د. شهاب المكاحله
من إيران إلى روسيا والصين مروراً بأوروبا والولايات المتحدة — كيف تحوّل الاستعداد للأزمة إلى عقيدة عالمية؟
في ظاهر الأمور، يبدو أنّ العالم يعيش مجموعة من الأزمات المنفصلة: إيران تتحدّث عن إجلاء محتمل للعاصمة بسبب الجفاف؛ روسيا ترفع مستوى التأهّب؛
البنك المركزي الأوروبي يطلب من الناس الاحتفاظ بالنقد الورقي في المنازل؛ وفنزويلا تعبّئ جيشها في مواجهة حاملة طائرات أميركية في الكاريبي.
لكن خلف هذا التشتّت الظاهري، تتشكّل منظومةٌ واحدة من السلوك الاستراتيجي: كلُّ دولة كبرى تتدرّب على إدارة الانهيار، وكلّ إقليم يتحوّل إلى حقل اختبار للحرب الحديثة — تلك التي وصفها تقرير “البيئة القتالية الحديثة” بأنّها “سلسلة من التفاعلات المتداخلة بين الفضاءين المادي والرقمي، المدني والعسكري، حيث لا تُعلن الحرب بل تُمارَس يوميا”.
تعكس التحركات الدفاعية الأوروبية—من إعادة تجهيز الملاجئ في ألمانيا إلى خطط فرنسا لاستيعاب أعداد كبيرة من الجرحى العسكريين—تحولاً بنيوياً في التفكير الأمني الغربي. لم تعد الاستعدادات دفاعية بالمعنى التقليدي، بل جزءاً من تصور طويل المدى لصراع واسع متعدد الجبهات قد يمتد من أوكرانيا إلى شرق المتوسط. هذا التبدل في المزاج الاستراتيجي متزامن مع إعادة تقييم قدرات الردع الروسية وتزايد الحديث في أوروبا عن احتمال انتقال الحرب إلى مستوى أعلى إذا تراجعت المظلة الأمريكية أو انشغلت بجبهات أخرى أكثر سخونة.
ديناميات الحشد الأمريكي ونُذُر المواجهة مع إيران
الحشود الأمريكية غير المسبوقة — من نشر قاذفات استراتيجية نووية، وتحريك عشرات طائرات التزود بالوقود، ووصول حاملة ” Gerald R. Ford” تشير إلى أن الولايات المتحدة تتعامل مع أزمة وشيكة لا مع عرض قوة اعتيادي. هذا النمط من الانتشار يرتبط عادةً بالتحضير لعمليات جوية واسعة ومعقدة، وليس بمجرد ردع رمزي. ويتعزز هذا الانطباع مع التصعيد الإيراني المتدرّج: من تخصيب اليورانيوم بنسبة تقترب من العتبة العسكرية، إلى تعزيز منظومات الصواريخ بعناصر روسية وصينية، ما يخلق بيئة عمليات تفرض على واشنطن خيارات ضيقة بين الاحتواء والضربة الاستباقية المحدودة.
من الجبهة إلى الخوارزمية
أخطر ما في مشهد التعبئة الإيرانية ليس عدد الصواريخ ولا طراز المقاتلات الروسية أو الصينية التي تسعى طهران لشرائها، بل العقلية التي تُدار بها الأزمة.
تُظهر الوثائق العسكرية الحديثة أنّ ساحة المعركة الجديدة لم تعد جغرافية بحتة، بل نظاما بيئيا شبكيا حيث تختلط الحرب النفسية بالإلكترونية، والمياه بالبيانات، والمجتمع بالبنية التحتية.
حين تقول طهران إنها تُخلي العاصمة لأسباب بيئية، فذلك يعني أنها تُجرّب آلية تعبئة مدنية تحت غطاءٍ مقبول سياسيا — محاكاة حقيقية لحرب هجينة يختلط فيها الواقعي بالرمزي.
الحسابات الإقليمية واحتمالات التصعيد المتعدد الجبهات
في هذا السياق، تتعقّد معادلة الردع الأمريكية جراء التزامن بين جبهة إيران وجبهة اليمن، إضافة إلى احتمال فتح ساحات دعم من شركاء طهران الإقليميين. فاجتماع الجنرالات الأمريكيين في فيرجينيا، وخطاب ترامب يوحيان بأن المؤسسة العسكرية تعيد تقييم خياراتها بعيداً عن الخطاب العلني التقليدي. ومع مجموعة العقوبات الجديدة التي تستهدف البنية الاقتصادية الإيرانية، يلوح سيناريو مزدوج: إمّا عملية ضغط قصوى لإجبار طهران على التراجع، أو مرحلة تمهيدية قبل ضربة عسكرية. وفي كلتا الحالتين، فإن احتمال انزلاق المنطقة إلى مواجهة أوسع بات أعلى من أي وقت مضى، مع هشاشة واضحة في قدرة الأطراف على إدارة التصعيد دون انفجار شامل.
الردع كحالة دائمة
روسيا، من جهتها، تمارس النمط نفسه على نطاقٍ أكبر. فالتصريحات عن “جهوزيةٍ كاملة” ليست إعلانا للحرب، بل جزءٌ من استراتيجية جديدة يمكن تسميتها بــ”الردع المفتوح” — حيث تظلّ الجيوش في وضع التأهّب المستمر، وتصبح الحرب حالةً إدارية أكثر منها حدثا عسكريا.
وهذا ما حذّر منه تقرير” The Modern Battlefield” أن “الردع في القرن الحادي والعشرين يُقاس بقدرة الأنظمة على البقاء في وضع استعداد دائم دون أن تنهار اقتصاديا أو اجتماعيا”.
موسكو تعرف ذلك، والغرب يعرف أنّها تعرف. لذلك تزداد التصريحات الصاخبة كلما ضعفت القدرة على المفاجأة.
اقتصاد الطوارئ
حتى المؤسسات المالية بدأت تتصرّف على هذا الأساس. فحين يدعو البنك المركزي الأوروبي المواطنين إلى الاحتفاظ بالنقود الورقية، فإنّ الرسالة تتجاوز النصيحة التقنية. إنها تجربة ذهنية للأزمة: فهل يستطيع الاقتصاد الأوروبي أن يصمد في ظلّ انقطاعٍ رقمي أو هجوم سيبراني واسع؟ في عالم تتحكم فيه الخوارزميات بالتجارة والاتصالات، يصبح النقد المادي آخر خطوط الدفاع عن الثقة.
إنه تحوّل ذهنيّ: لم يعد “الاستعداد” حالة استثنائية، بل أصبح جزءا من الإدارة اليومية للدول الحديثة.
من الخليج إلى الكاريبي
دخول فنزويلا على الخطّ لا يضيف جبهةً جديدة بقدر ما يوسّع الدرس نفسه. فالعالم اليوم يُدار كشبكة أزمات مترابطة؛ حاملة طائرات أميركية في مياه الكاريبي تُترجم في موسكو على أنّها اختبارٌ لإرادة روسيا، والتوتر في البحر الأحمر يُقرأ في طهران كإشارة إلى مدى استعداد الغرب لفتح أكثر من جبهة في وقتٍ واحد.
كلّ هذه المؤشرات تتطابق مع ما يسميه الباحثون بـ”القتال الموزّع” — أي استخدام مسارح متعددة لتشتيت الخصم وتشغيله خارج نطاق التنبؤ.
وهذا هو جوهر الحرب الحديثة: كثرة الأحداث الصغيرة التي تؤدّي وظيفة الحرب الشاملة دون إعلانها.
الجيل الخامس من الصراع
تُظهر الأدلة المتراكمة أنّ ما يعيشه العالم ليس “مرحلة ما قبل الحرب”، بل مرحلة الانتقال إلى الجيل الخامس من الصراع، حيث يصبح المجتمع نفسه جزءاً من المنظومة القتالية. الفضاء الإلكتروني، وسلاسل الإمداد، والمصارف، ومنصّات الرأي العام — كلها أسلحة محتملة. وكما يشير تقرير عسكري أعد خصيصا لساكن البيت الأبيض، فإنّ السيطرة في هذا النوع من الحروب تُقاس بقدرة الدولة على التحكّم في تدفق المعلومات والطاقة والوعي أكثر مما تُقاس بعدد الدبابات أو الطائرات.
لهذا السبب، يمكن القول إنّ العالم يخوض حربا باردة جديدة، لكنّها هذه المرة باردة ظاهريا فقط.
تحت السطح، كلّ طرفٍ يختبر أنظمته، يُحدّث برمجياته الدفاعية، ويقيس مدى تحمّل اقتصاده للضغط المستمر.
كلّ هذا الاستعداد لا يعني أنّ الحرب وشيكة. لكنه يخلق ما يسميه خبراء علم النفس العسكري “النبوءة ذاتية التحقّق”: حين يقتنع الجميع بأنّ المواجهة حتمية، يصبح مجرد الاستعداد لها خطوةً نحو وقوعها.
ففي الشرق الأوسط، إخلاءٌ مدني قد يُفسَّر في تل أبيب كتحضير لهجوم؛ وفي أوروبا، مناورةٌ للـ”ناتو” قد تراها موسكو استفزازاً؛ في الأسواق، نصيحةٌ مصرفية قد تُشعل موجة ذعر. والنتيجة: حرب إدراكات لا تقل خطورة عن الحرب التقليدية.
الاستقرار كابتكار سياسي
في هذا السياق، يصبح المطلوب من صانعي القرار ليس تجنّب الحرب فقط، بل ابتكار الاستقرار. أي تحويل الإدارة اليومية للأزمات إلى ثقافة مؤسسية قادرة على امتصاص الصدمات دون فقدان السيطرة.فالردع الحقيقي في عصر الذكاء الاصطناعي ليس امتلاك السلاح الأقوى، بل امتلاك منظومة مرنة تستطيع العمل في ظلّ الفوضى.
فمن طهران إلى بروكسل، ومن موسكو إلى كاراكاس، يعيش العالم في نظام إنذار دائم. قد لا تندلع حربٌ كبرى قريبا، لكنّ المشهد الحالي أشبه بـ”تدرّب جماعي على الكارثة”. وكلّما طال التدريب، تقلّ المسافة بين التمرين والواقع.
الحرب الحديثة ليست حدثًا يبدأ وينتهي، بل بيئة نعيش فيها. وإذا لم تجد القوى الكبرى وسيلةً لإعادة تعريف الردع بما يتجاوز التهديد، فقد نستيقظ ذات يوم لنكتشف أننا نعيش الحرب دون أن نسمّيها كذلك.
جيوستراتيجيك ميديا ما وراء الخبر
