يبدو أن شعار “قوى إنتاجية جديدة عالية الجودة” الذي رفعته الصين أخيراً قد أثار قلق الكثير من الاقتصادات الكبرى، ليس من المنافسة مع العملاق الآسيوي من حيث الجودة والسعر فحسب، بل أيضاً من إغراق الأسواق بالمنتجات الفائضة عن احتياجات ثاني أكبر اقتصاد في العالم، الذي يشهد تباطؤاً في الطلب المحلي، وسط تداعيات أزمة القطاع العقاري الضخم.
وتشعر العديد من الاقتصادات، ولا سيما الأوروبية والأميركية، بالقلق بشأن القدرة التصنيعية الفائضة للصين وخططها لزيادة الصادرات، حيث تقوم استراتيجية الصين الجديدة على تحفيز الإبداع والنمو من خلال استثمارات ضخمة في التصنيع، وخصوصاً في مجال التكنولوجيا المتقدمة والطاقة النظيفة، فضلاً عن الإنفاق القوي على البحث والتطوير، بينما لم يكن هناك سوى القليل من البنود الملموسة التي توضح كيفية إقناع الأسر الصينية بالتخلي عن حالة شد الحزام في ما يتعلق بالإنفاق.
وأمام منتدى تنمية الصين السنوي الذي افتتح أعماله في بكين، أمس الأحد، بحضور جمع من الرؤساء التنفيذيين لكبريات الشركات العالمية في مختلف التخصصات، عرض رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ، الرجل الثاني في البلاد، استراتيجية بلاده الجديدة، قائلاً: “سنعمل على تسريع تطوير قوى إنتاجية جديدة عالية الجودة”.
ودعا لي في كلمته إلى تعزيز التصنيع وزيادة الخدمات والاستهلاك. وكرر دعواته للأسر الصينية إلى استبدال السيارات والأجهزة المنزلية القديمة، لكنه لم يذكر ما إذا كانت الحكومة ستقدم الأموال لمساعدتهم على القيام بذلك.
وكان الإنفاق الاستهلاكي في الصين باهتاً، حيث انخفضت أسعار الشقق بنحو الخُمس في العامين الماضيين، وفقاً لبيانات شبه رسمية. كذلك انخفض عدد معاملات الإسكان. ويشكو أصحاب المنازل من أنه يتعين عليهم خفض الأسعار بنسبة تصل إلى النصف إذا كانوا يريدون العثور على مشترين.
وتمثل العقارات ما بين 60% إلى 80% من الأصول الأسرية، وهي حصة أكبر بكثير مما هي عليه في معظم البلدان. لذا إن الانهيار الوشيك لسوق الإسكان جعل العديد من الأسر تشعر بأنها أقل ثراءً وتكافح من أجل سداد أقساط الرهن العقاري.
ولم يتطرق لي إلى أزمة القطاع العقاري وديون الحكومات المحلية، إلا لفترة وجيزة، خلال مناقشة المخاطر. وقال إنه على مدى العقود الأربعة الماضية، “لم تهزمنا المخاطر والتحديات”.
وبدأ منتدى التنمية الصيني في عام 2000، ويهدف إلى شرح الخطط الاقتصادية التي تضعها الدولة لقادة الشركات، لكن الأمر بدا غامضاً إلى حد ما هذا العام. فقد اعتاد المنتدى أن يتضمن مناقشة مفتوحة إلى حد ما للسياسات الاقتصادية من قِبَل قادة الشركات والوزراء الصينيين قبل يوم واحد من حفل الافتتاح، ولكن هذا لم يحدث هذا العام. فقد تحركت الصين نحو عدد أقل وأكثر من الفعاليات العامة التي يشارك فيها كبار قادتها هذا العام، وفق صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
وفي ظل القلق من تفاقم أزمة القطاع العقاري وتباطؤ الطلب وتوجه الحكومة نحو زيادة سرعة قطار التصنيع عالي الجودة، كما تأمل، يزداد قلق قادة الشركات العالمية وحكومات الاقتصادات الكبرى من تحويل مسار القطار الصيني المتسارع نحو أسواقهم لتصريف البضائع الفائضة.
ويستعد الاتحاد الأوروبي لفرض رسوم جمركية على السيارات الكهربائية القادمة من الصين. كذلك أصدرت غرفة تجارة الاتحاد الأوروبي تقريراً، يوم الأربعاء الماضي، يحذّر من أن تدفق الصادرات الصينية يمكن أن يؤدي إلى تراجع التصنيع في أوروبا، حيث قد لا تتمكن الشركات الأوروبية من التنافس مع الشركات الصينية المدعومة من الحكومة.
ودعا ينس إسكيلوند، رئيس غرفة التجارة الأوروبية في بكين، الأسبوع الماضي، إلى إجراء محادثات فورية بين صنّاع السياسات في الصين والاتحاد الأوروبي من أجل التوصل إلى اتفاق من أجل تجنب التوترات التجارية.
وقال إسكيلوند في مؤتمر صحافي وفق صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية: “أعتقد أن ما نراه الآن هو الكشف عن حادث قطار بطيء الحركة. أعتقد أنه لا تزال هناك إمكانية للعثور على مخارج لتفادي الصدام، وهذا ما نأمله”.
وأكد أن الطاقة الفائضة في الصناعة الصينية “شاملة”، و”لا أعتقد أننا رأينا التأثير الكامل بعد”. وأضاف: “يجب أن تكون هناك محادثة صادقة بين الاتحاد الأوروبي والصين حول ما سيكون عليه الأمر، لأن من الصعب بالنسبة إليّ أن أتخيل أن أوروبا ستجلس بهدوء وتشهد تراجع التصنيع المتسارع لديها”.
على الضفة الأخرى، ينصبّ التركيز في الصين على تعزيز المعروض من السلع وجودتها، وليس على القلق بشأن الطلب المحلي. وقال ليو سوشي، نائب رئيس اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح إن “زخم نمو الاستثمار في القوى الدافعة الجديدة أمر جيد”.
وشارك في منتدى تنمية الصين السنوي، أمس، تيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة آبل الأميركية، الذي كان في الصين الأسبوع الماضي، في محاولة لتنشيط مبيعات هواتف آيفون، التي تتعرض لتراجع لافت وسط منافسة العلامات التجارية، وعلى رأسها هواوي، رغم الإجراءات الأميركية الواسعة لتقويض التكنولوجيا الصينية وكبح تمدد صناعاتها.
وفي الإحاطات الإعلامية قبل المنتدى، أكد المسؤولون الصينيون أن التصنيع يمثل جزءاً كبيراً من اقتصاد البلاد، مشيرين إلى أن حصته تتجاوز ضعف حصته في الولايات المتحدة.
وخلال الأعوام الخمسة الماضية شنّت الولايات المتحدة، ولا سيما في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، حرباً تجارية واسعة على الصين، وسعت لاستقطاب حلفاء لها في أوروبا والعالم للحد من الزحف الصيني على الأسواق، لكن البيانات التجارية تظهر صمود التجارة الصينية إلى حد كبير.
وقال جون هاريسون، المدير الإداري لاستراتيجية الأسواق الناشئة في شركة أبحاث الاستثمار البريطانية “تي إس لومبارد”، إن النموذج الاقتصادي الذي يقوده التصنيع في الصين سيستمر في توليد التوترات التجارية، سواء فاز الرئيس الحالي جو بايدن بفترة جديدة، أو وصل ترامب مجدداً إلى البيت الأبيض عبر الانتخابات المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وأضاف هاريسون في تقرير بحثي: “المزيد من التصعيد أمر لا مفرّ منه، ببساطة لأن الولايات المتحدة وأوروبا أيضاً لن تكونا قادرتين على استيعاب طوفان الصادرات المصنعة من الصين، بقيادة المنتجات ذات التقنية العالية والتحول الأخضر”.
وتبدو الصين عازمة على عودة الزخم إلى صادراتها إلى ما قبل نشوب الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، ونفض غبار التراجع الذي سجلته الصادرات العام الماضي للمرة الأولى منذ ثماني سنوات.
وسجلت صادرات الصين العام الماضي 2023 أول انخفاض سنوي للمرة الأولى منذ 2016، ما أضرّ بركيزة أساسية للنمو في ثاني أكبر اقتصاد في العالم، حيث بلغت حوالى 3.4 تريليونات دولار، بانخفاض 4.6% عن الرقم القياسي الذي سجلته في عام 2022.
وكانت الصادرات قد ارتفعت خلال وباء كورونا، حيث كثف الناس مشترياتهم في أثناء عملهم من المنزل، لكن الطلب من أوروبا والولايات المتحدة وأماكن أخرى تلاشى مع ارتفاع أسعار الفائدة.
وانخفضت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بنسبة 6.9%، الأمر الذي يرجع جزئياً إلى التوترات التجارية المستمرة. كذلك تراجعت الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 1.9%، وسط ضعف الطلب في المنطقة. وشهدت الشحنات إلى شركاء إقليميين مثل اليابان وكوريا الجنوبية وجنوب شرق آسيا انخفاضاً أيضاً.
في المقابل، استمرت الصادرات إلى روسيا في الارتفاع بقوة، حيث قفزت بأكثر من 20% على أساس سنوي، فضلاً عن أفريقيا وأميركا الجنوبية.
وعملت الصين على تعزيز تجارتها مع الدول التي تشهد تقارباً سياسياً معها، كذلك سرّعت بناء هيكلها التجاري البديل وغيرت من أوراق اللعب مع واشنطن تحديداً، حيث عززت حضورها في الدول التي حولت الولايات المتحدة بوصلتها التجارية إليها كبديل لسلاسل التوريد الصينية، حيث ركزت بكين على الصناعات الوسيطة، ما يصعب كثيراً من الانفصال الأميركي وكذلك الأوروبي عن الصين.
وفق تقرير لمجلة إيكونوميست البريطانية، فإن صادرات الصين العالمية من السلع الوسيطة ارتفعت منذ عام 2019 بنسبة 32%، مقارنة بارتفاع في أنواع أخرى من الصادرات، مثل السلع تامة الصنع، بنسبة 2% فقط. وكان الدافع وراء هذه الزيادة هو الصادرات إلى دول مثل الهند وفيتنام، وهما من الشركاء التجاريين المفضلين للحكومة الأميركية.