الرئيسية / أخبار / الوعي الجمعي في قبضة الأنظمة

الوعي الجمعي في قبضة الأنظمة

ما تعيشه المجتمعات البشرية اليوم هو نتيجة بناء تراكمي عشوائي ومنظم لهيكلية فكرية وإيمانية وعقائدية وقيمية عبر قرون طويلة. فالأساسيات والبنية التحتية الفكرية للمجتمعات شكلت الركيزة لبناء وعي جمعي.

والدليل على ذلك ما نشهده من محاولات السلطات السورية الجديدة لتغيير المناهج ببطء، وكأنها تسكب الماء على الصخر برفق لتهذيبه وتشذيبه بما يخدم مصالحها. هذه قرارات لا تخرج عن إطار تشكيل وعي الأجيال بما يتوافق مع السلطة الحاكمة.

هذه قرارات ليست عشوائية، إنما تعي السلطات تماما أهمية كل خطوة ناعمة تتخذها.

◄ التغيير يبدأ بإعادة برمجة الذات، وبالبحث عن الشيطان والإله داخلنا لا خارجنا. عندها فقط، يمكن للإنسان أن يتحرر من وهم الحقيقة وهاوية الألم

ما قد يعيدنا في التاريخ البشري الواسع لأمثلة عديدة تشابه الواقع السوري، كالثورة الثقافية في الصين 1966 – 1976، فخلال هذه الفترة، قام النظام بتغيير شامل في المناهج الدراسية، وإزالة كل ما يُعتبر معارضا للأيديولوجيا الماوية. وكذلك السيطرة الإعلامية في الحرب الباردة، حيث كانت المناهج الدراسية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تعكس روايات متضادة تهدف إلى تعزيز الولاء الأيديولوجي لدى الأجيال الجديدة.

في كوريا الشمالية أيضا يتم تشكيل المناهج لتقديس القائد وتصويره كمنقذ دائم، مما يُبقي الأجيال الجديدة في حالة من الغياب التام عن الواقع.

هذه الأمثلة ليست سوى نماذج تعكس كيف أن الأنظمة المختلفة، عبر التاريخ، قد نجحت في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات بشكل يخدم أهدافها، مما يعيدنا إلى السؤال الأهم عن طبيعة هذا التلاعب وآثاره.

نعود لقراءة المجتمعات بشكل عام. يُقال إن عقل اللاوعي للفرد يتحكم في قراراته وسلوكه ومشاعره ونظرته لنفسه وللآخرين. اللاوعي يشبه الشيطان الذي يقف خلف الستارة، يحرك الفرد بلا وعي منه، ممسكا بكافة الخيوط. أما العقل الواعي، فيعيش وهم القيادة والسيطرة، لكن أثره الحقيقي ضئيل.

وينطبق ذلك على المجتمعات أيضا، التي تدّعي المعرفة والحكمة والإنسانية، بينما تعيش في أوهامها وأحلام يقظتها عن الوطنية والشرف والإيمان. هذه الأوهام شكلت وعي المجتمعات عن ذاتها وعن الآخر، لكنها بقيت مجرد ظلال على جدران كهوف أفلاطون، ترسم واقعا ليس حقيقيا.

◄ البشر لطالما كانوا يعيشون في قعر الجحيم، ينتظرون الجنان في العالم الآخر. يقولون ربما يأتي المخلص، ينتظرون منقذا

بمعنى، هذه الأوهام شكلت وعي المجتمعات البشرية عن ذاتها والآخر، عن الآلهة وشياطينها. لكن توقف محاولاتها في فهم كيانها الداخلي والكيانات الخارجية عن النمو والتطور منذ قرون طويلة أدى إلى ركود المياه القيمية والفكرية وتعفنها. وبقيت أجيال تلو الأخرى أسيرة رؤى تُليت في عهود بائدة، وأسيرة أساطير متطايرة لم تحدث يوما.

ولكن، في بعض المناطق، ولدى بعض الجهات التي تعي أهمية وقوة الأسطورة، يبدو أن تكرارها وغرزها في اللاوعي الجمعي للبشر كان مقصودا. هذا التكرار جعل من الرؤى نبوءة تتحقق في العصر الحديث.

إن توقف نمو تلاوة الأفراد والشعوب لأساطير وقصص محدثة عن نفسها وعن واقعها أدى إلى تحجر عقولها، وتحجيم أدوارها، وشذوذ سلوكها. فأضحت المجتمعات البشرية تُحرك من قبل شياطين تقف خلف الستارة. يعتقدون أنهم يسيرون على الصراط المستقيم، وربما هم سقطوا منذ زمن طويل في هاوية أبدية من الجهل والتحجر. يعتقدون أنهم يتبعون النور، وما النور في النهاية إلا “لوسيفر”؛ واللوسيفر هو حامل الضوء.

هذا المخلوق الذي وُصف في الميثيولوجيا بأنه الأقرب والأحب إلى قلب الله، ثم أضحى ملك الشرور، العدو الأول للمصفوفة الكونية. لوسيفر الذي وصف بأنه الحامل للمعرفة، والمدرك لحقيقة الجنان ومعارف الكون، والذي يملك ترياق الحكمة.

فهل استطاع اللاوعي الجمعي كسر لعنة حامل الضوء؟ أم كان اللاوعي البشري هو الضوء وحامل الضوء، والسبب في صراعات العصور المظلمة المستمرة وحروبها العبثية؟

إن البشر لطالما كانوا يعيشون في قعر الجحيم، ينتظرون الجنان في العالم الآخر. يقولون ربما يأتي المخلص، ينتظرون منقذا. ربما ينتظرون أن يأتي المسيح لينتشلهم من الدرك الأسفل ويوصلهم بأمان إلى عدن. أو أن يأتي نوح ويبني سفينة تكون السبب في خلاصهم من غضب الآلهة. أو ربما يأتي موسى ليشق البحار لأجلهم، لينقذهم من مقاساتهم.

◄ الأنظمة المختلفة، عبر التاريخ، نجحت في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات بشكل يخدم أهدافها، مما يعيدنا إلى السؤال الأهم عن طبيعة هذا التلاعب وآثاره

لكن، ما لا يدركونه، أن المسيح ونوح وموسى بداخلهم. المخلّص والمنقذ لهم من معاناتهم المستمرة هم أنفسهم خاصة في زمن التطور التكنولوجي والرقمي الذي نعيش فيه.

هذا الزمن الذي تشابكت فيه الحقيقة مع الوهم. هذا العصر الذي تتسم مصفوفتُه بالوهن والهشاشة والكذب والتضليل، القائمة على صور زائفة للبشر عن أنفسهم. من خلال الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وتضليل المعلومات والمعرفة، ومن خلال المؤسسات الدينية التي تشوّه الحقيقة والإيمان وتنشر معتقدات غير مكتملة.

يصر من يملك هذه الأدوات، ومن يملك القوى، على حبس الأفراد والشعوب في الكهف. فأضحوا هم أهل الكهف النائمين ألف عام وأكثر عن واقعهم وحقيقتهم. هم أهل الكهف المغيبون عن الحقيقة المجردة، في زمن يسهل فيه تجسيد الوهم كحقيقة وقلب الموازين.

لذا، الحل يتجسد في جملة مهمة: “المخلص هو العقل. المنقذ هو الفكر.”

أي أنه دون أن يتحمل الإنسان مسؤولية واقعه، ودون إحياء حركة فلسفية فكرية وثورة قيمية، ستبقى المجتمعات أسيرة أوهامها، عاجزة عن التغيير. ولا يمكن لها أن تتطور أو تتقدم أو تخرج من الوحل الجحيمي الذي تقطنه. من المهم أن يكون هناك اهتمام بالإدراك الجماعي للمجتمعات البشرية، ونقد الأوهام الفكرية التي تتحكم بها.

التغيير يبدأ بإعادة برمجة الذات، وبالبحث عن الشيطان والإله داخلنا لا خارجنا. عندها فقط، يمكن للإنسان أن يتحرر من وهم الحقيقة وهاوية الألم.