لقد قرأت بعناية ولعدة مرات الورقة التي وقعها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت مع ناصر القدوة، وزير الخارجية الفلسطيني الأسبق، لعلي أجد فيها ما يمكن البناء عليه. وللأمانة، أقول إنها محض هراء وليس فيها من الواقعية السياسية التي تدعيها الأطراف الموقعة عليها أي شيء. بل على العكس، وجدت فيها من السذاجة السياسية الكثير، وذلك مرده أسباب متعددة.
فقد اختزلت الورقة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في أربعة مواضيع رئيسية وأهملت بشكل متعمد باقي المواضيع الشائكة؛ حيث تناولت موضوع الصراع من زوايا محددة تخدم ما تراه إسرائيل في موضوع تبادل الأراضي والقدس، ولم تتناول جوانب كثيرة أخرى أكثر أهمية لفلسطين مثل الاستيطان واللاجئين وغير ذلك، وهو ما جعلها تدور في حلقة مفرغة. كما أنها تركت العديد من القضايا المهمة للتفاوض بين الطرفين، والتي أثبتت التجارب أن تأجيل القضايا وحصرها في التفاوض بين الطرفين غير مجديَيْن وغير ممكن الوصول إلى حلول عبرهما، وذلك راجع إلى فارق القوة بين الطرفين من جوانب كثيرة، وراجع أيضا إلى عدم وجود إطار عام للهدف النهائي (دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية) مثبت ومحدد زمنيا للتفاوض ضمنه وبضمانات دولية.
فيما يتعلق بموضوع تبادل الأراضي نرى أن ناصر القدوة لم يسقط موضوع القيمة والمقدار من الموضوع فحسب، بل وذهب بعيدا في الموافقة على منح إسرائيل أكثر من ضعف ما كان يدور الحديث عنه حول نسبة التبادل التي كانت في حدود أقل من 2 في المئة، والتي كانت تدور حول المستوطنات المحاذية للحدود والممر بين غزة والضفة، ولا يدور حول مستوطنات القدس التي تم إدخالها في الورقة من ضمن 4.4 في المئة. ومع ذلك، أين الخرائط؟ لنعرف أين هذه المساحة المبهمة أو على الأقل تحديد المنطقة الجغرافية للتبادل. فقد تفاوض الرئيس محمود عباس مع أولمرت لفترة ليست قصيرة، ولكن عندما تم طلب تحديد المساحة على الخرائط، رسم له أولمرت خريطة بيده، ثم تهرب، والقدوة يعلم هذا الموضوع حيث كان في موقع قيادي.
أما فيما يتعلق بموضوع القدس فقد وافق القدوة على أن جميع مناطق القدس قبل 5 يونيو 1967، والتي كانت في حوزة إسرائيل، ستبقى لإسرائيل بالإضافة إلى الأحياء اليهودية التي تم إنشاؤها بعد 1967، والتي سيتم احتسابها ضمن 4.4 في المئة المخصصة للتبادل. بمعنى أنه شرع لهم كل ما قاموا به من تغييرات ديمغرافية، بل وتنازل عن حقوق السكان الفلسطينيين الأصليين وأملاكهم في القدس ما قبل 1967 وبعدها! وكذلك في موضوع مجلس الوصاية على البلدة القديمة، غير المفهوم بصيغته التي جاءت في الورقة، والتي حددت دولتين في مجلس الوصاية ولم تحدد الدول الثلاث الباقية، لم تعرف الورقة ماهية الاعتراف بالدور الأردني التاريخي وكيف.
وبالنسبة إلى موضوع الساعة وهو موضوع غزة، تحدثت الورقة عن مجلس وصاية مع نوع من الارتباط العضوي بالسلطة الفلسطينية مع قوة أمنية عربية مؤقتة (لمنع الهجمات ضد إسرائيل). وهذا يعني أنه لا يوجد أفق سياسي للتخلص من الاحتلال ولا يوجد اتفاق على خطوات لوجود دولة فلسطينية، بل استمرار لسلطة فلسطينية مع وصاية من نوع آخر. ولم تذكر الورقة كيف سيتم تنفيذ كل ذلك إذا لم تأتِ على ذكر الانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة وربطه بالانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية.
لقد كان إيهود أولمرت رئيسا لوزراء إسرائيل لما يقرب من ثلاث سنوات، وهو رئيس وزراء فاسد وسجن بحكم قضائي، وفعل كما فعل غيره من قادة إسرائيل بجعل المفاوضات مفتوحة إلى ما لا نهاية وإلقاء اللوم على الفلسطينيين للهروب من الاستحقاقات. وعليه، فإنه غير ذي صلة بالأحداث ولا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يعود إلى أي مركز أو أن يكون له أي تأثير، وأن ما قام به لا يعدو كونه محاولة لتبييض صورته في أنه يسعى لإيجاد حلول وقادر على الحصول على تنازلات ونوع من المناكفة السياسية.
أما بالنسبة إلى ناصر القدوة، فإني أرى أن اللجنة المركزية لحركة فتح خيراً فعلت بفصله منها. فشخص بهذه العقلية لا يصلح أن يكون في قيادة حركة فتح وقيادة الشعب الفلسطيني، فقد ذهب بعيدا فيما قام به مع رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، والذي لا يقدم أيّ حلول للمعضلات الأساسية والملفات الكبرى، وإنما لتلميع شخصيته ومحاولة طرح نفسه كبديل لمنظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها، وأنه لديه رؤية.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا: ما هو موقف حماس من هذه الورقة؟ فلم نسمع لها صوتا وهي التي توزع صكوك الوطنية والخيانة على من تريد. فهل حماس قابلة بهذا؟ هل حماس جزء من هذه المعادلة التي طرحت في هذه الورقة؟ هذا ما سنراه في قادم الأيام.
وفي النهاية، أقول لناصر القدوة لقد كنت جزءاً من القيادة الفلسطينية وتعلم تماما أن المشكلة ليست في نسبة تبادل الأراضي أو في موضوع القدس أو غيره من ملفات التفاوض، وإنما المشكلة كانت ومازالت وستبقى في الكيانية الفلسطينية وتمثيلها الشرعي وقرارها المستقل، حيث تحاول إسرائيل والكثير من الدول التي تشاطرها نفس الهدف القضاء على تلك الكيانية وذلك التمثيل وبشتى الطرق ومنذ عقود طويلة. ويجدون في كل مرة من يتجاوب معهم في مخططاتهم، ولكننا في النهاية نرى أن كل من شاطر أو تواطأ أو عمل ضد شرعية ووحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني وقراره المستقل قد طواه النسيان ولا يبقى له مكان في ذاكرة الوطن، في حين تبقى فلسطين حاضرة ويبقى الشعب الفلسطيني مستمرا في نضاله العادل وبقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني لتحقيق آماله.
وأختم بقول لشاعرنا الكبير محمود درويش: “ما هو الوطن؟ هو الشوق إلى الموت من أجل أن تعيد الحق والأرض. ليس الوطن أرضا، ولكنه الأرض والحق معا. الحق معك، والأرض معهم”.