إن حالة الغموض التي تحيط بمستقبل سوريا بعد سقوط بشار الأسد تجعل الكثير من السوريين يتساءلون عن طبيعة النظام الذي سيخلفه. ويرى بعض المحللين أن إزاحة الأسد، الذي يعد المصدر الرئيسي للقمع، قد تمنح السوريين القدرة على مواجهة التحديات المستقبلية بشكل أكثر فاعلية. ومع ذلك لا يُتوقع أن تؤدي الإطاحة بالأسد إلى تحقيق الاستقرار أو الرخاء بشكل فوري. فقد عمل نظامه على تعميق تطرف المجتمع السوري بطريقة منهجية، ما حول البلاد إلى بيئة خصبة للتطرف والإرهاب.
لم يكن نظام الأسد مجرد نظام دكتاتوري وقمعي فحسب، بل استخدم التطرف السني والشيعي كوسيلة للحفاظ على سلطته؛ فعبر بناء المساجد التي يسيطر عليها وتوجيه خطبها الدينية ساهم الأسد في نشر الأيديولوجيات المتطرفة. وشملت هذه الإستراتيجية الترويج لتعليم ديني يهدف إلى تعميق التطرف داخل المجتمع. علاوة على ذلك تعاون الأسد مع إيران في تدريب وتمويل الجماعات المتطرفة مثل القاعدة لزعزعة استقرار المنطقة، بما في ذلك العراق. وكان الهدف من ذلك تبرير صعود الميليشيات المدعومة من إيران باعتبارها “محررين” من الجماعات السنية المتطرفة مثل داعش والقاعدة.
ويقال إن أحمد الشرع قائد هيئة تحرير الشام، المعروف باسم أبومحمد الجولاني، كان أحد المتطرفين الذين كانوا من بين من تدرب في هذه الشبكة. فقد انضم الجولاني إلى تنظيم القاعدة في العراق قبل الغزو الأميركي عام 2003 وشارك في التمرد العراقي لمدة ثلاث سنوات. تم القبض عليه من قبل القوات الأميركية وسجنه من 2006 إلى 2011، حيث تزامن إطلاق سراحه مع بداية الانتفاضة السورية. في عام 2012، وبدعم من القاعدة، أسس الجولاني جبهة النصرة، وهي فرع القاعدة في سوريا، لمقاتلة الحكومة البعثية لبشار الأسد. ومن خلال قيادته لجبهة النصرة عزز سلطته في محافظة إدلب ورفض محاولات أبوبكر البغدادي لدمج النصرة في الدولة الإسلامية، ما أدى إلى صراع علني بين الجماعتين.
المسألة الكردية
دعمت تركيا العناصر المتطرفة في سوريا وعملت على تفكيك الجيش السوري الحر. وعلى الرغم من أن ليس جميع المتمردين متطرفين، فإن أولئك الذين يتم تدريبهم وتوجيههم من قبل تركيا ينتمون في الغالب إلى جماعات إسلامية راديكالية، وهو خيار يراه الكثيرون متماشيًا مع إستراتيجية تركيا وقطر.
تركز القوات المدعومة من تركيا، مثل الجيش الوطني السوري، عملياتها على استهداف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية. ويعتبر الجيش الوطني السوري غير محبوب على نطاق واسع بين السوريين بسبب افتقاره إلى الانضباط واتهامه بسلوك إجرامي.
وبينما لعبت قسد دورًا محوريًا في محاربة داعش، فإنها تواجه تهديدات مستمرة من الفصائل المدعومة من تركيا مثل الجيش الوطني السوري. تتبنى قسد، التي تختلف عن حزب العمال الكردستاني، رؤية لسوريا علمانية وديمقراطية وفيدرالية، بينما يسعى حزب العمال الكردستاني إلى المزيد من الحكم الذاتي داخل تركيا. كما أن قسد تحظى بدعم الولايات المتحدة، في حين يُصنف حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية من قبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
تخشى أقليات سوريا، مثل الدروز والمسيحيين، من تأثير الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل هيئة تحرير الشام. ويعاني الدروز بشكل خاص من القلق بشأن الهجمات المحتملة من الفصائل المتطرفة، وهو قلق تفاقم بعد الهجوم القاتل الذي شنه داعش على محافظة السويداء في عام 2018. كما يشعر المسيحيون بالقلق من احتمال فرض قيود على حرياتهم الدينية والتغيرات الديمغرافية، وهو ما يتضح من الوضع في إدلب تحت سيطرة هيئة تحرير الشام. ومنذ عام 2011 عانت الطائفة المسيحية في سوريا من انخفاض كبير في عدد أتباعها، ما زاد المخاوف المتعلقة بالمزيد من الهجرة والتآكل الثقافي.
يجب على الولايات المتحدة الحفاظ على وجودها في سوريا وتوسيع دورها ليشمل أكثر من مجرد مكافحة داعش، حيث أن هذا النهج وحده ليس كافيًا. ويلاحظ المحللون الحاجة إلى مشاركة أميركية أكثر قوة، تركز على دعم المجتمعات المدنية في المناطق التي تضم أقليات كبيرة مثل الأكراد والمسيحيين والدروز.
وعلى الرغم من أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب أكد على أهمية دور تركيا كلاعب رئيسي في سوريا، يجب على الولايات المتحدة أن تتعامل مع أنشطة الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وضمان توقفه عن مهاجمة قوات سوريا الديمقراطية. ويجب على الولايات المتحدة أيضا اتخاذ خطوات حاسمة لحماية الأكراد، بما أن قسد تعمل ضمن الأراضي السورية ولا تشكل أي تهديد للسيادة التركية.
لقد أصبح دور الدول العربية في تشكيل مستقبل سوريا أكثر أهمية بعد سقوط نظام الأسد، حيث تواجه تحديًا كبيرًا في مواجهة النفوذ التركي لمنع تحول سوريا من مجال نفوذ إيراني إلى مجال نفوذ تركي.
وتسعى الدول العربية إلى التركيز على الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسيادتها، وهو ما تم التأكيد عليه في البيان الصادر عن لجنة الاتصال الوزارية العربية خلال اجتماعها في العقبة بالأردن في 14 ديسمبر 2024. ويشير البيان إلى ضرورة إقامة إطار سياسي شامل يعكس جميع فئات المجتمع السوري، بهدف تقليل الاستقطاب الإيديولوجي والتدخلات الخارجية، مع الحفاظ على التنوع التاريخي والثقافي لسوريا. وتسعى هذه الإجراءات إلى ضمان حكم شامل لا يقتصر على فئة معينة، ويجنب سوريا الانقسام وعدم الاستقرار. الدول العربية، مثل الأقليات السورية وأغلب المجتمع السوري، تسعى إلى إقامة دولة حديثة ومدنية تعكس تطلعات شعبها بعيدًا عن التنظيمات المتطرفة والتأثيرات الراديكالية والأيديولوجية. كما تؤكد الدول العربية على أهمية ضمان حقوق الأقليات مثل الأكراد والدروز والمسيحيين والعلويين وغيرهم من الأقليات في حكم سوريا المستقبلي، وذلك لمعالجة الانقسامات التاريخية وتقليل احتمالات حدوث صراعات مستقبلية.
طريق نحو الاستقرار
مستقبل سوريا يتطلب بناء دولة مدنية جديدة تنعم بالاستقرار والتقدم، دولة تقوم على قيم المواطنة والمساواة وتضمن حقوق جميع أفراد الشعب دون تمييز على أساس الطائفة أو العرق. لتحقيق هذا الهدف، يجب أن تكون سوريا خالية من تأثيرات الجماعات المتطرفة، مع التركيز على الاعتدال والشمولية لضمان عدم وقوع البلاد في قبضة التطرف، واحترام حقوق الأقليات.
وفي ظل التحديات الراهنة التي تشمل الانقسامات الداخلية والتهديدات الخارجية، لاسيما خطر الهيمنة التركية، يصبح الدعم الأميركي والعربي ضرورة قصوى لضمان استقلال سوريا واستعادتها لدورها الإقليمي. هذا الدعم يجب أن يرافقه توافق سياسي شامل، يعزز العدالة الاجتماعية، ويؤسس لمرحلة جديدة من التعايش المشترك بين جميع مكونات المجتمع السوري، بما يضمن بناء مستقبل سلمي ومستقر للبلاد.