عاد “الربيع العربي” إلى الأذهان خلال الشهر الحالي، إذ صادف ديسمبر ذكرى اندلاع الاحتجاجات التي عصفت بنظام حكم زين العابدين بن علي في تونس وأطلقت عنان موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات في العالم العربي، وشهد نفس الشهر نهاية الأحداث المتسارعة التي أطاحت بنظام الرئيس السوري بشار الأسد بعد حرب أهلية دامت عقدا ونصف العقد من الزمن.
كانت مظاهرات الشوارع في سيدي بوزيد التونسية أول حلقة في انتفاضات “الربيع العربي”، وشكّلت الهجمة التي قادتها “هيئة تحرير الشام” في سوريا الحلقة الأخيرة – والمؤجلة 13 عاما – من مسلسل إسقاط الأنظمة في العالم العربي.
قليلة هي أوجه الشبه بين الانهيارين من حيث أن تونس رغم الاصطدامات الدامية التي رافقت أحداثها، نجحت في اجتناب السقوط في أتون الحرب الأهلية كما سوريا ولم تتلظ بجحيم الصراعات المسلحة والتدخلات الأجنبية المدمرة.
مهما كانت الفروقات بين أحداث تونس وسوريا فإن أوجه الشبه كثيرة بين كل الأنظمة التي اجتاحتها عواصف سنة 2011.
أولها طول مدة بقاء رؤساء هذه الدول في الحكم. بقي الأسد وبن علي ومبارك والقذافي أكثر من عشرين عاما في الحكم وإن اختلفت ظروف كل واحد منهم.
والاستمرار في مسك مقاليد السلطة مدة طويلة ليس دون عواقب. فهو يبعد الحاكم عن واقع بلاده ويجعله يتوهم أنه بمنأى عن أيّ نوع من أنواع التقييم والمحاسبة، سواء كانت محاسبة انتخابية أو محاسبة الشارع الغاضب له. يدفعه ذلك الاعتقاد تدريجيا إلى الانزلاق نحو الرئاسة مدى الحياة على أساس أن لا أحد يقدر على تعويضه. يحدث ذلك تدريجيا سواء كان بشكل معلن أو مبطن إذ يقنعه من هم من حوله، إن كان في حاجة لمن يقنعه، بأن الشعب لا يستطيع العيش دونه. والواقع أن أصحاب المصالح والمنتفعين اقتصاديا من استئثاره بالسلطة هم من لا يرون غيره في كرسي الحكم.
طول بقاء القادة في السلطة يصيب الحياة السياسية بالجمود والتكلس. فتتحول الأنشطة الحزبية والمداولات البرلمانية إلى مراسم وطقوس بلا روح. وتتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحات مواجهة وتعبئة ضد الأنظمة الحاكمة، صباحا ومساء.
والأخطر من ذلك هو أن انسداد أفق التغيير السياسي والتداول السلمي على السلطة يزرع بذور العنف والتطرف بمختلف أشكالهما. ويصبح السياسي المعارض، أكثر من أيّ وقت مضى، قابلا للتوظيف من قبل الأطراف الخارجية.
المشكلة اللاحقة هي أنّ تصحر الحياة السياسية طيلة مدة حكم القادة المتمسكين بالسلطة يلقي بظلاله على الفترة التي تتبع رحيلهم عن سدة الرئاسة، إذ لا يمكن أن يتدرب المواطن خلال الحكم السلطوي على الممارسات الديمقراطية أو على التعامل باحترام مع الرأي المخالف. وتتحول الاختلافات والانقسامات إلى بون شاسع غير قابل للجسر. وتصبح الحياة السياسية مستنقعا آسنا بلا محظورات.
اليوم يراود بعض الأنظمة في المنطقة هاجس (عبّر عنه البعض من قادتها) من أن تعود كرة الثلج إلى التدحرج، وأن تصدر عن مطابخ السياسة الداخلية والخارجية نسخة جديدة من “الربيع العربي”. التاريخ لا يعيد نفسه طبعا بنفس الشكل، ولكنه كما قال أينشتاين يوما “من الجنون أن تفعل نفس الشيء مرارا وتكرارا وتتوقع أن يؤدي ذلك إلى نتائج مختلفة.”
بعض العوامل التي حفت بانتفاضات 2011 مازالت قائمة إلى اليوم ويمكن أن يهتز من جرائها الاستقرار في كل الأمكنة بما فيها تلك التي تبدو بمنأى عن كل المفاجآت.
لا يمكن أن يغيب عن الذاكرة أن العامل الأساسي في تدحرج كرة الثلج بسرعة غريبة سنة 2011 هو اشتراك البلدان المعنية في ظروف موضوعية متشابهة من بينها انسداد الأفق أمام الشباب وتهالك نسيج الحكم في الداخل واستشراء الفساد بين النخب النافذة، بالإضافة إلى مراهنة الأنظمة على تحالفات وعلاقات فاشلة مع الخارج.
ومن أغرب ما قرأته في مذكرات أحد كبار موظفي إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أن الرئيس الراحل حسني مبارك اتصل بالبيت الأبيض في يناير 2011 ليطمئن الإدارة الأميركية على أن بن علي لن يحاول العودة إلى تونس بعد وصوله إلى السعودية. ولم يكن مبارك يعرف أنه هو نفسه سوف يغادر السلطة بعد ذلك بفترة وجيزة وسوف تتخلى عنه واشنطن دون تردد.
ومن العوامل الأخرى الهامة اهتراء مصداقية السلطة لدى الرأي العام وتعاظم الدور الذي لعبته (وما زال يمكن أن تلعبه) وسائل الاتصال والإعلام.
من الواضح أنه ما كان لعدوى “الربيع العربي” أن تنتشر، لو لم يكن هناك إنترنت وفضائيات تنقل أخبار الاحتجاجات وتستغلها الأطراف السياسية الداخلية والخارجية للتأثير في الرأي العام. وهو ما لم تفهمه الأنظمة الحاكمة أو ربما لم تقدّره حق قدره.
استطاعت وسائل الإعلام و الاتصال الحديثة أن توجه اهتمامات الرأي العام بشكل يتجاوز الحدود الجغرافية والفروقات الطائفية والعرقية في المنطقة ويحد من قدرة السلطات على التحكم في المواقف والتحركات داخل مجتمعاتها.
وما أضفى مصداقية على مواقع الإنترنت والفضائيات التي أعلنت النفير العام آنذاك، بما فيها أكثرها زيفا وتضليلا، هو التناقض الصارخ الذي كان يفصل بين السرديات الرسمية والواقع المعيش للشعوب.
كانت الأنظمة (ولا تزال) تحتاج إلى مكاشفة شعوبها بالواقع والابتعاد عن سياسة الغرف المغلقة التي تعتبر الشأن العام في غير متناول المواطن البسيط، في حين أن فطنة هذا المواطن وقدرته على فك رموز التوازنات والصراعات داخل أروقة السلطة أكبر مما كان يتوقعه الحكام.
والدرس الأصعب الذي تحتاج الأنظمة لاستخلاصه اليوم هو أن الهزات لا يمكن أن تنتفي بغير انتفاء مسبباتها وأن تغيير السياسات الخاطئة أقل كلفة وبكثير من كلفة المطبات العنيفة التي يمكن أن تقلب كل بيت رأسا على عقب.
ما تغير رغم كل شيء هو أن الشعوب عاينت الدمار الذي لحقها ولحق المنطقة نتيجة النسخة الأصلية من “الربيع العربي”. وهي اليوم أقل حماسا للخروج إلى الشوارع.
لكن بعض الأطراف التي فشلت في النسخة الأصلية قد ترى في تقلب الأوضاع في المنطقة واستعداد الغرب للتماهي معها فرصة جديدة لمغامرات غير محسوبة يجنون عن طريقها ثمارا يرون أنهم حرموا منها قبل سنوات.
ومما لا شك فيه أن التطورات الإقليمية قد تفاقم التصدعات داخل بعض البلدان خاصة إذا كان صرح الدولة فيها هشا.
من هذا المنطلق يبدو تخوف حكومة طرابلس من سيناريوهات التمدد العسكري الروسي نحو ليبيا مفهوما. ومثل هذه المخاوف ما كانت لتجد لها مبررا لو كان الفرقاء الليبيون سعوا منذ الإطاحة بنظام القذافي إلى توحيد صفوفهم وترتيب البيت الليبي عن طريق تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة يستطيع بواسطتها المواطن تقرير مصيره وتستطيع البلاد أن تنهض بنفسها وتحقق بعض الاستقرار والرخاء لشعبها. ولكن هؤلاء الفرقاء أصرّوا عوض ذلك على إضاعة كل الفرص التي أتيحت لهم.
وفي ظل الانقسام المستمر تخشى الحكومة الليبية غرب البلاد (وتشاطرها إيطاليا مخاوفها) من أن تؤدي إعادة الانتشار العسكري الروسي نحو القواعد القريبة من سرت إلى تأجيج التوترات في المتوسط والمزيد من زعزعة الاستقرار في البلاد. والأكثر مدعاة للانشغال احتمال تزايد الانقسام بين جناحي ليبيا.
من الأكيد أن القطر الليبي في غنى عن مثل هذه التعقيدات ولكنه لن يستطيع تجاهل المخاطر المحدقة.
وليبيا ليست البلاد العربية الوحيدة التي تتابع بتوجس تبعات التنافس المحموم للقوى الإقليمية والدولية الحريصة على تغليب مصالحها في المنطقة وإعادة رسم الخارطة السياسية طبقا للتوازنات الجديدة.
في ظل هذه الأجواء لن يفيد أحد التوهم بأن العواصف لا تهبّ إلا على الآخرين، مثلما ردد ذلك بعض القادة العرب في مطلع سنة 2011 إثر سقوط النظام في تونس .
تغيرت طبيعة العواصف والأنواء. ولكن الإصرار على عدم إدخال أي تحوير على المسارات القديمة والمراهنة على استقرار الأوضاع رغم كل شيء يشكلان مجازفة يعرف الجميع عواقبها.