بعد مماطلات وتشدد في مواقف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وعدد من وزراء مجلس الحرب، قررت إسرائيل إرسال وفد مفاوضات يشمل رئيس جهاز “الموساد” ديفيد برنيع ورئيس “الشاباك” رونين بار، ونيتسان ألون المسؤول عن ملف الأسرى والمخطوفين، بمرافقة مستشار نتنياهو السياسي أوفير فولك، للمشاركة في مفاوضات جرت نهاية الأسبوع الماضي في باريس، بمشاركة الولايات المتحدة وقطر ومصر، في محاولة جديدة للتوصل إلى اتفاق يشمل صفقة تبادل أسرى ووقف إطلاق النار في قطاع غزة.
ردود نتنياهو على مقترحات “حماس”
رد فعل نتنياهو على مقترحات حركة “حماس” قبل عدة أسابيع، حول العودة للتفاوض على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، كان حاداً، إذ رفض الإطار المقترح الذي يشمل وقف الحرب على غزة، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، وإطلاق سراح الأسرى على دفعات، مقابل أعداد كبيرة من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
إسرائيل لا تعارض مبدأ تبادل الأسرى والمخطوفين مقابل وقف إطلاق النار وتحرير أسرى فلسطينيين، إنما ترفض رفضاً باتاً أن يعني ذلك وقف الحرب وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة. وكذلك رفضت المقترح الذي اقترحته “حماس” لتبادل الأسرى، من جهة عدد الأسرى الفلسطينيين المحررين مقابل كل أسير إسرائيلي.
الإدارة الأميركية تسعى لتحقيق اختراق ما في المفاوضات قبل بدء شهر رمضان
رفضُ نتنياهو المقترحات المقدمة من قبل الوسطاء باسم “حماس” لم يؤد إلى زعزعة حكومته، ولم يحرك الشارع الإسرائيلي للاحتجاج والمطالبة بالتوصل إلى صفقة فورية بشكل جدي، على الرغم من بعض التظاهرات وإغلاق الشوارع من قبل أهالي المحتجزين الإسرائيليين، ولم يلقَ انتقادات حادة من الإعلام الإسرائيلي.
ردود الفعل كانت فاترة وضعيفة، وما أزعج الوزيرين بني غانتس وغادي أيزنكوت كان تفرد نتنياهو بالقرار من دون نقاشه في مجلس الحرب المصغر. على ما يبدو، كان هناك بعض التغيرات منذ العرض الأخير من “حماس” لغاية الأيام الأخيرة، مع تلقي إسرائيل معلومات عن تحول طفيف في موقف “حماس” لإطار الصفقة المقترحة، بما يتعلق بمطلب وقف الحرب ومفتاح تبادل الأسرى.
قرار نتنياهو جاء بعد ضغط كبير من قبل الوسطاء وخصوصاً من قبل الإدارة الأميركية، التي أرسلت مبعوث الرئيس الخاص بريت ماكغورك إلى إسرائيل، للضغط على الحكومة وعلى رئيس الوزراء بشكل خاص للعودة إلى المفاوضات.
الإدارة الأميركية تسعى لتحقيق اختراق ما في المفاوضات قبل بدء شهر رمضان (متوقع في 10 مارس/آذار المقبل)، كذلك الوسيطان قطر ومصر. إلا أن قرار نتنياهو ومجلس الحرب جاء بعد أن أنجز نتنياهو، من وجهة نظره، عدة نقاط بموقفه الرافض للتفاوض قبل عدة أسابيع.
نتنياهو أراد من تشدد وتعنّت موقفه أن يرسل رسائل إلى المجتمع الإسرائيلي، وأن يعزز صورته قائداً لا يخضع للإملاءات ولا للضغوط، لا من الإدارة الأميركية ولا من “حماس”، ولا حتى من قبل أُسر المخطوفين المطالبة بالتعجيل في التوصل إلى صفقة تبادل قبل فوات الأوان.
كذلك أراد نتنياهو أن يميز موقفه عن موقف غانتس وأيزنكوت اللذين يميلان إلى مواقف عائلات المخطوفين وإلى استعجال صفقة تبادل، ويضغطان باتجاه العودة إلى المفاوضات؛ كذلك لا يريد نتنياهو أن يترك وزراء اليمين المتطرف في موقف واضح ضد العودة إلى التفاوض أو رفض الصفقات أصلاً، ويسعى بذلك لمخاطبة قواعد اليمين واليمين المتطرف وكسب ودها من جديد.
نتنياهو أراد أيضاً إيصال رسالة إلى الإدارة الأميركية وقطر ومصر، بأن الحكومة الإسرائيلية مستمرة في الحرب وأنها لن تتراجع حتى بثمن خسارة عدد من المخطوفين. نتنياهو صرح عدة مرات بأن المرحلة القادمة في الحرب ستكون توسيع الحرب البرية إلى رفح على الرغم من المخاطر الكبيرة على المدنيين والعدد الكبير من النازحين هناك، وعلى الرغم من معارضة مصر هذا التوسع ومخاوفها من دخول أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية.
تهديد نتنياهو موجّه أيضاً إلى حركة “حماس”، مع اعتقاد إسرائيل أن قيادات “حماس” موجودة في منطقة رفح مع عدد من المخطوفين الإسرائيليين، وبذلك، يريد إيصال رسالة بأن لا حدود لما يمكن أن تقوم به إسرائيل ولا الجيش الإسرائيلي، ولا توجد منطقة آمنة في قطاع غزة، ولا شيء يمكن أن يردع إسرائيل، ولا حتى خطر أن يُقتل محتجزون اسرائيليون جراء اجتياح رفح.
إسرائيل تفك الارتباط بين الحرب في غزة وجبهة لبنان
موافقة إسرائيل على المشاركة في جولة المفاوضات جاءت في ظل زيادة التوتر والتهديدات وتوسع العمليات العسكرية على الجبهة الشمالية، إذ شهدت هذه الجبهة في الأسابيع الأخيرة تطورات ميدانية جدية. إسرائيل باتت تفصل بين تطورات الجبهة الشمالية وبين الحرب على غزة، على عكس “حزب الله” الذي ما زال يربط بين وقف العمليات تجاه إسرائيل بوقف إطلاق النار في غزة. إسرائيل فكت الارتباط بين الجبهتين وتشدد على أن وقف العمليات العسكرية في الشماليكون فقط عبر ابتعاد مقاتلي “حزب الله” عن الحدود وصولاً إلى شمال نهر الليطاني.
نتنياهو زار، نهاية الأسبوع، وحدات الجيش الإسرائيلي العاملة في جبل الشيخ، ووجّه مرة أخرى تهديدات لـ”حزب الله” بأن إسرائيل تهدف إلى إعادة سكان البلدات الحدودية إما بواسطة حلول دبلوماسية أو حلول عسكرية إذا لزم الأمر.
بالتوازي، يرسل الجيش الإسرائيلي رسائل تحذير يومية عبر المناورات والتدريبات التي يقوم بها في منطقة الشمال، وعبر اغتيال قيادات ميدانية لـ”حزب الله”، وتعميق العمليات العسكرية في العمق اللبناني، واستمرار استهداف عناصر “حزب الله” في سورية.
إسرائيل ترسل رسائل “جنون” إلى المنطقة وإلى العالم، وتوضح أنها لن تتراجع قبل تحقيق أهداف الحرب الاستراتيجية في غزة، على الرغم من تعثر وتعذر ذلك لغاية الآن.
بغية إقناع اللاعبين الآخرين في المنطقة بجدية هذا التوجه، تترجم إسرائيل هذا التوجه عسكرياً على أرض الواقع، لكن لغاية الآن، من دون أن تكسر قواعد الاشتباك بالكامل مقابل “حزب الله”. إلا أن الاستمرار بهذا المنطق وهذه الأدوات لا يمكن أن يضمن استمرار السيطرة والضبط مقابل “حزب الله”.
وقف العمليات العسكرية في الشمال يكون فقط عبر ابتعاد مقاتلي “حزب الله” عن الحدود
بالتوازي مع رسائل التهديد والتصعيد، والعودة إلى المفاوضات، وربما بسببها، عرض نتنياهو على مجلس الوزراء المصغر، نهاية الأسبوع، خطته لليوم التالي للحرب على غزة، كنوع من الخطوات الاستباقية للمبادرة الأميركية واستمرار للضغط على السلطة الفلسطينية والوسطاء، وبعض الدول العربية. وأيضاً كرسائل إلى المجتمع الإسرائيلي بأن العودة إلى المفاوضات لا تعني نهاية الحرب.
نتنياهو وضح استراتيجيته وخطوطه الحمراء لليوم التالي. وقال إن إسرائيل ستستمر في الحرب حتى تحقيق أهدافها الاستراتيجية. وستستمر إسرائيل في السيطرة الأمنية في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة بعد انتهاء الحرب، وستسعى لإنشاء إدارة مدنية محلية في غزة غير مرتبطة بالسلطة الفلسطينية ولا “حماس”، وتكون نوعاً من أنواع روابط القرى العميلة لإسرائيل.
إسرائيل ستسيطر على الحدود مع غزة، ما يعني ضمنياً القيام بحملة برية في رفح والسيطرة على محور فيلادلفيا، في ظل عدم قبول إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية.
اقتراح نتنياهو جاء أيضاً رداً على وثيقة أيزنكوت التي سربت في الإعلام وانتقدت بشدة غياب قرارات وتخطيط استراتيجي للحرب على غزة، وانتقدت استعمال نتنياهو مصطلح “النصر المطلق” في الحرب على غزة، وتحذر من الفشل في تحقيق أهداف الحرب.
كما قام وزير الأمن يوآف غالانت، قبل شهرين، بعرض تصوره لليوم التالي للحرب، الذي يركز أيضاً على سيطرة إسرائيل العسكرية في غزة وإقامة جسم مدني لإدارة الشؤون المدنية لا يرتبط بـ”حماس” ولا بالسلطة الفلسطينية. نتنياهو لا يريد ترك هذه الساحة للمنافسين، بل يرغب في تحديد إطار اليوم التالي من وجهة نظره.
هذه الاقتراحات تشي بأن إسرائيل لم تقرر لغاية الآن موقفاً وخطة واضحة، ومقبولة من مكونات الحكومة، لليوم التالي للحرب، وأن أهدافها الأساسية لغاية الآن هي الاستمرار بالحرب، ومحاولة تحقيق أهداف الحرب الاستراتيجية. العودة إلى المفاوضات من وجهة نظر إسرائيلية يمكن أن تمنح إسرائيل هدوءاً دبلوماسياً وهدوءاً داخلياً، ووقتاً إضافياً للاستمرار بالحرب، وربما تؤدي إلى تحرير أسرى ومخطوفين بشروط مقبولة من إسرائيل، ووقف مؤقت لإطلاق النار قبيل شهر رمضان.
نشر خطة نتنياهو لليوم التالي تندرج أيضاً في إطار تخفيف الضغوط الخارجية والداخلية، وتوضيح وضبط حدود النقاش العام حول معايير اليوم التالي للحرب. العودة إلى المفاوضات بعد تخفيف شروط “حماس” يخدم مصالح نتنياهو ومصالح الحكومة، وربما يؤدي إلى تحرير قسم من المخطوفين، ليستعمل نتنياهو ذلك كإنجاز يحسن من مكانته السياسية.