المسؤولون الروس لم يتحدثوا عن خسارتهم في سوريا، وأظهروا هدوءا في ردهم على إسقاط الأسد، وفتحوا قنوات التواصل مع المسلحين الإسلاميين بوساطة تركيا. والمحدد لدى روسيا هو وضع قاعدتيها في طرطوس وحميميم. لكن الهدوء لا يخفي حقيقة أن خسارة الأسد ستؤثر على نفوذ روسيا في مناطق أخرى.
موسكو- قد تدير روسيا ضربة انهيار نظام بشار الأسد السياسية بإعادة توجيه الموارد إلى حرب أوكرانيا. ولكن موسكو ستكافح على المدى الطويل لتعويض منشآتها العسكرية في سوريا. وسيعيق هذا في النهاية قدرتها على إبراز قوتها في المنطقة.
ومن المرجح أن تؤثر خسارة القواعد الروسية في سوريا على العمليات اللوجستية الروسية من أفريقيا وإليها، على الأقل على المدى القصير إلى المتوسط، وبدأت موسكو بالفعل في نقل عتادها نحو ليبيا كخطوة أولى، وربما توسيع ذلك إلى السودان أو الجزائر.
ووصل الرئيس السوري بشار الأسد وعائلته إلى موسكو في الثامن من ديسمبر بعد فراره من دمشق إثر استيلاء المعارضة على العاصمة، حيث حصل على حق اللجوء السياسي في ما وصفه الكرملين بالقرار الشخصي من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وشهدت تلك الليلة رفع العلم الجديد لحكومة المعارضة السورية فوق المرافق الدبلوماسية السورية في روسيا.
كما توقفت وسائل الإعلام الحكومية الروسية عن وصف القوات المناهضة للأسد بالإرهابية، وتحولت إلى اعتماد مصطلح “المعارضة المسلحة” في سوريا.
ومن المرجح أن يكون تحول روسيا الواضح نحو قبول السلطات السورية الجديدة جزءا من جهود موسكو لتأمين منشآتها الدبلوماسية والعسكرية في سوريا، وأهمها قاعدتها البحرية في طرطوس وقاعدتها الجوية في حميميم، حيث لا تزال قواتها موجودة.
ولم يعلق الرئيس بوتين علنا على انهيار حكومة الأسد.
ويُذكر أن موسكو كانت أكبر داعم أجنبي لهذه الحكومة من حيث إجمالي الدعم المالي والعسكري منذ 2015، حين انطلق انتشار القوات الروسية في سوريا بناء على طلب الأسد للمساعدة في الدفاع عن نظامه في خضم الحرب الأهلية التي اندلعت سنة 2011.
ولم يسقط نظام الأسد عندما اندلع الربيع العربي في أواخر 2010. واختلف بذلك عن نظامي حسني مبارك في مصر ومعمر القذافي في ليبيا، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الدعم العسكري والمالي الهائل الذي قدمته روسيا وإيران في البداية.
دعمت روسيا قوات الأسد عسكريا بعد إطلاق عمليتها العسكرية في سوريا في سبتمبر 2015. وشهدت البلاد وجودا كبير للطائرات والأنظمة المضادة للطائرات والجماعات شبه العسكرية التابعة لمجموعة فاغنر.
وتضع تقديرات مختلفة تكلفة الدعم الروسي التراكمية لحكومة الأسد بين 2.5 و8 ملايين دولار يوميا منذ 2015. وينتج التباين الحاد عن الاختلافات في القيمة المقدرة للمعدات المقدمة والدعم الاقتصادي، وإدراج بعض تدابير الدعم غير المباشر أو الإنساني. ويعني هذا أن روسيا أنفقت عشرات المليارات من الدولارات لدعم حكومة الأسد، وأن مئات الجنود الروس قُتلوا في عمليات عسكرية لدعم قواته.
◄ روسيا تضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية قواعد بحرية مع السودان، الذي يبقى أقل جاذبية جغرافيا، فهو ليس مطلا على المتوسط
وتقول روسيا إنها على اتصال مع السلطات السورية الجديدة لتأمين قاعدتيها في البلاد (قاعدة حميميم الجوية ومنشأة طرطوس البحرية).
ويشير عدد الرحلات الجوية من حميميم وإليها خلال الأيام الأخيرة إلى استعداد روسي لإخلاء القاعدة الجوية، ولو بشكل غير كامل، كما أشارت إلى ذلك تقارير يومي الجمعة والسبت.
وسيتطلب الإخلاء على الأرجح المزيد من الطائرات وعلامات أخرى على الانسحاب السريع. وبينما تبدو بعض السفن البحرية الروسية السبع المتمركزة رسميا في طرطوس راسية على بعد عدة أميال من الساحل (لأسباب أمنية على الأرجح)، يبدو أن جل السفن لا تزال بالقرب من المنشأة في الوقت الحالي.
ويمثل سقوط الأسد انتكاسة لروسيا وضربة لنفوذها في الشرق الأوسط ومصداقيتها الدولية. وستعيد موسكو توجيه قواتها العسكرية في سوريا التي كانت تستخدمها لدعم جيش الأسد (أصول القوات الجوية وعدد صغير من المستشارين والمدربين للأفراد البريين في المقام الأول) لتحسين موقعها العسكري في أوكرانيا للحفاظ على النفوذ التفاوضي على كييف.
وشملت مختلف المنشآت الروسية في سوريا حوالي 7 آلاف عسكري، لكن جلهم كانوا من أفراد الدعم غير القتالي. وسيحمل نقل الأفراد الروس المتبقين ومعداتهم إلى أوكرانيا تأثيرا هامشيا على تحسين الموقف التكتيكي الروسي في ساحة المعركة.
وستدفع المزيد من الأسباب روسيا في هذا السياق للمطالبة بفرض قيود صارمة على وجود قوات الناتو والبنية التحتية في أوكرانيا. ويخشى الكرملين من منح تنازلات كبيرة لأوكرانيا والغرب لأن ذلك قد يخاطر بتقويض نفوذ روسيا القسري طويل الأمد على جارتها، ويؤجج المزيد من التصورات بين الشركاء المحتملين والحاليين (وحتى المنافسين) بكون القوة الروسية غير موثوقة وفي حالة تراجع.
وستصبح الدول بهذا أكثر ترددا في تقديم تنازلات لصالح روسيا. ولا تعتبر موسكو التحديات التي تواجهها في مناطق أخرى على طول محيطها حادة كتلك في أوكرانيا. وترى في الانتصار في أوكرانيا أفضل طريقة لاستعادة مصداقيتها بصفتها شريكا أمنيا محتملا. وتتصور أن ذلك سيدفع الدول الأضعف في جنوب روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى إلى الميل نحوها، وهو أمر انطلق بالفعل في دول مثل جورجيا وكازاخستان وأذربيجان، حيث تظل الحكومات ملتزمة بعدم استعداء روسيا.
واستغل اثنان من رموز الدعاية المحلية في روسيا، المعلقان ديمتري كيسيليوف وفلاديمير سولوفيوف، بتوجيه مفترض من الكرملين، برامجهما الإعلامية للترويج لرواية مفادها أن روسيا حققت أهدافها في سوريا بالفعل من خلال التمسك بالتزاماتها الدولية واكتساب خبرة حيوية يمكن أن تفيد جيشها في أوكرانيا.
وأكدا أن “العملية العسكرية الخاصة” الروسية في أوكرانيا حملت أهمية أكبر من الأحداث الأخيرة في سوريا، وأن انهيار نظام الأسد يمثل فرصة لإعادة تقييم روسيا لأولوياتها وتحقيق أهداف موسكو في أوكرانيا.
وقللت وسائل الإعلام الروسية (بتوجيه من الكرملين أيضا) من أهمية الهجوم الإرهابي في مارس 2024 على قاعة كروكوس للحفلات في ضاحية كراسنوغورسك شمال غربي موسكو، وأشارت إلى أن الحادث سلط الضوء على الحاجة إلى تأمين المصالح الروسية الجيوستراتيجية الأساسية من خلال الانتصار في أوكرانيا.
وأقامت روسيا بعد استيلاء طالبان على أفغانستان في 2021 على الفور اتصالات مباشرة مع قادة البلاد الجدد. واتبعت منذ ذلك الحين علاقات براغماتية معهم. وهي تتحرك اليوم لإزالة تصنيف طالبان كجماعة إرهابية عن قوائمها. وقد تتخذ موسكو نهجا براغماتيا مشابها تجاه السلطات السورية الجديدة، حيث تتصور أن الاعتراف بها والسعي إلى الحوار معها سيخدمها.
ونقلت وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء عن ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي قوله يوم الخميس إن موسكو بدأت اتصالات مباشرة مع الإدارة السياسية في هيئة تحرير الشام المعارضة في سوريا.
وذكر بوغدانوف أيضا أن موسكو تستهدف الإبقاء على قاعدتيها العسكريتين في سوريا لمواصلة “مكافحة الإرهاب الدولي” في البلاد.
وأضاف أن الاتصالات مع هيئة تحرير الشام، أقوى جماعة في البلاد بعد الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، “تسير بشكل فعال.”
◄ من المرجح أن تؤثر خسارة القواعد الروسية في سوريا على العمليات اللوجستية الروسية من أفريقيا وإليها، على الأقل على المدى القصير إلى المتوسط
ويرجّح تقرير لمركز ستراتفور أن تفقد روسيا في النهاية إمكانية الوصول إلى منشآتها العسكرية في منطقتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين في سوريا.
وسيعقّد هذا الخدمات اللوجستية ويرفع تكاليف جهود موسكو الإقليمية لاستعراض القوة، حيث سيكون العثور على قواعد بديلة أمرا صعبا وأكثر تكلفة.
ومن المتوقع أن تستعد روسيا لانسحاب منظم من المنشآت بدلا من الانسحاب الفوري السريع من قاعدتها البحرية في طرطوس وقاعدتها الجوية في حميميم، بعد محاولات فاشلة محتملة للتفاوض على الحفاظ عليهما خلال الأشهر المقبلة.
وقد لا تصر السلطات السورية المؤقتة على الانسحاب الروسي الفوري من القاعدتين على المدى القصير، وتعتمدهما بدلا من ذلك لموازنة الوجود العسكري الأميركي على الجانب الآخر من البلاد وكورقة مساومة لضمان عدم عزل الحكومة الجديدة في المجتمع الدولي. ومن المرجح أن تقدم موسكو للقادة السوريين الجدد في دمشق والسلطات المحلية في اللاذقية أموالا وحوافز اقتصادية أخرى للاحتفاظ بالقدرة على الوصول إلى قواعدها العسكرية. ويمكن أن تشمل الحوافز منتجات الوقود المكرر المخفضة.
لكن القادة السوريين الجدد لا يزالون معادين على نطاق واسع لروسيا بسبب سنوات دعمها لنظام الأسد. وقد يكلّف هذا روسيا الوصول إلى منشآتها. وسيضر الأمر باستعراض قوة روسيا لأن قاعدتي حميميم وطرطوس تعدان نقطتين لوجستيتين حاسمتين للعمليات البحرية العالمية الروسية والعمليات العسكرية في أفريقيا والشرق الأوسط، ولا يمكن استبدالهما بسهولة.
ويعتبر ميناء طبرق أو بنغازي في ليبيا الخاضعين لسيطرة قائد الجيش خليفة حفتر، الذي تدعمه حاليا مجموعة أصغر من أفراد مجموعة فاغنر الروسية، البديلين الأكثر احتمالا.
وتحظى عمليات القوات شبه العسكرية الروسية في منطقة الساحل بدعم لوجستي من خلال ليبيا. ومن المرجح أن يجري توسيع المرافق المرتبطة بها في المستقبل، مما يخفف من الاضطرابات. لكن يبقى من غير الواضح ما إذا كان سيظهر اتفاق قواعد روسية رسمي أكثر، حيث لا تزال ليبيا غارقة في حرب أهلية.
وقال مسؤول أمني سوري متمركز خارج القاعدة الجوية الروسية في اللاذقية إن طائرة شحن روسية غادرت القاعدة متجهة إلى ليبيا السبت، وذلك بعد إطاحة المعارضة بالرئيس بشار الأسد الأسبوع الماضي.
وأضاف المسؤول لرويترز أن من المتوقع إقلاع المزيد من الطائرات الروسية من قاعدة حميميم الجوية بمحافظة اللاذقية الساحلية في الأيام المقبلة.
وجرى رصد أنشطة متزايدة في القاعدة الجوية خلال يوم السبت، فبخلاف طائرة الشحن التي أقلعت، شوهدت طائرة شحن من طراز إليوشن آي.إل-76 وطائرة هليكوبتر من طراز أليجيتور تهبطان في القاعدة.
كما شوهدت طائرات هليكوبتر تحلق داخل القاعدة، وهبطت طائرة من طراز سو-34 للتزود بالوقود. وحلقت طائرة زبلين في سماء القاعدة، كما شوهدت شاحنتان تحملان أعلاما روسية داخل القاعدة.
وأظهرت صور الأقمار الصناعية الجمعة نقل معدات عسكرية روسية في قاعدة حميميم وظهرت طائرتا شحن من طراز أنتونوف إيه.إن-124.
وأظهرت صور أقمار اصطناعية نشرتها شركة ماكسار الجمعة أن روسيا تجمع في ما يبدو عتادا عسكريا في قاعدة حميميم الجوية بسوريا، مشيرة إلى وجود طائرتين من طراز أنتونوف إيه.إن-124، إحدى أكبر طائرات الشحن في العالم، ومقدمتهما مفتوحة بقاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية الساحلية.
وقالت ماكسار “طائرتان للنقل الثقيل من طراز إيه.إن-124 تتواجدان في المطار، ومقدمتهما مفتوحة وفي وضع استعداد لتحميل العتاد”.
◄ موسكو كانت أكبر داعم أجنبي لهذه الحكومة من حيث إجمالي الدعم المالي والعسكري منذ 2015، حين انطلق انتشار القوات الروسية في سوريا بناء على طلب الأسد للمساعدة في الدفاع عن نظامه
وأضافت “في مكان قريب، يجري تفكيك مروحية مقاتلة من طراز كيه.أيه-52 ويجري إعدادها على الأرجح للنقل بينما تستعد أجزاء من وحدة الدفاع الجوي إس – 400 بالمثل للمغادرة من موقع انتشارها السابق في القاعدة الجوية”.
وقالت إن القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، مركز الإصلاح والصيانة الوحيد لروسيا في البحر المتوسط، “ما زالت دون تغيير إلى حد كبير منذ تغطيتنا للصور في 10 ديسمبر مع استمرار رصد فرقاطتين قبالة سواحل طرطوس”.
وقال تلفزيون “تشانال 4” البريطاني الإخباري إنه شاهد قافلة تضم أكثر من 150 مركبة عسكرية روسية تتحرك على أحد الطرق. وأضاف أن الجيش الروسي يتحرك بنظام جيد وأنه تم التوصل فيما يبدو إلى اتفاق يسمح للروس بخروج منظم من سوريا.
وتضع روسيا اللمسات الأخيرة على اتفاقية قواعد بحرية مع الحكومة السودانية. لكن البلاد تبقى أقل جاذبية جغرافيا، فهي ليست مطلة على البحر المتوسط وتتطلب استخدام قناة السويس. كما يمكن أن تعقّد الحرب الأهلية المستمرة في السودان الاستخدام الروسي للقاعدة. وتشمل المواقع الأخرى التي يمكن أن تعيد فيها البحرية الروسية الانتشار الجزائر، وهو توجه سيزيد من أزمات الجزائر التي تعاني من عزل إقليمي ودولي، وسيربك رغبتها في إظهار أنها شريك موثوق للأوروبيين في مجال الطاقة.
وسينطبق الأمر على جميع الحكومات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يمكن أن يؤدي اتفاق قاعدة طويل الأجل مع روسيا إلى رد فعل محلي عنيف في هذه البلدان ودفع الدول الغربية إلى تقليل التعاون معها.
ولم تتمكن مجموعة فاغنر من الانطلاق في توسيع حضورها بشكل كبير في ليبيا وكل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلا عندما بدأت روسيا توسّع منشآتها السورية في 2017، حين حصلت موسكو على ما كان من المفترض أن يكون وضعا دائما فعليا للقاعدتين اللتين يستمر وجود قوات موسكو في كل منهما على امتداد 49 عاما مع منح روسيا بسط سيادتها عليهما.