خلال عامين من غزو روسيا لأوكرانيا (24 فبراير/ شباط 2022) دخلت منطقة القطب الشمالي أجواء تنافس عسكري، مذكرة بفترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وحلفائه في شرق أوروبا، وبين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين (بين عامي 1947 و1991). عسكرة القطب الشمالي واضحة اليوم، مع عودة موسكو إلى تشغيل قواعد عسكرية قطبية، بعضها من الزمن السوفييتي، مقابل دخول واشنطن وبقوة إلى الدائرة القطبية من خلال اتفاقيات مهمة مع “دول الشمال”.
وسبقت هذا التنافس المستجد منذ عامين برودة في التعاون بين الغرب وروسيا، على خلفية ضمّ موسكو لشبه جزيرة القرم في 2014. وسرّعت الحرب الأوكرانية من محاولات أميركية ـ غربية لتعزيز مكاسب حيوية في القطب الشمالي، بحسب اتهامات روسيا، بعيداً عن روح التعاون بشأن المناخ والسكّان الأصليين والأبحاث الميدانية عن الطاقة النظيفة، وقضايا كثيرة أخرى، تأسس لأجلها “مجلس القطب الشمالي” (أنشئ رسمياً في 1996)، المكون من الدول المتاخمة له.
استغلت الدول الغربية في “مجلس القطب الشمالي” انشغال روسيا في حربها لفرض سياسة الأمر الواقع
خلال الأشهر الـ24 من حرب أوكرانيا حتى الآن، استغلت الدول الغربية في “مجلس القطب الشمالي” انشغال روسيا في حربها لفرض سياسة الأمر الواقع، فتحول المجلس إلى تحالف أطلسي (الناتو). فمع انضمام فنلندا إلى الحلف وبقاء عقبة وحيدة أمام السويد (تنتظر السويد موافقة المجر المتوقعة اليوم الإثنين)، يصبح مجلس القطب الشمالي بمثابة “ناتو 7″، إذ يضم كلاً من أيسلندا والنرويج والدنمارك وفنلندا والسويد وكندا وأميركا في مواجهة روسيا.
وما يقدمه هذا التطور السلبي لروسيا أنها تجد نفسها على حدود جارين خرجا من سياسة الحياد وتصفير المشكلات معها. ففنلندا، التي خاضت حرباً طاحنة مع الجيش الأحمر أثناء الحرب العالمية الثانية، ولديها حدود مع روسيا بأكثر من 1340 كيلومتراً، اختارت خلال العامين الماضيين التخلي عن عقود من سياسة تجنب النزاعات مع الجار الروسي. والأمر ذاته ينطبق على السويد، التي ظلّت لنحو مئتي عام تنتهج سياسة الحياد بين الأحلاف. بل وفي الحالتين، تغيّر المزاج الشعبي من رافض للانضمام إلى “الأطلسي” إلى مؤيد له.
بالنسبة لروسيا، فإن التعاون في منطقة القطب الشمالي، بناء على مبادرة من آخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في عام 1987، من أجل تعاون سلمي في المنطقة مع الغرب، بدأ يتحول إلى “استفزاز” تقوده واشنطن، لتحويل المنطقة إلى ما يشبه دائرة أطلسية، على مشارف مناطق حيوية ومهمة في العقيدة الروسية، سواء كانت سوفييتية أو قيصرية.
في الأيام الأولى للحرب الأوكرانية، أوقفت الدول السبع في مجلس القطب الشمالي تعاونها مع روسيا، مبقية على مسائل بروتوكولية غير سياسية. وبناء عليه، كشفت وزارة الخارجية الروسية، في الرابع عشر من شهر فبراير/ شباط الحالي، عن توقف موسكو عن سداد الرسوم السنوية للمجلس الأركتيكي الذي يضم الدول المطلة على منطقة القطب الشمالي. وقال متحدث باسم الوزارة لوكالة “نوفوستي” الحكومية الروسية: “تم تعليق دفع روسيا للرسوم السنوية إلى ميزانية المجلس الأركتيكي حتى استئناف العمل الفعلي في هذا الإطار بمشاركة جميع الدول الأعضاء”.
الانزعاج الروسي من سياسات الدول الغربية في القطب الشمالي لا يتعلّق بتوقف التعاون معها في قضايا سلمية، بل لإدراكها أن الغربيين بزعامة واشنطن يحاولون التمدد والعسكرة في المنطقة بعد أن تحولت كل “مجموعة دول الشمال” إلى أطلسية، فاتحة أراضيها للعسكرة الأميركية على تخوم روسيا.
مقابل محاولات أطلسية لعزلها في القطب الشمالي تستطيع موسكو استدعاء بكين إلى تخوم ألاسكا
تزايد توتر العلاقة الغربية الروسية بسبب أوكرانيا، نشّط الجهود الأميركية نحو عقد اتفاقيات مع دول عدة، ومنها النرويج، تسمح للأميركيين باستخدام أربع قواعد والوصول إليها دون عوائق، وخصوصاً القريبة من روسيا في أقصى الشمال النرويجي.
القلق الروسي من محاولات الغرب عزله واستفراده بالقرارات، دفع بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى تذكير الغربيين بعد اجتماع المجلس القطبي في أيسلندا في 19 و20 مايو/ أيار 2021 بأنه عليهم أن يتذكروا أن “منطقة القطب الشمالي هي أرض روسية”. ووصف التحرك العسكري الغربي بأنه “أمر وقح وعديم اللياقة وخطر”.
ومع أن التنافس السابق بين دول القطب الشمالي كان يتركز على مطالب متعلّقة بسيطرة جغرافية، وبنفوذ أكبر بشأن موارده الطبيعية، يبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا دفع الغرب إلى نقل التنافس إلى ما هو أهم في القيمة السياسية (الجيوسياسية) والأمنية للقطب الشمالي.
فخلال سنوات من التغير المناخي، وذوبان رقع جليدية ضخمة، كانت موسكو تظهر اهتماماً زائداً بممرات شحن بحري في الدائرة القطبية، وخصوصاً أنها تمتلك أسطول كاسحات جليد.
مع صباح يوم 24 فبراير 2022 انقلب المشهد رأساً على عقب، ما جعل القطب الشمالي يدخل إلى عصر التنافس وسباق تسلح. فسردية موسكو في الحرب الأوكرانية قامت على أن الغرب انتهك تعهداته في بداية تسعينيات القرن الماضي، بألا يتوسع “الأطلسي” إلى أبعد من حدود شرق ألمانيا. وضمّ السويد وفنلندا إلى “الأطلسي” يعني أيضاً مضي الغرب في سياساته المعززة لعسكرة القطب الشمالي، بحسب موسكو، وهو أمر تتابعه الأخيرة بقلق.
الروس يراقبون التطورات بخطوات عسكرية
موسكو، وعلى مدار سنوات توتر علاقتها بالغرب (بعد ضم شبه جزيرة القرم والتدخل في شرق أوكرانيا)، لم تكن تكتفي فقط بالتفرج على العسكرة الغربية على تخومها. فأعادت تشغيل نحو 50 من قواعدها العسكرية، ومنها التي توقفت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في أقصى الشمال. وأصبحت التمارين والمناورات العسكرية الضخمة أكثر ظهوراً للغرب.
واجهت موسكو عودة واشنطن إلى جزيرة غرينلاند، التي شغلت فيها خلال الحرب الباردة قاعدة ثولا الكبيرة، بتوسيع نشاطها العسكري في قواعد على بعد 250 كيلومتراً فقط من جزيرة كفيتويا النرويجية ونحو ألف كيلومتر من غرينلاند نفسها، وأهمها قاعدة ناغورسكوي في جزيرة ألكسندرا في أرخبيل فرانز جوزيف، بمطار واسع يستقبل أحدث الطائرات.
وحوّلت روسيا علناً منطقة مورمانسك في أقصى الشمال الروسي، إلى منطقة عسكرية لوجستية للقواعد التي أعيد تشغيلها وتحسينها لتستقبل القاذفات الاستراتيجية، حتى في أصعب الفصول. ومن أهم القواعد التي عادت موسكو إلى تشغيلها في دائرة القطب الشمالي، إلى جانب ناغوركوي، تأتي قاعدة تيمب في جزيرة كوتيلني، وتيكسي في البر الرئيسي الروسي، وروجاتشيفو في نوفويا زيمليا.
استغلال واشنطن لحرب روسيا في أوكرانيا، وجمود التعاون معها من خلال “مجلس القطب الشمالي”، جعل الوجود الغربي، بقيادة أميركية، أكثر إحاطة بروسيا في الدائرة القطبية، وزاد الرغبة في عزلها، وفرض سياسة الأمر الواقع، من خلال معاهدات واتفاقيات عسكرية مع دول الشمال وإسكندنافيا “الأطلسية”.
بالطبع تدرك روسيا أهمية المنطقة القطبية الشمالية بالنسبة لبعض الصناعات التي تدخل تربتها النادرة في العديد منها، من السيارات الكهربائية والهواتف المحمولة وأجهزة الحاسوب إلى توربينات الرياح لتوليد الطاقة الكهربائية، إلى جانب احتياطي نفط وغاز ويورانيوم. بل إن التغيرات المناخية ساهمت بظهور طريق إبحار جديد في أقصى شمال الأرض، لتقصير الزمن المستغرق بين آسيا وأوروبا.
أندرياس بويا فورسبي: تلويح موسكو بالخروج من المجلس القطبي يبقى أحد الخيارات
وتمتلك موسكو نحو 50 من كاسحات جليد، بعضها نووية، بينما واشنطن لديها اثنتان فقط. ذلك يعني أنه في مقابل محاولات أطلسية لعزلها في القطب الشمالي تستطيع موسكو استدعاء بكين إلى تخوم ألاسكا، والقواعد الأميركية الأخرى في القطب الشمالي. فالصين عبّرت خلال العقد الأخير عن رغبتها بدخول المجلس القطبي، وحاولت مراراً إقامة مشاريع واتفاقيات مع غرينلاند للنفاذ إليه، لكنها جوبهت بـ”فيتو” كوبنهاغن، بدعم من واشنطن، كونها مسؤولة عن السياسات الدفاعية والخارجية للجزيرة.
إمكانية قلب الطاولة والخروج من المجلس
ويبدو أن حذر موسكو السابق من وصول بكين إلى مناطق الشمال الحيوية خفّف منه التخندق الغربي مع أوكرانيا، ومحاولته تأجيل الحسم العسكري، رغم ما يستنزفه ذلك من أموال وأسلحة غربية. فرغبة موسكو بقدوم بكين يعده بعض المراقبين “أمراً يمكن اللجوء إليه لتخفيف ضغوط الغرب”، بحسب ما يؤكد كبير باحثي المركز الدنماركي للدراسات الدولية فليمنغ سبيدسبويل، لـ”العربي الجديد”.
ويشير زميله الباحث في الشأن الصيني بنفس المركز، أندرياس بويا فورسبي، إلى أن بكين “لديها فكرة التدخل في الحديقة الخلفية الغربية لإبعاد الغرب عن قضية تايوان وآسيا”، مشدداً في حديث لـ”العربي الجديد” على أن “تلويح موسكو بالخروج من المجلس القطبي يبقى أحد الخيارات للضغط على الدول السبع الأخرى فيه”.
وكانت وكالة “ريا نوفوستي” الروسية نقلت يوم 6 فبراير الحالي، عن مصدر دبلوماسي في الخارجية الروسية، إحباطا من الرئاسة النرويجية الدورية للمجلس (بين صيف 2023 و2025)، التي “لم تف بوعودها لوقف التمييز في المجلس”. وشددت الوكالة على أن استمرار سياسة عزل موسكو سيؤدي إلى انسحابها من المجلس القطبي.
كذلك كانت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، قد صرحت في بداية الشهر الحالي أن مسألة انسحاب روسيا من المجلس قد تطرح في حال تطوره إلى مؤسسة “غير صديقة”. لكن على الرغم من إعلان وزارة الخارجية الروسية، في 14 فبراير، وقف موسكو سداد الرسوم السنوية للمجلس، إلا أن متحدث باسمها، أكد لوكالة “نوفوستي” أن “مسألة الانسحاب المحتمل من المجلس غير مطروحة ضمن الإطار العملي اليوم”.
ومثل تلك الخطوة، إذا ما حصلت، تعني نهاية التعاون الذي تأسس لأجله المجلس قبل نحو 26 عاماً. إذ على الرغم من أن الغرب يوسع حضوره في القطب الشمالي، تظل روسيا مهيمنة على أجزاء حيوية منه، وهي هامة بالنسبة للغربيين. وفي ضوء خطوات روسيا السابقة، فمن المحتمل أن تذهب إلى تجميد عمل المجلس القطبي، وبالتالي استبدال التعاون بصيغ سباق محموم في العسكرة. ففي سبتمبر/ أيلول الماضي ترجمت موسكو إحباطها من التصرفات الغربية بانسحابها من “مجلس بحر بارنتس للتعاون الأوروبي ـ القطبي الشمالي” (بين دول الاتحاد الأوروبي والنرويج وروسيا).
من الواضح إذاً أن علاقة الغرب وروسيا تمرّ منذ 24 شهراً بحالة غياب الثقة بأكثر من ساحة، والقطب الشمالي أبرزها. فواشنطن التي تعزز عسكرتها في ألاسكا، حيث نشرت 54 مقاتلة من نوع “أف 35” وعدداً من طائرات “أف 16” و”أف 22″، وكاسحتي جليد، على بعد بضعة كيلومترات من روسيا، آخذة في استغلال الحرب الأوكرانية لتعزيز مكاسب توسيع “الأطلسي”، وعقد اتفاقيات تسمح بعودة أجواء الحرب الباردة على الجبهات الأوروبية الشمالية.
في المقابل، فإن موسكو التي دخلت الحرب في أوكرانيا بسبب معارضتها توسع حلف شمال الأطلسي، ومطالبتها بعودة التعهدات الغربية بعد انهيار جدار برلين، ترى عن كثب أنها تعود إلى نقطة الصفر في العلاقة مع أوروبا الشمالية، التي تعطي مساحات واسعة للتحرك الأميركي في المنطقة القطبية الشمالية، وعلى تخوم أقصى الشمال الروسي، بعد أن حولت منطقة بحر البلطيق إلى ما يشبه “بحيرة حلف شمال الأطلسي”، وهو ما يزعج موسكو في القطب الشمالي.