هل بدأ المشروع الصهيوني يفرز تناقضاته الكفيلة بتفكيكه في المدى البعيد؟ يكتسي هذا السؤال دلالاته في ضوء التصدّع المجتمعي الذي تشهده إسرائيل على خلفية مشروع الإصلاح القضائي الذي تقدّمت به حكومة بنيامين نتنياهو التي تضم أحزاباً من أقصى اليمين الصهيوني الديني.
من السابق لأوانه القول إن هذا التصدّع يهدد بتفجير الكيان الصهيوني من الداخل. لكنه، على الأقل، يضع تحدّيات أمام النخب الإسرائيلية في إدارته والتحكّم في وتيرته من دون تكاليف كبيرة. وأبرزها فائضُ القوة السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية الذي بات بحاجة لمسالك جديدة قصد تصريفه، وتحديداً في الداخل الإسرائيلي؛ بمعنى أن القمع الموجّه نحو الفلسطينيين ينبغي أن يتوازى، وفق منظور اليمين الصهيوني الديني، مع سحب البساط من تحت أقدام الصهيونية العلمانية، المسنودة بـ”شرعيةٍ تاريخية” حازتها بسبب دورها في ”حرب الاستقلال” وبناء الدولة. أصبحت هذه الصهيونية العلمانية عقبة سياسية أمام أهداف اليمين الديني التي يتصدّرها نقلُ مركز الصراع إلى المسجد الأقصى. يتعلق الأمر بتآكل ذاتي فرضه إخفاق الحكومات التي تعاقبت على حكم دولة الاحتلال في التوفيق بين ”الأمن القومي”، الذي يعني بالضرورة تجفيف منابع الوجود الفلسطيني، والتصدّع المجتمعي المرتبط بتسوية داخلية حول جدل الدين والقومية في بناء الهوية الإسرائيلية.
يخلط صعود الصهيونية الدينية الأوراق في إسرائيل، وفي الإقليم، وحتى في الولايات المتحدة التي يجد اللوبي الصهيوني فيها نفسَه في مأزق، في ظل الأعباء الداخلية والإقليمية التي أفرزها تحالف نتنياهو مع اليمين الديني المتطرّف. لم يعد هذا اليمين يكتفي برئاسة الحكومة، بشكلٍ متناوبٍ مع اليسار الإسرائيلي، بعد أن أصبح يمتلك قاعدة اجتماعية عريضة تسمح له بالانعراج بالمشروع الصهيوني نحو أطوارٍ أخرى أكثر راديكالية، فهو ضد حلّ الدولتين، وضدّ أي تسوية مع الفلسطينيين الذين لا يعترف لهم بأي حقوقٍ على أرض فلسطين التاريخية. ولذلك يتصدّر الاستيطان والتهويد سلم أولوياته.
تستمدّ الصهيونية الدينية قوتها من فشل الصهيونية العلمانية في حل التناقض البنيوي للديمقراطية الإسرائيلية؛ تناقض بين خلفيتها الليبرالية المفترضة التي تحيل إلى حكم الأغلبية وسيادة القانون وفصل السلطات والتداول على السلطة واحترام الحقوق والحريات (بالنسبة إلى الإسرائيليين من اليهود طبعاً)، وبنيتها اليهودية التي يُفترض أن تعكس الأساطيرَ الدينيةَ المؤسّسةَ. لقد نجحت الصهيونية العلمانية، مرحلياً، في علمنة هذه الأساطير ولَبْرلتِها وإضفاء الطابع القومي عليها، لكنها فشلت في مصالحتها مع ”الديمقراطية الإسرائيلية”، وفشلت، تالياً، في حل هذا التناقض، أو على الأقل إدارته بأقلّ التكاليف.
لا تقدّم الصهيونية الدينية حلاً لهذا التناقض، بل تنقله إلى طوْر أكثر تعقيداً بجعل خطابها المتطرّف حلاً لأزمة الهوية داخل الدولة والمجتمع الإسرائيليَّين. في ضوء ذلك، يصعُب الجزم بأن هذا التناقض قد بلغ ذروته بالنظر للديناميات المعقّدة التي تحكم الصراع في بيئته المحلية (الفلسطينية/ الإسرائيلية) والإقليمية والدولية. لكن المؤكّد أن إسرائيل تواجه مأزقاً وجودياً بسبب غياب مسالك جيوسياسية لتصريف فائض القوة لديها. لقد انتصرت على الفلسطينيين وأذاقتهم شتّى أصناف العذاب والتنكيل، لكنها أخفقت في هزمهم وكسر إرادتهم. وشتّان بين الانتصار على العدو، وهزمه وكسر إرادته. ولعل هذا ما يلخّص مأزق المشروع الصهيوني في هذه اللحظة التاريخية.
اندحار الصهيونية العلمانية، وإزاحتها المحتملة عن مواقع صنع القرار، سيرهنان ”الديمقراطية الإسرائيلية” أكثر ليهودية الدولة، وسيفتحان الطريق نحو دولةٍ دينيةٍ هجينة، على النمط الثيوقراطي، هدفها الرئيس إعادة تشكيل بنية الدولة والمجتمع، لا مكان فيها للتعددية والتداول على السلطة. يُوازي ذلك صراعٌ سيستمر، على ما يبدو، على إعادة تركيب هوية الدولة والمجتمع، أمام استمرار الصراع مع الفلسطينيين، وفشل اتفاقات التطبيع مع الدول العربية في إحداث ثغرةٍ في جدار الرفض الشعبي العربي. وهو ما يعمّق مأزق المشروع الصهيوني ويفضح أكثر طبيعته الاستعمارية والعنصرية. ما يعني أن الكرة ستكون في ملعب النخب الفلسطينية، التي تبدو مطالبةً، أكثر من أي وقت مضى، بالتوافق على مشروع وطني جديد أكثر استيعاباً للمتغيرات الحاصلة.