوظيف كل عمال الدول الفقيرة ؟
السؤال الآخر : لماذا لا تتم محاولة جذب أكبر قدر من الاستثمارات الأجنبية مهما كان تأثيرها على العمالة محدودة ، و اطلاق حرية استيراد السلع مهما كانت سلعاً غير ضرورية ، و البحث على أفضل السبل لاستخدام مواردنا الذاتية في اتمام المهمة و تشغيل بقية العمال في الانتاج ما نسعى إلى انتاجه من السلع الضروري ؟
أن البدلين الوحيدين المتاحين إمام الدولة الفقيرة هما :
- ترك الشركات الدولية تفعل ما تشاء بموارد الدول الفقيرة .
- أن تتولى الدول الفقيرة شؤون اقتصادها حكومات مستقلة إلا أنها ضعيفة لا تستطيع توجيه مواردها إلى استثمارات فعالة .
خلاصة القول : يفترض استحالة إقامة حكومات وطنية تغلق أبوابها إمام الشركات الدولية و تنتهج سياسة أنشاء قنوات ضرورية من اجل تعبئة المدخرات المحلية و توجيهها إلى فروع الانتاج الضروري ، إلا أن تجارب دول العالم الثالث و الدول العربية توضح امكانية فعل ذلك إلا أن صمود حكومات هذه الدول يعدّ ضعيفة نظراً لسقوط معظم الحكومات الوطنية كان نتيجة تدخل الشركات الدولية ذاتها .
ثانياً : الآثار الثقافية و الاجتماعية الناتجة على العلاقات الاقتصادية بين الدول الغنية و الدول الفقيرة :
مدى الاهتمام بدراسة تأثير نمط الانتاج و سياسة الاستيراد على نمط توزيع الدخل و كيفية أن العلاقة بين الانتاج و توزيع الدخل تخضع لأدوات التحليل للاقتصاديين نظراً لان توزيع الدخل يحدد شكل الطلب على مختلف السلع و الخدمات من خلال مرونة الطلب الداخلية مع تأثير الطلب على الربحية النسبية لمختلف فروع الانتاج و يتم تحديدها استجابة للمنتجين ذلك الطلب من خلال مدى مرونة العرض و توفر عناصر الانتاج ، و يتم دراسة توزيع الدخل نظراً لأنها يحدد حجم الميل إلى الاستيراد و نوع السلع المستوردة و بالنسبة إلى العلاقة العكسية التي تتمحور حول التركيز على أثر توزيع الدخل على نمط الانتاج و معدل نموه و مدى تأثير توزيع الدخل على الميل إلى الاستيراد ، و تأثير نمط الانتاج و سياسة الاستيراد على توزيع الدخل الذي يمكن تفسيرها من خلال ادخال مفهوم السلطة أو القوة كعامل اساسي .
أن قرار التوزيع هو جزء لا يتجزأ من قرار الانتاج و القرارات المحددة لسياسة الاستيراد نذكر على سبيل المثال أن السلع الكهربائية هي منتجات ليست ذات قيمة لسكان الأرياف نظراً لعدم وصول التيار الكهربائي إلى مساكنهم و هذا يتطلب عند اتخاذ قرارات تتعلق بالإنتاج أو الاستيراد أن يتم اخضاع نمط توزيع الدخل للتغيير بهدف توليد الدخول الكافية لاستهلاك هذه المنتجات و بالمقابل إذا كان التوزيع القائم لا يتيح المجال لخلق سوق كافية تساعد المهتمين باستمرارية الانتاج و الاستيراد فإما أن يتجهوا إلى خفض أسعارها أو أن يعملوا على إعادة التوزيع لصالح مستهلكين جدد ، هذا يوضح كيفية ادخال عنصر القوة في العلاقة بين الانتاج و التوزيع إلا إذا كان نمط توزيع الدخل في دولة منعزلة عن العالم لا يربطها بدول العالم إلا علاقة ضعيفة ينبغي أن تكون محكوماً بالتركيب الطبقي و نوع توزيع القوي السياسية و الاقتصادية داخل الدولة المنعزلة و بالمقابل في دولة ذات علاقة وطيدة بدول العالم يستوجب أن تكون محكوماً بالتركيب الطبقي و نوع توزيع القوى السياسية و الاقتصادية و بتوزيع القوى بين هذه الدولة و دول العالم ، و من غير المنطقي تصور أن يقف الأجنبي الذي يسعى إلى تصريف سلعة موقف غير مبالي من نمط توزيع الدخل في دولة يسعى إلى غزوها بسلعة و إذا كانت السلع و الاستثمارات الأجنبية على مشارف أبواب دولة ما ينبغي أعداد الطبقة القادرة من الناحية المالية بفرض استقبالها بصرف النظر عن الاستعدادات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية الضرورية لذلك الاستقبال و من غير المعقول تصور حكومة دولة فقيرة يمكن أن تتيح المجال لحرية التجارة و الاستثمارات و المعونات الأجنبية و تتمكن من الاحتفاظ لذاتها في ذات الوقت بحرية تطبيق ما تشاء في الداخل من اجراءات بهدف توزيع الدخل لصالح الفقراء .
أن فنون الانتاج التي تقوم بتطبيقها الاستثمارات الأجنبية في الدولة الفقيرة تتكفل توماتيكا بتحقيق جزء من إعادة التوزيع المطلوب من اجل فئات الدخل العليا نظراً لأنها تؤدي كثافة استخدامها لرأس المال و العمل الماهر إلى أن تكون الأرباح و الفوائد و مرتبات الموظفين و العمال المهرة نسبة عالية مما تنتجه من دخول مقارنة بما تنتجه من دخل للعمال غير المهرة إلا أن هذا لا يكفى لأحداث إعادة توزيع الدخل المطلوب .
أن صعوبة التوفيق بين دعوة بعض أنصار الانفتاح الاقتصادي إلى تحرير القطاع الخاص الأجنبي و الوطني من القيود و تحرير المبادلات التجارية مع الدول الصناعية و توجيه الدعوة في ذات الوقت إلى التخفيف من وطأة أعباء المعيشة على الطبقات الدنيا و تحقيق العدالة في توزيع الدخل أن إلغاء القيود على نشاط القطاع الخاص و على الاستثمارات الأجنبية و توفير الحوافز الكافية لها ينبغي أن يشمل تحريرها من التقيد بحد أدنى الأجور و توفير مزايا مادية و عينية للعمال و من التقيد باستخدام فنون الانتاج التي توفر فرص جديدة للعمل و ضرورة التأكيد على مسؤولية دعم السلع و توظيف الخريجين عن عجز الموازنة الحكومية لا يتماشى مع الدعوة إلى التخفيف من أعباء الطبقات الفقيرة بل أن الذي يتماشى مع التخفيف من هذه الأعباء مدى التأكيد على ضغط النفقات
العامة غير الضرورية و الانفاق الحكومي الطائل ، و مدى زيادة اسعار الضرائب على الضرائب على الدخل ، و يتبين أن سياسة الانفتاح الاقتصادي لا تساعد على ذلك ، و لا يقصد بالانفتاح الاقتصادي عدم فرض أية قيود على نشاط القطاع الخاص أو الاستثمار الأجنبي بل يمكن اقترنه بإلغاء العديد من هذه القيود بالإصرار و مدى التأكيد على التزام نشاط القطاع الخاص بالأهداف الاجتماعية التي تحددها الدولة و ليس من الصواب تصور دولة فقيرة تتمتع بدرجة عالية من حرية اختيار و تحديد درجة تبعيتها للخارج أو تحقيقيها الاستقلال الاقتصادي عن العالم الخارجي و الواقع بأنه في حالة قبول دولة درجة معينة من التبعية الاقتصادية فأنها سوف تكون ذات تبعية كاملة في يوم ما ، أما في حالة اختارت النضال الاقتصادي بهدف الوصول إلى درجة معينة من الاستقلال الاقتصادي فإنها سوف تصل إلى الهدف المنشود .
توضح العلاقة بين الانفتاح الاقتصادي و الدخل كيفية تمكنت معظم البلاد العربية من تحقيق معدلات عالية أو معقولة للنمو خلال ربع قرن التاسع عشر 1885-1900 عن تحقيق تقدم في اشباع الحاجات الأساسية لفئات الدخل الدنيا من ناحية و توضح كيفية ارتبط التجارب العربية التي انتهجت سياسة الانغلاق نسبياً تجاه الدول الصناعية رغم قصر امدها بدرجة أكبر من النجاح المتحقق في اشباع الحاجات الأساسية و تميزت هذه التجارب بالجدية و أطولها عمراً طيلة الربع القرن .
و تعدّ التجربة المصرية خلال العشر سنوات 55-1965 من أنجح تجارب التنمية العربية في الارتفاع بمستوى معيشة الفئات الأقل دخلا مقارنة بما كانت عليها مع بداية سنة 1955 م و خلال العشر السنوات تم فرض قيودها صارمة على الواردات و الاستثمارات الأجنبية الخاصة و كانت الاستثناءات فيها من القيود التي تتعلق بشكل أساسي بسلع و الاستثمارات الضرورية و تم ملاحظة كيفية شهدت هذه الفترة أعلى معدل للنمو في الناتج القومي خلال ما يزيد على نصف قرن و بالمقابل شهدت توسعاً لم تشهدها مصر من قبل في قطاع الخدمات الصحية و التعليمية و الإسكان الشعبي و تعميم التعليم مجاناً و عدل نظام الضرائب تعديلاً جذرياً لصالح فئات الدخل الدنيا ، و تطبيق الاصلاح الزراعي و مبدأ اشتراك العمال الصناعيين في الأرباح و غير ذلك ، و في منتصف عقد الستينات من القرن العشرين تراجعت جهود الحكومة المصرية في مجال توزيع الدخل نظراً لمدى تعرضها لضغوطات الخارجية الهادفة إلى تغيير سياستها الاقتصادية و الخارجية ، و عند المقارنة بين معدل نمو العمالة في مصر في سنوات الخطة الخمسية الأولى و معدل نموها في السنوات التي شهدت بداية الانفتاح الاقتصادي على الدول المتقدمة في الفترة الممتدة بين 70-1975 م ازداد مجموع العمالة بمعدل سنوي يبلغ نحو نصف معدل الزيادة في الفترة الممتدة 59-1965 م و يتجلى تفوق عقد السبعينات على العقد الأسبق من القرن العشرين في قطاعات الموافق العامة و التجارة و المال ، و نصل إلى نتيجة مفادها أن الاعتراض على الانفتاح الاقتصادي يتمحور حول الحقيقية السلبية التي تتمحور حول اتاحة المجال دون قيد أو شرط إمام السلع المعروضة من الدول الصناعية المتقدمة لن يتم إيجاد إلا السلع القليلة التي يتم الاحتياج إليها بشكل فعلي ناهيك على أن تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي تجعل من الصعوبة القيام بإشباع الحاجات الأساسية بما تبقي من لموارد نظراً لأنها يطرد عوامل الانتاج التي يملكها من ميدان اشباع الحاجات الأساسية إلى اشباع حاجات غير واردة على عقل و تفكير المواطن و من ثم يطرد القوة الشرائية المحدودة من سوق الحاجات الأساسية إلى سوق السلع التي يقوم الأجنبي ببيعها ، و العامل الأهم هو العامل النفسي الذي يؤثر على تفكير المواطن و يحول رغبات و ميول و القيم إلى استهلاك السلع المعروضة للبيع المتعارضة مع الرغبات و الميول و القيم الراسخة في تفكير و عقل المواطن و هو ما يطلق عليها الغزو النفسي الاجتماعي الثقافي ، و تتضح مشكلة الدولة الفقيرة في علاقتها بالدول الصناعية في أن اعتبار الاولى لا تجد ما تسعى الثانية إلى تصريف ما تحتاجها الأولى و هي الدول الفقيرة بصورة فعلية ، و أن مشكلة الدول الصناعية في علاقتها بالدول الفقيرة هو أن الأخيرة ليس لديها الرغبة الكافية في ما تريد تصريفه أذن تتمحور المشكلة حول كيفية إيجاد أفضل السبل لبث الرغبة في الشراء و ليس بالقدرة على الشراء ، و هذا يبين أن المشكلة لا يتم إيجاد حلول لها بمجرد جعل توزيع الدخل أكثر سواء و هذه تعدّ عملية طرد أخرى ميدانها ليس ميدان عناصر الانتاج أو القوة الشرائية بل ميدان النفس البشرية و كيفية الوصول إلى مرحلة الرضاء و القبول الفعلي لإشباع الحاجات الأساسية نظراً لان النفس البشرية لا يمكن أن ترغب في الشيء و نقيضه في ذات الوقت كما أن النفس البشرية ذات طاقات محدودة ، و عناصر الانتاج و القوة الشرائية محدودة ايضا ، من الأمثلة إذا أردت أن تعلم المواطن العربي كيفية استهلاك و الاتجاه إلى المعمار الغربي ينبغي أن تعلمه كيفية كراهية المعمار الاسلامي العربي ، بمعنى ادق إذا أردت أن تخلق مستهلكاً جيداً و مضموناً للسلع الغربية عليك أن تخلق اولاً شخصاً غربي الفكر و غربي الثقافة ([15]) .
و الجدير بالذكر ، منذ خضوع معظم البلدان العربية لأول انفتاح اقتصادي خضعت لعملية مستمرة من التغريب الثقافي و الاجتماعي تبعا لذلك ، إلا أنها يستوجب التفريق في المصطلحات بين مصطلح التغريب و مصطلح التمدين أو التحديث أو بناء مجتمع عصري ، و يتضح في عقد السبعينات نظراً لان المستثمر الغربي انتهاج منذ البداية في اغلب البلدان العربية سياسة كيفية استغلال المواد الأولية و تصريف بعض السلع الاستهلاكية و إقامة الاستثمارات الضرورية ، و هكذا انحصر الغزو الثقافي و الاجتماعي في هذه الحدود ، و تركزت الاستثمارات الأجنبية بشكل أساسي في مجالات تقوم على تطبيق الانجازات الأولى للثورة الصناعية و التكنولوجية في أوروبا ، نذكر أهمها مد السكك الحديدية و خطوط التلغراف و شق الطرق و توسيع الموانئ ، كما لم تكن الفجوة الفاصلة بين متوسط الدخل في الدولة الغازية و بين الدول التي يطبق عليها الغزو الثقافي ، أو بين درجة التقدم العلمي و التكنولوجي أو بين العادات الاستهلاكية في كل منهما ، و اتضحت الفجوة الفاصلة من الاتساع مع نهاية عقد السبعينات من القرن العشرين و تأثرت درجة التفاوت في الدخول
داخل البلاد الخاضعة بمدى اتساع الفجوة بين تكاليف انتاج السلع المراد تصريفها و نفقات الاستثمار المطلوب القيام به و بين متوسط الدخل في البلاد الخاضعة نظراً لأنها تحددت بطبيعة الغزو الثقافي و درجة التغريب بطبيعة نوعية السلع و الاستثمارات و مدى التفاوت بين قيم المجتمعات المستعِمرة و المستعَمرة و عاداتها الاستهلاكية و ناتج عن ذلك ازدياد درجة التفاوت في الدخول مع ازدياد درجة التفاوت بين متوسط الدخل في الدولة المحتلة ” المستعِمرة ” و الدولة الواقعة تحت وطأة الاحتلال ” المستعَمرة ” ، و تبعا لذلك تزداد درجة التغريب قوة كلما ازدادت درجة التعارض ، و ناتج عن ذلك ازدياد درجة التفاوت في الدخول مع ازدياد درجة التفاوت بين متوسط الدخل في الدولة المحتلة ” المستعِمرة ” و الدولة الواقعة تحت وطأة الاحتلال ” المستعَمرة ” ، و تبعا لذلك تزداد درجة التغريب قوة كلما ازدادت درجة التعارض بين طبيعة السلع المراد تصريفها و بين العادات الاستهلاكية و القيم الاجتماعية في الدولة التي يراد إقامة الاستثمارات الضرورية منها مد خطوط السكك الحديدية أو تصريف بعض السلع الاستهلاكية حيث أن تصريف المنسوجات الأوروبية لم يكن يتطلب أحداث تغيير في العادات و القيم الاستهلاكية و الاجتماعية الذي يتطلب تصريف التلفزيون الملون نظراً لفارق المكان الذي يتم فيها تصريف المنسوجات الأوروبية نظراً لان الانفتاح الاقتصادي من قبل دول أوروبا الشرقية و الاتحاد السوفياتي على الاقتصاد الغربي لا يشكل خطر نظراً لانتمائهم إلى الحضارة الغربية و الفجوة الفاصلة بينهما في متوسط الدخل ليست بذات درجة اتساع الفجوة الفاصلة بين متوسط الدخل في معظم البلاد العربية و بين الدول الغربية إلا أن المدفعين على البلاد العربية يجدون بعض السند نظراً لانفتاح دول أوروبا الشرقية و الاتحاد السوفياتي رغم كل السلبيات و التحديات المترتبة على البلاد العربية نتيجة تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي ، و يرجع اصرار المدفعين نظراً لبلوغ التطور الاقتصادي في الدول الصناعية المتقدمة مرحلة لا يمكن تحديد وظيفة السلعة الأساسية لإشباع الحاجات المادية مقدماً بمعنى آخر تستجيب لها صفات موضوعية في ذات السلعة يتوقعها المستهلك سلفاً و يمكن التحقق من مدى توافرها بل تحولت السلع المنتجة نتيجة التطور الاقتصادي إلى مجرد رموز تتعلق برغبات المستهلك الحقيقية أو الوهمية و ميولها خصوصاً مع الحملات الدعائية مما قد تكون ليس لهذه السلع علاقة بصفات السلع اشباع الحاجات الأساسية المادية ، على سبيل المثال ، طراز السيارة و المسكن و أنواع الأطعمة أصبحت تعرض للبيع و الشراء ليس على أساس مدى اشباعها للحاجة إلى التنقل أو السكن أو التغذية بل على أساس مدى استجابتها للحاجة إلى مجرد التمييز و الاختلاف ، و إذا كانت الوظيفية القديمة للسلعة تتمحور حول الاستجابة لحاجات طبيعية و حقيقية فقد كانت السلعة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر 1885-1900 ، و خلال فترات الازدهار و النمو تعمر أطول فترة ممكنة ، أما الوظيفية الجديدة للسلعة التي تتركز حول مجرد الاستجابة لحاجات عاطفية أو وهمية تتطلب عكس السلعة القديمة التي تستخدم لحاجات اشباع حاجات حيث تتطلب السلعة المنتجة استجابة لحاجات عاطفية أو وهمية أن تستبدل السلعة بغيرها في أقصر وقت ممكن و كلا السلعتين القديمة الجديدة تتطلب شروط النجاح الأساسية في تصريف السلع ليس لوجود طبقة لها من فائض الدخل و الفراغ ما يمكنها من الاستسلام لأهواء ذلك النوع من الاستهلاك و مدى قدرة المنتج على
تكييف رغباتها و تشكيلها و كيفية تطويع المستهلك لمتطلبات كل سلعة جديدة ، مما سبق يتضح أن الانفتاح الاقتصادي الجديد يرتبط بتغريب المجتمع العربي بدرجة أكثر مما شهدتها البلاد العربي خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر نظراً لمجموعة من الأسباب نذكر أهمها ، ضرورة أعداد طبقة للاستهلاك أكبر حجماً تتناسب مع الصناعات الحديثة المطلوب تصريفها ، أعداد مستهلك ترسخت فيه أذواق المستهلك الغربي ، ضرورة أعداد المستهلك الذي يتقين استخدام اللغات الأجنبية و سهولة أكثر في التنقل بين دول العالم ، أن استهلاك السيارات الخاصة يؤدي إلى اقتطاع أجزاء أكبر من المدن العربية مما كان يتطلبه مد خطوط السكك الحديدية ، أن إقامة صناعات التصدير الحديثة تؤدي إلى تلوث البيئة العربية بدرجة أكثر من تلوثها نتيجة إقامة خزانات الري أو توسيع الموانئ ، أن استهلاك الآلات الحديثة قد تؤدي إلى تغير العادات الاستهلاكية و قد تكون ذات تأثير ايجابي أو سلبي و هذا يتوقف على نوعية السلع ، أن استخدام العمل العربي الماهر في الشركات الأجنبية يتطلب نوعاً من الولاء لم يكن يطلب من العمال اليدويين الذين قاموا بحفر القنوات أو تعبئة و تفريغ السفن ، و هذا يوضح الأسباب الأساسية وراء المطالبة بنبذ الدعوة إلى القومية العربية و التقليل الشأن بالشعور بالولاء للوطن و الدعوة أن جميع الأمم تنتمي إلى عالم واحد يواجه مصير مشتركاً رغم أن كل أمة من الأمم على المستوى العالمي تسعى إلى تحقيق أهداف و مصالح مغايرة لمعظم الأمم لم يتم المطالبة بها قبل قرن من الزمن إلا أننا كلنا ذلك الانسان المحترم الذي يسعى للعيش بسلام و أمن في كل أنحاء العالم ، من الأمثلة ، أن المؤسسات الدولية عملت على الترويج لأيديولوجية الشركات الدولية و هذه الأيديولوجية تتخطى الحدود القومية مثلما تتخطاها المنتجات و تستبدل الولاء للأمة و الوطن بالولاء للشركة أو المهنة حيث يتم منح العاملين فيها مجموعة من الامتيازات و العلامات المميزة التي حلت محل العلامات التي ميزت جنسية عن أخرى و تحثهم على ضرورة القبول بخدمة الشركة في كافة فروعها ، و تعدّ اختلاف الأذواق بين الأمم من المضايقات التي تؤدي إلى ارتفاع متوسط النفقة ، و هذا يوضح أنها أيديولوجية لا تقتصر كما هو الحال في مراحل الرأسمالية الأولى على احلال ثقافة محل ثقافة أخرى بل هي أيديولوجية ” نفي الثقافة ” ، و الدليل على ذلك أن المؤسسات الاقليمية و الدولية و الشركات الأجنبية عند قبولها لمجموعة من مثقفي العالم الثالث تنتج سياسة انفصالهم عن مجتمعاتهم من خلال إغراقهم في أعمال لا تساهم في التطور الفكري و الثقافي لمجتمعاتهم نظراً لمنحهم مرتبات خيالية مع منحهم المزايا النقدية و العينية الامر الذي يؤدي إلى انفصالهم النفسي عن مجتمعاتهم التي ينتمون إليها لاسيما مع اتاحة المجال لهم لقيام برحلات حول العالم و حضور المؤتمرات الاقليمية و الدولية مع وفرة الكسب المادي و توفير سبل الراحة و تكليفهم بأعمال محترمة تنسب الشهادات التي تحصلوا عليها في معظم الاحيان حيث يتم تكليفها بدراسات ذات صلة وثيقة بمشاكل شعوبهم و ذات تأثير في تنمية مجتمعاتهم و يتم نشر دراساتهم في دور النشر العالمية نظراً لأنها تحمل اسم المؤسسة الدولية أو المؤسسة الأمريكية أو الشركات الدولية و عندئذ يحظى باحترام أهم بلده و هذا ينعكس سلباً على المثقف العربي و يصبح في حالة التشتت بين الفرص و المنح العلمية و المادية التي يعرضه الأجنبي و بين جحود و عدم اكتراث حكومة بلده و تكون
النتيجة اختيار الحل الأول و هو ما يقوم بتبريره إمام ذاته و معارفه و يتصور أنها هجرة مؤقتة إلى أن تقوم حكومة بلده و أهل بلده بتطبيق سياسات الاصلاح الشامل نظراً لان ذلك يساعد حكومة بلده و أهله على التمييز بين المجد و المهمل ، العالم و الجاهل و يتحول المثقف إلى عامل أجير في هذه المؤسسات الاقليمية و الدولية و الشركات الأجنبية يبيع المعرفة لمن يرديها لا يدرك أين و كيف و متى سوف تستخدم ، التي كان من المفترض أن يدرسه و يطبقه في بلده و يساهم في تنمية بلده و الرفع من شأنه مع نخبة من المثقفين في بلده .
التاريخ السياسي و الاقتصادي يوضح لنا العديد من التجارب التي خطت خطوات التجربة الغربية في النمو سواء اعتمدت على الملكية الفردية أو ملكية الدولة و حققت النجاح المطلوب و تمكنت من تجنب السلبيات الثقافية و الاجتماعية المترتبة على ذلك أو بروز تفاوت غير مبرر في الدخل أو السلطة و تفاديا الوقوع في خطر التحلل الحضاري و تشويه شخصية المواطن و الأمة ، أما فيما يتعلق برفض الانفتاح الاقتصادي ينبغي أن يرتكز على أساس منطلق حضاري و ليس منطلق اقتصادي ، أما الخلاف بين المعارضين للانفتاح الاقتصادي و دعاة الانفتاح الاقتصادي فهو ليس خلاف يتمحور حول الأفق الزمني الذي يتطلب تلبية حاجات الجزء الأفقر من السكان نظراً لان ذلك لا يزيد محصلته على الخلاف حول أي السياسيين أسرع في تحقيق هذا الهدف و أن التركيز في نقد سياسة الانفتاح الاقتصادي في هذا الجانب يشبه نقد العلاقة بين الدول الغنية و الدول الفقيرة حول كيفية استغلال الحديد و معدل التبادل الدولي غير المتكافئ و مدى ضآلة حجم المعونات الأجنبية و سوء توزيعها بين الدول الفقيرة و غير ذلك ، و يطبق هذا الموقف على ضرورة التركيز على تقوية مركز المفاوضة مع الشركات الدولية نظراً لان بعض المفاوضين الذي يركزون على ضرورة اشباع الحاجات الأساسية ينتهي بالجميع الامر إلى اعتبار هذا الهدف غير ضروري إلا في حالة كان ذات تأثير على الناتج القومي الاجمالي و بدلاً من أن يكون اشباع الحاجات الأساسية هو هدف التنمية الاقتصادية الأساسي في هذه المجتمعات يصبح أحد المزايا الأساسية لهذا الاشباع هو رفع معدل النمو ، و بدلاً من التأكيد على ضرورة رفع مستوى التغذية و الصحة و التعليم هدف أساسي لا يحتاج إلى تبرير أصبحت تعدّ استثمارات في مجال الخدمات تهدف إلى رفع من انتاجية رأس المال البشري ، و هذا ادى إلى تشويه فكرة العدالة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية ، و أصبح الاهتمام بكيفية إعادة توزيع الدخل ، و بدلاً من السؤال عن طبيعة المنتجات أو إذا كانت تلبي الحاجات الحقيقية للإنسان أو لا تلبيها أصبح اهتمام الأنسان هو تقليد الآخر بصرف النظر إذا كان ذلك يحتاجه فعلاً أو لا يحتاجه و هذا يوضح لنا أن التقدم ليس هو الزيادة في الناتج القومي و ليس النمو مع إعادة التوزيع بل هو كما عرضه عالم انثروبولوجي ” نيس ” التحقيق المتزايد لقيم المجتمع و ثقافته الخاصة ([16]) ، مما سبق يتبين ، أن الوصول إلى درجة التنمية المستقلة ليس هو رفض المفهوم الغربي للتقدم بل انتهاج
سياسات الانفتاح الاقتصادي التي لا تنعكس سلباً على المواطن و المجتمع من الناحية الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية و ترسيخ الشعور ” بالأمن الإنساني ” في كافة المجالات ، و تحقيق الاستقرار و الأمان و إقامة العلاقات الاجتماعية السليمة و الاتصال الاجتماعي الطبيعي و الثبات في القيم الأخلاقية و الاجتماعية التي مصدرها هو ” القيم العربية ” ، و هكذا لا يتم اتاحة المجال لاحلال الثقافة الغربية محل ثقافتنا الوطنية بل يكون عامل الاختيار في الانفتاح الاقتصادي مستندة على اتاحة المجال لمثقفي الأمة العربية في أعداد الدراسات و تطبيقها في دولهم و مجتمعاتهم و لكل أمة خلال تطبيقها سياسات الانفتاح الاقتصادي و سعيها نحو التقدم ،و المحافظة على القيم الحضارية ايضا إلا أن هذا الهدف الحضاري يتطلب هدف مادي أساسي يتمثل في آمرين أساسيين :
- رفع متوسط الدخل .
- اشباع الحاجات المادية .
و يعدّ الهدف الحضاري شرط أساسي لتحقيق الهدف المادي ذاته نظراً لان استسلام أمة لغزو و ثقافة غربية يؤدي إلى فقدان مواطنين الأمة لثقتهم في ثقافتهم الخاصة على سائر الأمم و فقدان شروط النهضة و التقدم إلا أن معظم السياسيين و الاقتصاديين تجاهلوا مدى أهمية هذا العامل الأساسي ، و تم التركيز على كيفية ارتفاع معدل الادخار و الاستثمار أو توفر الكفاءات و المهارات أو تطوير فنون الانتاج و غير ذلك ، و هذه تغيرات ميكانيكية محدودة و يعدّ ذلك أحد النتائج الأساسية لطاقة نفسية تتطلب تحليل السياسيين و المثقفين و الاجتماعيين و ليس الاقتصاديين أي أنها تتطلب الهدف الحضاري الذي يؤدي إلى تحقيق الهدف المادي الأساسي أي توفر ” الإرادة الحضارية ” و هو ما يطلق عليها ” جمال الدين الافغاني ” و ” محمد عبده ” التعصب أي ” التعصب الأيجابي ” و تم وصف العصبية من كلاهما بأنها إذا ضعفت العصبية في قوم رماهم الله بالفشل ، و غفل بعضهم عن بعض ، و أعقب العقلة تقطع في الروابط ، و تبعه تقاطع و تدابر ، فيتسع للأجانب مجال التداخل فيهم . و لن تقوم لهم قائمة من بعد حتى يعيدهم الله كما بدأهم بإفاضة روح التعصب في نشأة ثانية ([17]) .
و بناء على ما سبق ، يمكننا توضيح علاقة النمو في الناتج القومي بالدخل و اشباع الحاجات الأساسية ، أن انتهاج البلدان العربية سياسة الانفتاح الاقتصادي على الدول الصناعية المتقدمة لا يتعارض مع النجاح في كيفية تحقيق معدل عال من نمو الناتج القومي الاجمالي أثناء فترة محددة نظراً لان استمرار المعدل المرتفع يتوقف على استمرارية تدفق رؤوس الأموال الأجنبية الخاصة أو المعونات الأجنبية التي تكون لخدمتها ، و قد تزداد الاستثمارات الأجنبية نشاط في استغلال الثروة المعدنية و إقامة صناعات أو انتاج محاصيل زراعية بغرض التصدير ، و قد تؤدي إلى ازدهار أنواع مختلفة من الخدمات من أهمها ، التجارة و السياحة و الخدمات المالية و الإسكان مع وجود العديد
من التجارب المختلفة المرتبطة بسياسة الانفتاح الاقتصادي بارتفاع معدل النمو لم يكن خلال فترة وجيزة بل تم وصفه في معظم الاحيان بالمعجزة حيث حققت البلدان العربية النفطية معدلات نمو خيالية تجاوزت في معظم الاحيان 20% سنوياً ([18]) ، و ليس هناك ما يدّلل على أن انخفاض المعدلات قبل أن يبدأ النفط بالنضوب ، و قد تمكنت لبنان من تحقيق معدلاً للنم بلغ في المتوسط 6.2% سنوياً ([19]) خلال الفترة الممتدة بين 65-1973 نظراً لمدى تدفق الودائع المصرفية من بلاد عربية نفطية و ازدهار السياحة ، و تمكن الأردن من تحقيق طيلة الخمسة عشر سنة السابقة على حرب 1967 م معدلاً يزيد على 9% سنوياً ([20]) نظراً لتدفق المعونات الأجنبية في الأردن و بلغ معدل النمو ما يزيد على 7% سنوياً ([21]) ، خلال الفترة الممتدة بين 74-1976 نظراً لزيادة الكبيرة في انتاج الفوسفات و ازدهار حركة البناء ، و نشير إلى أن الزيادة في معدل النمو في الناتج القومي لا يرتبط بشكل مباشر في رفع مستوى معيشة فئات السكن ذوي الدخول الدنيا و في اشباع حاجاتهم الأساسية من مأكل و ملبس و مآوي و مياه صالحة للشرب و من الخدمات الأساسية كالتعليم و الصحة و المواصلات ، و هذا يتطلب دراسة ماهية النمو و معرفة السبل الأساسية لتحقيق ذلك النمو ، و يمكننا قراءة معدل احصاءات معدل النمو في الناتج القومي من خلال الاطلاع على التقارير الاقتصادية العربية و ليس من الصعوبة التوصل إلى معرفة الاحصاءات التي تتعلق باستهلاك الغذاء ، توفر المياه الصالحة للشرب أو المسكن أو الملبس أو خدمات المواصلات أو التعليم أو الصحة أو معدلات العمالة أو البطالة و التقارير الاقتصادية العربية لا تتوفر به البيانات التي تتعلق بإشباع الحاجات الأساسية في دول المشرق العربي خلال عقدي الخمسينيات و الستينات و السبعينات نظراً لان أول تقرير اقتصادي تم أصدرها كان سنة 1980 م ، إلا أنه يتم ملاحظة مدى أنخفضه إذا تم مقارنته بالحد الادنى الواجب توفره ، و يمكن الاستدلال على ذلك على سبيل المثال من ملاحظة بأنه بين دول المشرق العربي التي تتوافر عنها الاحصاءات لم يبلغ متوسط استهلاك السكان من السعرات الحرارية خلال سنة 1970 م الحد الأدنى من احتياجات الفرد منها إلا في دولتين و هما سوريا و ليبيا و لم تبلغ أي منهما الحد الأدنى الذي توضحه منظمة الأغذية و الزراعة بوجوب توفره من البروتين 75 جراما للفرد في اليوم ، و لم تبلغ إلا ثلاث دول هي ليبيا ، السودان ، اليمن الجنوبي ، الحد الأدنى من استهلاك البروتين الحيواني 23 جراما للقرد في اليوم ، و لا يمكننا الاعتقاد بإرجاع ذلك الفشل في تحقيق تقدم ملموس في اشباع الحاجات الأساسية في البلدان العربية إلى مجرد الانخفاض في مستوى الدخل ، و في سنة 1970 م كان متوسط الدخل في ثمان دول عربية يزيد على 500 دولار في العام و هو الحد الذي كان يعدّه تقرير ” بيرسون ” مع أواخر عقد الستينات مناسب للتمييز بين الدول المتخلفة و غيرها و لا يعتقد أن مثل ذلك الدخل الذي يمثل نحو 2500 دولار للعائلة الواحدة في السنة يعتبر
غير كاف من اجل اشباع الحاجات الأساسية في اطار تركيب مختلف للإنتاج حيث نلاحظ أن الدول السبع التي كان متوسط الدخل فيها يقل عن ذلك القدر في سنة 1970 م ، و هي مصر و السودان و الأردن و عمان و سوريا و اليمنيين ، لا يوضح أن مستوى اشباع بعض الحاجات الأساسية فيها كان أقل في الدول الأكثر دخلاً بكثير بل نجد أن العكس هو الصحيح فيما يتعلق ببعض المؤشرات عند استهلاك الغذاء على سبيل المثال نجد أن معظم الدول العربية السبع لم تكن أسواً حالاً فيما يكسبه الفرد من السعرات الحرارية من السعودية على سبيل المثال و في استهلاك البروتين الحيواني لم تكن مصر أو السودان أو اليمن الجنوبي أسواً حالاً من السعودية أو لبنان و من المرجح أن ينخفض الفارق ين المجموعتين من الدول بدرجة ملحوظة فيما يتعلق باشباع الحاجات الأساسية و إذا تم الارتكاز إلى المقارنة ليس بين المتوسطات و لكن بين مستويات الاستهلاك لفئات الدخل الدنيا .
و الجدير بالذكر ، أنها هناك العديد من الكتابات الحديثة التي تركز على أعداد استراتيجية لإشباع الحاجات الأساسية تساهم في تكريس الخطأ الشائع المذكور اعلاه الذي يتمحور على أن التقدم في اشباع الحاجات الأساسية يرتبط بشكل أساسي على رفع معدل النمو إلا أن بعض الكتابات توضح بعض التمرينات العقلية أو الأفكار العلمية و العملية العقلية التي تركز على استخدام العقلانية الاقتصادية ([22]) في كيفية الوصول إلى مرحلة اشباع الحاجات الأساسية .
و في هذا الاطار نحاول الاجابة على السؤال : ما هو معدل نمو الدخل القومي المطلوب الذي يمكن في حالة تحققه أن يضمن اشباع الحاجات الأساسية لسكان الأقل دخلاً ؟ . نجد أن منظمة العمل الدولية درست إمكانية اشباع الحاجات الأساسية لنسبة العشرين في المائة من السكان الأقل دخلاً مع نهاية القرن العشرين في التقارير الخاصة بالمنظمة ، و تم اعتماد طريقتين أساسيتين أو الاستعانة بكلاهما معا ، هما :
الطريقة الأولى : تتركز على رفع معدل نمو الدخل القومي مع افتراض استمرارية نمط توزيع الدخل على ما هو عليه .
الطريقة الثانية : العمل على إعادة توزيع الدخل من خلال افتراض معدل معقول للنمو .
و لكن الاعتراض على التمرينات العقلية لا يستند إلى عدم صحة منطقها بل في عدم واقعية ما ترتكز عليه من افتراضات نظراً لان نمط توزيع الدخل لا يرتبط بالتنمية ، و هذا يدفعنا إلى التساؤل عن جدوى التساؤل عن معدل نمو الدخل المطلوب بافتراض بقاء توزيع الدخل كما هو نظراً لان من المرجح ازدياد توزيع الدخل سوءاً كلما ارتفع معدل النمو بحيث لا تصل انجازات التنمية سواء في المستقبل القريب أو البعيد إلى أقل السكان دخلاً ، و ينص التقرير أن الدول المصدرة للنفط لا تحتاج إلى أكثر من الاستمرار في تحقيق ما تحققه الان من معدل النمو من اجل الوصول إلى الهدف ( و هو اشباع الحاجات الأساسية لأقل السكان دخلاً ) ، فهي إذن لا تحتاج إلى اتخاذ أية اجراءات لإعادة توزيع الدخل ([23]) ، و أفضل دليل على ذلك في حالة كان الرأي صحيح لكان المفروض مشاهدة الدول النفطية العربية أن تكون أكثر تقدماً في اشباع الحاجات الأساسية بدرجة أكبر بكثير مما تحقق بالفعل منذ بدأت عائدات النفط تتدفق على الدول النفطية العربية ، و كان قد تم مشاهدة تفوقاً ملحوظاً لدول النفط على الدول العربية غير النفطية التي لم تحظى بمثل هذه المعدلات العالية للنمو إلا أن ما تم مشاهدتها كان عكس ذلك .
خلاصة القول : بصرف النظر عن نمط التنمية المتبع من حيث مصدر النمو و طبيعته فإن الحقيقية تتمحور حول أن الوصول إلى انجازات التنمية إلى الفقراء لا يتوقف على معدل النمو بقدر ما يتوقف على نوعيته حيث لكل نوع من أنواع التنمية طريقة من الطرق لرفع معدل النمو معدل معين لتوزيع الدخل يتوافق معه و يتحدد به بعبارة أوضح فلتخبرني عما تنتج ، و بأي فن انتاجي قمت بإنتاجه ، أخبرك عمن يذهب إليه هذا الانتاج ([24]) ، بمعنى هناك طريقة دميكانيكا و ليست استاتيكا في علاقة النمو في الناتج القومي بالدخل و اشباع الحاجات الأساسية في اطار الانفتاح الاقتصادي على الدول الصناعية المتقدمة ، هكذا استطاعنا توضيح كيفية عدم وصول انجازات التنمية إلى الفقراء في الدول العربية و النامية التي تطبق سياسات الانفتاح الاقتصادي على الدول الصناعية المتقدمة نظراً لمدى اعتمادها بشكل كبيراً على التجارة الخارجية مع الدول الصناعية المتقدمة و على المعونات أو الاستثمارات الأجنبية و التكنولوجيا و التقنية المتقدمة .
أن دراسة مراحل تكوين الاقتصاد الإسرائيلي بداية من سنة 1948 م إلى نهاية عقد السبعينات ، و شرح و توضيح العلاقات الاقتصادية بين الدول الغنية و الدول الفقيرة ، الآثار الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية المترتبة على العلاقات الاقتصادية بين الدول الغنية و الفقيرة كل على حد بالتفصيل ، ثم تم التعرض إلى دراسة كيفية الوصول إلى التنمية المستقلة و اشباع الحاجات الأساسية ، و الوصول إلى ” الإرادة الحضارية العربية ” و دراسة علاقة النمو الناتج القومي بالدخل و اشباع الحاجات الأساسية ، في اطار دراسة كيفية الانفتاح الاقتصادي الإيجابي و السلبي ، و العامل النفسي و الاجتماعي و الثقافي للمواطن العربي ، و كيفية الوصول إلى تحقيق ” الأمن الإنساني ” .
الاستاذة فاطمة أحمد الثني ، كلية الاقتصاد و العلوم السياسية – ماجستير علوم سياسية -جامعة طرابلس – سنة 2019 م – دولة ليبيا
[1]– جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ( بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية ، 1979 ) ، ص . 63 .
[2] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص . 67 .
[3] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص ص . 68-69 .
[4] صفاء جمال الدين ، ” استراتيجية النمو التصديري في إسرائيل 1970-1980 ” السياسة الدولية ، العدد 1 ( يناير 1985 ) : 4 of 8 .
[5] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص . 68 .
[6] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص .70 .
[7] المرجع السابق ، ص ص 71-72 .
[8] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص . 64 .
[9] المرجع السابق ، ص . 64 .
[10] المرجع السابق ، ص . 64 .
[11]-جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص . 65 .
[12] المرجع السابق ، ص . 65 .
[13] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص . 66 .
* لا يمكننا عدم اقامة علاقات اقتصادية مع الدول المتقدمة لأننا نعيش في القرن الحادي و العشرين قرن الاقتصاد و الأعمال بين الدول لا توجد حواجز بين الدول اليوم نظراً لأننا نعيش في قرية كونية سياسية و اقتصادية ، ربما هذه التجربة حققت نجاح في القرن التاسع عشر و قبل ذلك لكن اليوم لا يمكن تطبيقها بل يستوجب علينا التقيد بالقانون الاقتصادي الدولي في إقامة علاقاتنا الاقتصادية و التأكيد على مبدأ الشفافية و المصداقية .
[14] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص . 139 .
[15] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص ص . 150-151 .
[16] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص . 160 .
[17] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص . 163 .
[18] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص . 129 .
[19] المرجع السابق ، ص . 129 .
[20] المرجع السابق ، ص . 129 .
[21] المرجع السابق ، ص . 129 .
[22] العقلانية في مفهومها العام مقولة فلسفية تعتمد في تحديد مفهومي المعرفة و الأخلاق على ما يقره العقل الذي هو مصدر كل الأفكار . فالعقلانية إذن لا تعترف بأية قوة أخرى غير قوة العقل ، عبد الوهاب الكيالي ، و آخرون ( تحرير ) ، موسوعة السياسة : الجزء الرابع ( بيروت : المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، 1991 ) ، ص . 133 .
[23] جلال أحمد امين ، المشرق العربي و الغرب : بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي و العلاقات الاقتصادية العربية ، مرجع سبق ذكره ، ص . 135 .
[24] المرجع السابق ، ص . 136 .