احتفى الإعلام الرسمي التركي بمشهد الرئيس الفلسطيني محمود عباس وهو يلقي كلمته أمام البرلمان التركي بحضور الرئيس رجب طيب أردوغان. لسبب ما، كان ثمة اعتقاد أن صورة عباس وهو يتحدث إلى البرلمان التركي عن حرب غزة هي الرد على صورة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يلقي كلمته أمام الكونغرس الأميركي. تعمد عباس أن يزيد من تأثير المشهد بالحديث عن ذهابه هو والقيادة الفلسطينية إلى غزة. بالطبع لا عباس هو نتنياهو ولا البرلمان التركي هو الكونغرس. تبدد المشهد بعد يوم، والتفت العالم إلى مفاوضات الدوحة. تغير الكثير منذ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران. برحيل هنية، تبدو تركيا من أكبر الخاسرين في مجرى الأحداث.
في الدوحة طرأ تطور استثنائي في مسار الصراع. مفاوضات الوسطاء في الدوحة هي محاولة، من حيث المبدأ، للعثور على مخرج من الأزمة الإقليمية المحتدمة التي بدأت بعملية “طوفان الأقصى”. تكتسب هذه الجولة من المفاوضات أهمية استثنائية بسبب الحرص الإقليمي والعالمي على منع توسع الصراع من أن يتحول إلى حرب مباشرة أو بالوكالة بين إيران وإسرائيل. لكن ما حدث بالفعل هو أن إيران تمكنت من حجز مكان لها على طاولة المفاوضات. قد لا يبدو الأمر واضحا تماما بالنظر إلى المكالمة الأولى التي أجراها رئيس الوزراء القطري ووزير الخارجية الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني مع وزير الخارجية الإيراني بالوكالة علي باقري كني. لكن المكالمة الثانية من الشيخ محمد بن عبدالرحمن خلال أقل من 24 ساعة مع باقري كني، حسمت بما لا يدع مجالا للشك أهمية الموقف الإيراني مما يجري في الدوحة وأنها حاضرة بقوة على طاولة المفاوضات، بل وصاحبة قرار فيها. جاءت مكالمة وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي مع الوزير الإيراني لتؤكد الأمر.
هناك سيناريوهان لمكالمتيْ الدوحة مع طهران. السيناريو الأول ساذج، دعونا نتخيله. يقول الوزير القطري: هالو معالي الوزير الإيراني. أنا أجلس مع رئيس الموساد الإسرائيلي ديفيد برنيع ومدير الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) ويليام بيرنز ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل، وهم يطلبون منكم عدم استعجال الرد طالما أنكم لم تستعجلوه إلى حد الآن، وأن الأمور تبدو آيلة إلى انفراج.
السيناريو الثاني ربما أكثر واقعية: هالو معالي الوزير الإيراني. نحتاج منكم الضغط على يحيى السنوار للقبول بالشروط الإسرائيلية لنجد لنا ولكم مخرجا من الأزمة. لربما هذا حديث كان سينقله لكم الراحل إسماعيل هنية، لكني أجد نفسي مضطرا إلى نقله لكم مباشرة. أنتم أصحاب الحل والعقد في شأن حماس الآن.
لا شك أن هنية كان مجبرا على أن ينسق مع الإيرانيين. فمنذ يوم خروجه من غزة وتسليمه أمر حماس الداخل للسنوار، كان هنية، رجل قطر وتركيا، مجرد واجهة سياسية للحركة بمسمى رئيس المكتب السياسي. وبعد عملية “طوفان الأقصى” وجد نفسه في معمعة الحدث، مدافعا عن عملية حماس أولا، ثم داعيا إلى إيقاف الحرب، وأخيرا مفاوضا باسم حماس بحثا عن هدنة وتبادل للأسرى والمحتجزين. ذهب هنية إلى طهران أكثر من مرة، ونكاد نقدر الآن أن الهدف من هذه الزيارات كان الضغط على السنوار. ثم وجدت فيه إسرائيل هدفا سهلا ومعروفا تستخدمه للقول بأن لديها اليد الطولى في الانتقام من الفلسطينيين.
الآن لا يوجد من هو بارز في حماس ممن يمكنهم أن يتحدثوا باسم الحركة في الخارج، بمن فيهم خالد مشعل. الشأن بيد يحيى السنوار، والسنوار أمره بيد طهران. قد لا تجلس حماس على طاولة المفاوضات في الدوحة أو القاهرة، لكنها كانت حاضرة عبر القطريين. إلا أن الأمر تغير الآن، وصار الحاضر عبر المكالمات الهاتفية هو المفاوض الإيراني.
هل نتساءل أين الرد الإيراني بعد مرور أكثر من أسبوعين على اغتيال هنية؟ هذا هو الرد: إيران حاضرة على الطاولة الآن رغما عن الجميع. وهي لا تقرر الرد أو عدمه الآن، بل تنظر منتشية إلى مكانتها المكتسبة الجديدة على طاولة أصحاب القرار في مصير الإقليم. لعبت طهران على أعصاب الجميع خلال الأسابيع الماضية لتحتل هذه المكانة.
من وفر لها هذه المكانة الجديدة؟ لا شك أنها حماس بتنفيذها عملية “طوفان الأقصى” وإسرائيل بردها البشع على الأبرياء. ولكن ما كانت حماس لتصل إلى ما هي عليه الآن من دون العوامل الداعمة لها على مدى سنوات، ماليا من قطر ومعنويا من تركيا وعمليا من شبكة الإخوان المسلمين الإقليمية والعالمية الواسعة.
لا نأتي بجديد عند القول كم استثمرت تركيا في حماس. وللإنصاف، فإن الاستثمار كان مشتركا، فقد صعدت أسهم أردوغان الإقليمية مع إشادة حماس به، حتى من قبل استعراضات فك حصار غزة وعملية سفينة مافي مرمرة عام 2010 فيما سمي بأسطول الحرية (لا أثر له الآن منذ اندلاع حرب غزة الجارية). لفترة من الزمان، كان أردوغان هو السلطان الجديد القادم لتحرير فلسطين. وتولت قطر ماليا وإعلاميا بقية التفاصيل.
في موازاة الحضور التركي – القطري في قرار حماس، كان التأثير الإيراني قد بدأ يسجل حضوره. فالأتراك والقطريون يمولون ويستضيفون المؤتمرات ويتحدثون فيها ويطلقون الإخوان في كل مكان في العالم في تظاهرات تندد بإسرائيل وتشيد بحماس (على حساب السلطة الفلسطينية ورئيسها المتعثر محمود عباس). لكنهم لا يجرؤون على توفير السلاح لحماس. هذه مهمة تولتها إيران وشبكاتها الإقليمية الواسعة. ومع السلاح زاد النفوذ، وصار من أساسيات الحركة أن ثمة جناحا مواليا لإيران بدا على السطح أنه تحت تأثير عضو المكتب السياسي آنذاك محمود الزهار، لكنه في الحقيقة أعمق من هذا بكثير. ورغم ارتباك حماس السياسي في موقفها من الثورة على بشار الأسد وميل جزء من قادتها لصالح الموقف التركي – القطري، خصوصا بعد خروج حماس من دمشق واستقرارها بين الدوحة وإسطنبول، إلا أن إيران لم تقطع خيط العلاقة، بل بالعكس عززته وأدركت أن الاستثمار في الخط المتشدد في حماس هو الاستثمار الرابح. ووجدت طهران ضالتها في يحيى السنوار الذي تمكن من إزاحة هنية من رئاسة السلطة في غزة، واختراع مسميي حماس الداخل وحماس الخارج (والخارج قسمان، واحد تجميلي في فنادق الدوحة يتقدمه الثنائي هنية – مشعل، وآخر فعال في الضاحية ببيروت تحت سيطرة وتوجيه وتدريب حزب الله والحرس الثوري يتقدمه صالح العاروري).
لم تكن عملية “طوفان الأقصى” موجهة فقط ضد الإسرائيليين في منطقة غلاف غزة، بل إشارة البدء من وجهة نظر إيرانية لسيطرة طهران بشكل كامل على حماس، ومن خلالها على الشأن الفلسطيني. فانسحاب قطر من دعم حماس كان أول نتيجة منتظرة للعملية وما كانت ستستمر إلى حد الآن لولا الضغوط الأميركية على الدوحة للعب دور الوسيط. أما الأتراك فأخذوا على حين غرة، وتصرفوا بتخبط في الأسابيع والأشهر الأولى من حرب غزة. فعدا الاحتجاج اللفظي على جرائم إسرائيل بحق الأبرياء من الفلسطينيين في غزة، استمرت العلاقات التجارية مع إسرائيل إلى الشهر الثامن من الحرب، ثم تم تعطيل جزء منها وربط استئنافها بالسماح بدخول المعونات الغذائية والصحية للقطاع المعزول والمدمر. واستقبل أردوغان إسماعيل هنية أكثر من مرة بعد الحرب من دون تقديم أي شيء ملموس، حتى ولو كان دعما ماديا للنازحين. ثم تفتقت الدبلوماسية التركية عن فكرة الانضمام إلى مبادرة جنوب أفريقيا بتتبع إسرائيل جنائيا في المحاكم الدولية.
أدرك أردوغان حجم خسارته لنفوذه على الفلسطينيين، وفهم أنه ليس من الممكن دفع القطريين إلى الاستمرار في لعب دور الممول لحماس. وزاد من وقع الخسارة اغتيال إسماعيل هنية في طهران. ولأنه يدرك أن هنية كان وجه حماس المعروف، وأن السنوار ليس فقط رجل إيران، بل هو من المحرمات السياسية إسرائيليا وأميركيا، استعان أردوغان مضطرا بمحمود عباس. مفارقة حقيقية تنضاف إلى مفارقات الرئيس التركي الكثيرة. اليوم هو يستعين بعباس بعد أن قضى سنوات وهو يستثمر في حماس على أساس أنها مستقبل القضية الفلسطينية وأن سلطة عباس ما هي إلا بقايا من لحظة اتفاقيات أوسلو العابرة.
لا أحد يطلب من أردوغان اليوم استشارة أو تأثيرا على حماس في مفاوضات الدوحة. حتى استعراضية التصفيق لعباس في البرلمان التركي لم تلفت الأنظار إلى أردوغان ولا إلى عباس. المقعد الجديد على طاولة محادثات الهدنة محجوز لإيران.