من المفيد أن نلقي نظرة على ميناء سنغافورة لفهم الآثار التي يتكبدها الشحن الدولي بسبب هجمات المسلحين الحوثيين المتمركزين في اليمن على الناقلات المارة عبر البحر الأحمر الذي يقع على بعد آلاف الكيلومترات. يُعتبر ميناء سنغافورة واحدا من أكثر موانئ الحاويات ازدحاما في العالم، ويشكل محطة أساسية على خارطة شركات الشحن الرائدة على مستوى العالم. كما يُعتبر مركزا رئيسيا للتجارة بين آسيا وأوروبا.
لنتخيل الآن سفينة حاويات ضخمة تبحر لمسافة 17 ألف كيلومتر من سنغافورة إلى روتردام. تخرج من الميناء وتصل إلى أول نقطة اختناق رئيسية، مضيق ملقا. وتعبر هذا الممر المائي الحيوي نحو البحار المفتوحة، وتمر عبر المحيط الهندي وبحر العرب. ثم تواجه مضيق باب المندب مع اقترابها من ساحل اليمن. يمثّل المضيق نقطة اختناق رئيسية أخرى، قبل أن تدخل البحر الأحمر إلى قناة السويس.
وعادة ما تتطابق الرحلة على أرض الواقع مع ما خُطط له. وتمر سفينة الحاويات عبر قناة السويس إلى البحر المتوسط متجهة إلى مضيق جبل طارق، وهو نقطة اختناق رئيسية أخرى بين المغرب وإسبانيا. وتجد نفسها بعد ذلك في مياه المحيط الأطلسي حيث تتجه شمالا نحو الميناء الهولندي الرئيسي الذي يعد مركزا رئيسيا لشمال أوروبا.
كل مرحلة في الرحلة تخضع لتخطيط محكم وتتبع جدولا زمنيا محدّدا بعناية لضمان الإبحار السلس. وليس هذا مستغربا وذلك لاعتماد الاقتصاد العالمي على هذه الطرق. وحددت الأمم المتحدة أن شحن ما يقرب من 80 إلى 90 في المئة من التجارة العالمية من حيث الحجم يتم عن طريق البحر.
هذا ما يجعل أي خطأ في أي جزء من تلك الرحلة محسوسا على مستوى يتجاوز السفن الفردية أو شركات الشحن. نحن جميعا نشعر بهذا التأثير الواسع.
سلاسل التوريد تأثّرت بالهجمات الأخيرة التي شنها المسلحون الحوثيون على الشحن الدولي في البحر الأحمر. وأدت زعزعة الاستقرار إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي. وتجاوزت التوترات الجيوسياسية حدود الدول المحيطة بالبحر الأحمر.
وعلّقت شركة البحر المتوسط للملاحة وميرسك سيلاند وسي.أم.إي – سي.جي.أم وهاباغ لويد (بعض أكبر شركات الشحن في العالم) رحلاتها في البحر الأحمر. كما أعلنت شركة الطاقة العملاقة بي.بي أنها ستتجنب مياهه حتى إشعار آخر.
وتعدّ الآثار المترتبة على التجارة العالمية خطيرة، حيث تمر حوالي 15 في المئة من التجارة العالمية و30 في المئة من حركة الحاويات عبر قناة السويس. وللبحر الأحمر وقناة السويس روابط حيوية في الاقتصاد العالمي، ويلعبان دورا محوريا في سلسلة التوريد العالمية للنفط والغاز الطبيعي والأغذية والمنتجات المصنعة وغيرها. وتمر نحو 40 في المئة من التجارة بين آسيا وأوروبا عبر قناة السويس، بما في ذلك الإمدادات الحيوية للغاز الطبيعي المسال. وحين شهدت القناة في 2021 جنوح سفينة حاويات عطّلت حركة الملاحة، قدّر الاقتصاديون تأثر حوالي 10 مليارات دولار من التجارة مقبل كل يوم أغلق فيه الممر المائي.
الجيش الأميركي من جهته أعلن عن تحالف دولي لحماية ممرات الشحن في البحر الأحمر وتوفير الأمن لنحو 400 سفينة تعبره في أي وقت. ولم تهدّئ الخطة الأميركية شركات التأمين تماما التي رفعت أسعار ممرات البحر الأحمر ووسعت المناطق التي تعتبر عالية الخطورة. وأثيرت احتمالات توجيه ضربات أميركية ضد المسلحين الحوثيين المدعومين من إيران، في حين ترتفع أسعار النفط ببطء بعد عدة أسابيع من الانخفاض.
من جهتهم أعلن الحوثيون، الذين يسيطرون على أجزاء من شمال اليمن وغربه، أن هجماتهم تأتي ردا على الحرب الإسرائيلية في غزة وأنهم يستهدفون السفن المرتبطة بإسرائيل أو تعتمد الموانئ الإسرائيلية. وأعرب معظم حلفاء أميركا الإقليميين عن حذرهم بشأن الانضمام إلى التحالف. وتظل العديد من الدول في جميع أنحاء العالم العربي غير مرتاحة إزاء التحالف مع الولايات المتحدة في ظل اشتداد الغضب الشعبي حول الحرب بين إسرائيل وغزة. وزاد القلق حتى في الدول التي تعتبر الحوثيين تهديدا خطيرا للاستقرار الإقليمي. وقد يتعين على الولايات المتحدة، نتيجة لذلك، قيادة هذه العملية دون دعم كبير من حلفائها في الشرق الأوسط.
في نفس الوقت ستتواصل مراقبة دور الصين عن كثب. ويمرّ الشاحنون الصينيون عبر البحر الأحمر بانتظام. كما أن بكين تبقى المشتري الرئيسي الوحيد للنفط الخام الإيراني، مما يمنحها درجة من النفوذ على طهران. ولا تخفى روابط إيران مع المسلحين الحوثيين، ولكن يبقى أن نرى ما إذا كانت بكين ستسعى إلى ممارسة الضغط على طهران لكبح جماح هجمات الحوثيين أو إبقائها على الأقل مركزة على السفن غير الصينية.
ويجب أن تتابع مصر الوضع أيضا، حيث تواجه البلاد مأزقا اقتصاديا. وأبلغت هيئة قناة السويس عن إيرادات قياسية بلغت 9.4 مليار دولار في السنة المالية 2022 – 2023. وسيعني أي تراجع خطير فيها تشديد الضغط على الاقتصاد المصري الذي يعاني بالفعل من نقص العملة الأجنبية وارتفاع التضخم. وتتزايد المخاوف من أن تتخلف مصر عن سداد ديونها الخارجية البالغة نحو 165 مليار دولار، وهو من أعلى المبالغ في الأسواق الناشئة.
من جانبها أكدت شركة الخدمات اللوجستية العملاقة كوهني أند نيجل تجنب حوالي 100 سفينة حاويات طريق البحر الأحمر، ومن المرجح أن يتبعها آخرون. وسيتحوّل طريق سنغافورة – روتردام الآن إلى ساحل جنوب أفريقيا ويعود نحو المحيط الأطلسي في اتجاه أوروبا، مما يضيف أسابيع لمدّة الرحلات ويرفع التكاليف.
هجمات البحر الأحمر تذكرنا في وقت يشهد انتعاشا محفوفا بالمخاطر في الاقتصاد العالمي وتوترات جيوسياسية حادة بمدى ترابطنا ومدى خطورة قطع هذه الروابط الحيوية.