الرئيسية / أخبار / جيمي كارتر.. سياسي مثالي أغرق العرب في عواقب السلام

جيمي كارتر.. سياسي مثالي أغرق العرب في عواقب السلام

فتح رحيل الرئيس الأميركي جيمي كارتر قبل أيام قليلة المجال للبحث في أهمية دوره في منطقة الشرق الأوسط، فهو أول من وضع القاعدة الرئيسية لعملية سلام مبتكرة بين العرب وإسرائيل في زمن بالغ الصعوبة، حيث قام بهندسة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، في وقت لم يتوقع الكثيرون نجاحه في هذه المهمة شبه المستحيلة.

وحمل الرئيس الراحل جيمي كارتر جينات لصفات عدة، جعلته الأكثر مثالية بين كل رؤساء الولايات المتحدة، بحسب ما سجله الكاتب وليام دي جورجيو في كتابه الذي صدر منتصف التسعينات من القرن الماضي بعنوان “الكتاب الكامل لكل رؤساء أميركا”، ووصفه بأنه دائما ما ينظر إلى نفسه محاولا الإصلاح منها سعيا نحو الكمال، وأنه شخص ملتزم لدرجة تقربه من منزلة القديس أكثر من السياسي.

واتسم الرجل بالكثير من الخصال الجيدة، لكن مقارباته تجاه قضايا الشرق الأوسط لم تترك نفس الانطباع عنه، خصوصا دوره في توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979، ثم موقفه من الغزو السوفييتي لأفغانستان ودعم المقاومة الأفغانية وإرسال مجاهدين عرب للانخراط معها في قتال الروس.

أفرز الحدثان واقعا جديدا ثم تحولت منطقة الشرق الأوسط من بؤرة صراع واحدة بين العرب وإسرائيل إلى بؤر صراع متعددة وبينية داخل بعض الدول العربية، والتي لم تستطع تحمل تبعات أو صدمة السلام بين مصر وإسرائيل.

 

◄ أهم رئيس أميركي تعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي بجدية شديدة، وشكل ثنائيا مع السادات، وكانت لديه الشجاعة لدفع عملية السلام
◄ أهم رئيس أميركي تعامل مع الصراع العربي – الإسرائيلي بجدية شديدة، وشكل ثنائيا مع السادات، وكانت لديه الشجاعة لدفع عملية السلام

 

كان كارتر أول رئيس أميركي يستجيب بشكل جاد وخطوات حقيقية لرغبة الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات في التقارب مع الغرب والوصول إلى صيغة لوضع حد للصراع العربي – الإسرائيلي، أو على الأقل تحويله من ميادين المعارك إلى طاولات الحوار، الأمر الذي قاد في النهاية إلى توقيع اتفاقية سلام، لتكون نقطة تحول مفصلية في تاريخ مصر ومسارها السياسي.

تسببت المعاهدة في قطيعة نهائية وخصام بلغ درجة العداء بين الدولة المصرية ممثلة في السادات وبين التيارات اليسارية والقومية التي أخذت عليه التفريط في ثوابت القضية الفلسطينية، وفي القلب منها الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة والعودة إلى حدود الرابع من يونيو عام 1967، دون التوقف عند حقيقة أن كارتر شخصيا دفع بقوة كي يوافق رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن حينذاك خلال المحادثات التي سبقت توقيع الاتفاقية على تطبيق القرار 242 الخاص بالانسحاب من الأراضي المحتلة، قبل أن يتملص الأخير من تنفيذ التزامه بسبب ضغوط الكنيست عليه وادعى أن موافقته مشروطة بأن محادثات السلام تنتهي خلال ثلاثة أشهر، وهو ما لم يحدث.

شارك كارتر الرئيس السادات في نيل نصيب كبير من عداء القوميين العرب لمعاهدة السلام بذريعة أنها كانت سببا في القضاء على حلم الوحدة العربية، وعزل مصر عن محيطها العربي بعد خروجها عن الموقف الجماعي في قمة الرباط 1974، التي رفضت الاعتراف بإسرائيل أو التطبيع معها.

واستند غضب غالبية المعارضين للمعاهدة من جيمي كارتر على قناعة بأنه لولا احتضانه لرغبة السادات في تحويل الصراع مع إسرائيل من صراع وجود إلى صراع حدود، وتعهده بدعم مصر سياسيا واقتصاديا بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد، لما تمكّن الرئيس المصري من المضي في عملية السلام، وتحمل خسارة الدعم العربي لبلاده.

كانت فكرة الوحدة العربية قبل توقيع مصر المنفرد على معاهدة السلام مجرّد حلم راود بعض القادة العرب وشعوبهم دون أن يكون لها وجود حقيقي في الواقع السياسي، والمؤكد أن كامب ديفيد وضعت المسمار الأخير في نعش هذا الحلم بعد أن شهد انتعاشة طارئة خلال حرب أكتوبر 1973، حين توحدت مواقف بعض الدول العربية دعما لمصر وسوريا، بمبادرة بعض دول الخليج بحظر تصدير النفط لداعمي إسرائيل، وجهود الجزائر وليبيا في استيراد أسلحة لصالح مصر وسوريا.

علاوة على مبادرة دول عربية أخرى مثل العراق والأردن والمغرب بإرسال قوات رمزية لدعم الجبهة السورية، وتوفير دعم مالي من الكويت قدمته لدول المواجهة، إلى جانب جهود دبلوماسية عربية في المنظمات الدولية لتأمين دعم أكبر لمصر وسوريا.

إشادة ليبرالية

في مقابل غضب الكثير من القوميين العرب هناك موقف معاكس من سياسيين ومفكرين ليبراليين، يرون أن ما قام به السادات سبق به عصره، واستندوا إلى دخول سرب من الدول العربية في اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وصعوبة حصول آخرين على الحد الأدنى من حقوقهم المشروعة، ولعل ما وصلت إليه القضية الفلسطينية يجسد التعبير الحي عن ذلك، حيث رفض الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الانضمام إلى القافلة المصرية وتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه.

 

 

وقال الخبير في الشؤون الإقليمية والدولية، عضو مجلس الشيوخ بمصر، الدكتور عبدالمنعم سعيد لـ“العرب” إن جيمي كارتر “أهم رئيس أميركي تعامل مع الصراع العربي – الإسرائيلي بجدية شديدة، وتمكن من أن يشكل ثنائيا مهما مع الرئيس أنور السادات، وكانت لديه الشجاعة التي تجعله قادرا على دفع الأطراف المختلفة نحو السلام، مستفيدا من قدرته على إدارة المفاوضات بما أدى إلى نجاحها، وليس تعثرها مثلما آلت إليه غالبية مفاوضات السلام التالية بين العرب وإسرائيل“.

وأشاد عبدالمنعم سعيد بنجاح كارتر والسادات عبر معاهدة السلام في تحويل الصراع العربي – الإسرائيلي من صراع ذي طبيعية وجودية إلى صراع يحمل طبيعية سياسية وإستراتيجية يمكن التفاوض حولها، وأن كارتر أول من تحدث عن إقامة دولة فلسطينية، وكان ذلك وعدا شبيها بما قدمه بلفور إلى اليهود، غير أن الفلسطينيين لم يتمسكوا بالفرصة مثلما تمسك بها اليهود، وعمل على إيجاد أرضية مشتركة بين المسلمين والمسيحيين واليهود.

وأضاف في تصريحه لـ”العرب” بالقول “يحسب لكارتر تبنيه موقف السادات حين لوّح بالانسحاب من المفاوضات بسبب إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بالمستوطنات في سيناء، ووعد بتحقيق ما تنشده القاهرة من مطالب، وأن مصر استفادت من اقتناع كارتر بالسلام، وما ساعد على ذلك هو شخصية الرئيس أنور السادات، حيث كانت لديه قدرة على فتح آفاق جديدة تسمح للمفاوضات بأن تتقدم إلى الأمام“.

وهناك شهادة أخرى مهمة في حق الرئيس الأميركي الراحل تخص محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية المصري الذي استقال قبل ساعات من توقيع اتفاقية كامب ديفيد احتجاجا على ما اعتبرها تنازلات مصرية قدمها السادات، ففي كتابه “السلام الضائع في كامب ديفيد” تحدث عن كارتر فوصفه بأنه “صادق ونزيه في نواياه، لكنه أحيانًا كان يبدو مترددًا في اتخاذ مواقف حاسمة أمام ضغط الطرف الإسرائيلي، وكان يكنّ احترامًا كبيرًا للرئيس المصري، وكانت هناك علاقة مميزة بينهما، ما جعل كارتر أكثر ميلًا للتواصل مع السادات مباشرةً عند حدوث أيّ أزمة، لكن كامل رأى أن هذه العلاقة دفعت السادات لتقديم تنازلات دون استشارة فريقه المفاوض.

منعت اتفاقية السلام مصر من استنزاف مواردها في حروب طويلة، ومكنتها من استعادة سيناء، وإدخال تعديلات جيوسياسية ساعدتها على الاتجاه نحو التنمية، لكن حكوماتها المتعاقبة لم تستفد جيدا من تداعيات السلام، وأضاعت فرصة لتكون مصر واحدة من الدول الكبيرة اقتصاديا في المنطقة.

اللافت أن التطورات اللاحقة في المنطقة أثبتت بعد نظر السادات السياسي وعمق تفكيره الإستراتيجي، فإذا أضاع الوقت في الحروب لتغيرت الكثير من معالم مصر والمنطقة، وهو ما أخذه عليه معارضوه القوميون، ممن رأوا أن اتفاقية السلام أبعدت مصر عن العرب، ومكنت إسرائيل من تنفيذ أجندتها بشأن فصل المفاوضات مع كل دولة عربية، والدخول في اتفاقيات سلام منفردة، أسهمت في إضعاف الموقف العربي.

ورغم الجدل المثار منذ 45 عاما حول مدى وجاهة موقف القوميين العرب من السادات وكارتر ومن اتفاقية السلام ذاتها وجدواها السياسية، إلا أن الأمر المؤكد أن الصدام بين التوجه البراغماتي للسادات وبين التيار القومي ترك ندوبا قاتلة على الأخير فكريا وسياسيا، وعلى توازن القوى في المنطقة، ودفع بعض القوميين العرب إلى إعادة تقييم مشروعهم الفكري والسياسي، وبدأ الشك يتسرب إلى فكرة الوحدة العربية، وما إذا كانت قادرة على الصمود في وجه التغيرات السياسية الدولية والإقليمية.

ناهيك عن تحقيق أهدافها المرجوة، وبمرور السنوات فقدت معظم الحركات القومية زخمها وعجزت اجتهاداتها عن التكيف مع المستجدات، وتحول غالبيتها إلى حركات محلية، وكان ذلك الأفول إعلانا عن سطوع شمس التيار الإسلامي.ذ

ازدهار الإسلام السياسي

 

◄ كارتر نجح في تحقيق أهم اختراق للسلام
كارتر نجح في تحقيق أهم اختراق للسلام

 

تحمّل بعض الدوائر العربية السادات وكارتر مسؤولية انتعاش تيار الإسلام السياسي في المنطقة اليوم، حيث اعتاد هؤلاء العودة إلى جذوره عندما دعم الأول الإسلاميين لضرب القوميين في مصر، وعندما منح الثاني صك دعم الأفغان في مواجهة روسيا.

تقول قاعدة فيزيائية شهيرة إن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، وقد انطبقت تلك القاعدة على الوضع السياسي في مصر عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد، فبعد وصول علاقة السادات مع اليسار والقوميين وبعض الليبراليين إلى طريق مسدود، كان المجال مفتوحا أمام التيار الإسلامي بمختلف تنويعاته.

وتمثل في ضخ الدماء وإعادة نشاط جماعة الإخوان في مصر، مستفيدة من انفتاح السادات عليها واعتبارها قوة يمكنها تحجيم نفوذ القوميين وبقايا الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لكن الجماعة استغلت الموقف وانتشرت معها جماعات جهادية مسلحة مثل “التكفير والهجرة” و”الجهاد”، وعلى أيدي هذه الجماعات لقي الرئيس السادات مصرعه في أكتوبر 1981.

◄ بعض الدوائر تحمّل السادات وكارتر مسؤولية انتعاش الإسلام السياسي، لضرب القوميين في مصر، وإرباك روسيا في أفغانستان

أسهم انتعاش التيار الإسلامي إلى تغيير كبير في الواقع السياسي المصري والعربي، وتزامن ذلك مع نشاط المقاومة في أفغانستان ضد الغزو السوفييتي، وهو النشاط الذي دعّمه الرئيس جيمي كارتر بشكل واضح، ثم تمكنت جماعة الإخوان من السيطرة على عدد غير قليل من النقابات المهنية، وتولت عبر كوادرها في النقابات المهنية مهمة تنسيق وصول المساعدات إلى المجاهدين الأفغان، وتطور الأمر إلى إرسال مجاهدين عرب إلى كابول لمساعدة مسلمي أفغانستان.

وكانت هذه المسألة هي النوة التي أدت إلى ظهور تنظيم القاعدة الذي فرض واقعا جديدا على دول المنطقة، تمثل في إذكاء صراعات لم تكن معهودة من قبل مثل الصراع بين السنة والشيعة، والصراع بين أنصار الدولة الدينية والدولة العلمانية.

تقود القراءة المنصفة للأحداث التاريخية إلى قناعة بأن كارتر لم يضمر شرا لدول الشرق الأوسط، بل على العكس يمكن تصنيفه كأكثر رئيس أميركي أنصف الحقوق العربية، خلال وجوده القصير في البيت الأبيض أو بعد خروجه منه، ولا يمكن نسيان أنه أول رئيس أميركي استخدم تعبير “الحقوق الفلسطينية المشروعة” وكان حريصا على إدراج بند في مفاوضات السلام التي سبقت توقيع المعاهدة الشهيرة يهدف إلى إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، ورغم أن النص لم يتضمن تفاصيل واضحة عن دولة فلسطينية.

وأكد في عدة مناسبات أن الجولان جزء من الأراضي العربية المحتلة التي يجب إيجاد حل لها في إطار اتفاقية سلام شاملة، وعارض عملية الليطاني الإسرائيلية في جنوب لبنان عام 1978، ومع أن مواقفه تجاه العرب لم تكتسب صيغة عملية لكن ذلك كان سببه التأثير المضاد للوبي الإسرائيلي القوي في الولايات المتحدة، والذي لعب دورا في تأجيج الأزمات للتقليل من شعبيته، والتمهيد لسقوطه في الانتخابات التالية وحرمانه من الحصول على فترة رئاسية ثانية.

 

◄ السلام على الجبهة الفلسطينية يراوح مكانه
السلام على الجبهة الفلسطينية يراوح مكانه