بينما حظيت وساطة الصين في اتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران لتطبيع العلاقات الدبلوماسية باهتمام كبير، جذبت صفقة أخرى اهتمامًا أقلّ على الرغم من أنها ذات دلالة مماثلة في تسليط الضوء على نوايا الصين في منطقة الشرق الأوسط وخارجها.
وفقًا لتقرير سالم السيد، أبرمت المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري وشركة “توتال إنرجيز” الفرنسية الشهر الماضي أول صفقة طاقة على الإطلاق يتم تسويتها باليوان تشمل 65 ألف طن من الغاز الطبيعي الإماراتي المسال. وعبّر كل من العراق والسعودية عن استعدادهما أيضًا للتعامل باليوان، وذلك حسب ما نقله الصُّحفي آدم لوسينتي. بالإضافة إلى ذلك، توصّلت الصين والبرازيل إلى اتفاق هذا الأسبوع يجعل المبادلات التجارية باليوان.
يركز الدبلوماسيون الأمريكيون في المنطقة بشكل متزايد على مكائد الصين، لا سيما عمليات نقل التكنولوجيا الحساسة، والكشف تدريجيا عن عدم رغبة الولايات المتحدة في أن تصبح التجارة باليوان رائدة.
وتعتبر صفقة المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري وشركة “توتال إنرجيز” حالة مستقلة حتى الآن، ويأمل المسؤولون الأمريكيون أن تبقى كذلك. فعلى سبيل المثال، لم توافق المملكة العربية السعودية والعراق بعد على المعاملات المقومة باليوان. وحتى الآن، لا يزال هذا مجرد حديث فحسب. لكن الاتجاه الصاعد المحتمل قد يشير إلى استراتيجية بكين طويلة الأجل لتقويض نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى.
انقسام حول التهديد الصيني
ينقسم المسؤولون والخبراء حول ما إذا كان تنامي التجارة المقومة باليوان في الشرق الأوسط والعالم يمكن أن يشكّل تهديدًا لهيمنة الدولار باعتباره عملة احتياطيّة في الاقتصاد العالمي.
يجادل كاتب العمود في صحيفة “نيويورك تايمز” بول كروغمان، وغيره، بأن اليوان لا يمثل تهديدًا للدولار. ومع مراعاة ضوابط رأس المال، لا يمكن لليوان أن يضاهي السيولة العالمية للدولار دون إجراء تغيير جذري في السياسة النقدية الصينية.
إن المعاملات المالية الرئيسية مقوّمة بالدولار بما في ذلك أسواق الطاقة. وقد استأثر الدولار بـ 96 بالمئة من التجارة العالمية في العقود الأخيرة، بينما لم يتجاوز اليوان اثنين بالمئة في سنة 2022. وأضاف كروغمان أنه حتى لو تعرض مركز الدولار للتهديد “فلن تكون هذه مشكلة كبيرة”.
ولكن الخبراء الآخرين ليسوا متأكدين من ذلك. كتب الخبير الاقتصادي نورييل روبيني في صحيفة “فاينانشيال تايمز” أنه “قد يكون لدى الصين ضوابط على رأس المال، لكن الولايات المتحدة لديها نموذجها الخاص الذي قد يقلل من جاذبية الأصول المقومة بالدولار في صفوف الأعداء والحلفاء المقربين. ويشمل هذا العقوبات المالية ضد منافسيها، والقيود المفروضة على الاستثمار الداخلي في العديد من القطاعات والشركات الحساسة للأمن القومي وحتى العقوبات الثانوية ضد الحلفاء الذين ينتهكون القواعد الأساسية”.
يرى روبيني أن بروز “نظام ثنائي القطب من حيث العملة” سيقضي عاجلاً أم آجلاً على الوضع المتميز للدولار، خاصة أن الولايات المتحدة تعاني من عجز دائم في الحساب الجاري مما يثير تساؤلات حول استدامة الالتزامات الدولية للولايات المتحدة.
هل بات المستقبل الرقمي للدولار على المحك؟
قد يكون الدولار أيضًا محور ميدان لعبة رقمية صينية تركز على الشرق الأوسط ومناطق أخرى. فقدت العملات المشفرة خلال السنة الماضية زحمها مع خسارة عملة البيتكوين حوالي 60 بالمئة من قيمتها وانهيار بورصة “إف تي إكس”، في حين تواصل الصين أخذ زمام المبادرة في تقنيات “ويب 3″ و”بلوكشين” والاقتصادات القائمة على الرموز المميزة، خاصة في آسيا والشرق الأوسط.
لا يزال الشرق الأوسط، رغم الفشل الذريع لبورصة “إف تي إكس” وما يرتبط به من ردود فعل سلبية وفضائح، مَركزًا وحتى حاضنة للتكنولوجيا المالية. وذكر سليم السيد أنه “على الرغم من أن النمو في سوق التكنولوجيا المالية الإسلامية لا يزال في بدايته، ويقدر حاليًا بنحو 79 مليار دولار، إلا أنه من المتوقع أن يرتفع بنسبة 18 بالمئة سنويًا، حيث تتصدر المملكة العربية السعودية وإيران وماليزيا والإمارات العربية المتحدة وتركيا وإندونيسيا المراتب الأولى، والتي تمثل معًا 81 بالمئة من إجمالي حجم السوق”. وقد لا تواكب الولايات المتحدة المبادرات الصينية للمطالبة بحصة عملتها في الاقتصاد الرقمي.
من جانبه، كتب براندون بوسين، وهو موظف في السلك الديبلوماسي يعمل في السفارة الأمريكية في طوكيو ومستثمر في الأصول الرقمية، إن “تأثير الدولار على المستقبل الرقمي بات على المحك”. فعلى سبيل المثال، تسعى الصين إلى الحصول على بعض المدفوعات الرقمية عبر “إم بريدج ليدجر”، وهو نظام بلوكشين يستخدم العملة الرقمية للبنك المركزي الصيني.
وأورد بوسين أن “الأصول الرقمية المرتبطة بالدولار، التي تسمى العملات المستقرة، تعكس مكانة الدولار في الاقتصاد الرقمي. ولكن إذا لم يكن بإمكان مصدّر إندونيسي للموارد الطبيعية – مثلا – الحصول على مدفوعات إلا من خلال الشبكة الصينية المغلقة الخاصة به ولا يمكن الدفع بأصول رقمية مقومة بالدولار الأمريكي مثل العملات المستقرة المدعومة بالدولار، فسوف يعاني النظام المالي الأمريكي”.
السياق الجيوسياسي
حسب روبيني، يتطلّب الجدل حول ما إذا كان اليوان يمثل تحديا للدولار سياقًا جيوسياسيًا، بما في ذلك تأثير العقوبات والقيود الأمريكية على الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا الحساسة.
لنأخذ بعين الاعتبار التوافق الجيوسياسي والتجاري الناشئ بين الصين وروسيا وإيران، وهي دول لها مصلحة في الالتفاف على العقوبات الأمريكية والدولار – علما بأن عدد سكان هذه الدول مجتمعة يبلغ 1.7 مليار نسمة. وخُذ بعين الاعتبار أيضا مختلف الدول في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا – الهند وباكستان والمملكة العربية السعودية والعراق وسوريا وجنوب إفريقيا، وما إلى ذلك – التي قد تُبرم صفقات بعملات بديلة لتسهيل التجارة مع الصين أو للالتفاف حول العقوبات الأمريكية أو كليهما.
يمثّل هذا سوقًا هائلة للعملة الصينية ونطاقا شاسعًا حتى تدافع الولايات المتحدة عن مصالحها فيه. ويحدث كل هذا في سياق السياسة الخارجية الصينية المتشددة بشكل متزايد وصعود قادة سياسيين – في المنطقة وحول العالم – يرسمون مسارهم الخاص بينما يسعون إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع كل من واشنطن وبكين.
“بالتدرّج ثم فجأة”
يتساءل بيل في رواية “الشمس تشرق أيضًا” الصادرة في سنة 1926 للكاتب إرنست همنغواي “كيف أفلست؟”، فيجيب مايك “بطريقتين. بالتدرّج، ثم فجأة”. وقد ينطبق قانون همنغواي للحركة – كما أصبح معروفًا – على مكانة الدولار المتميزة وقد لا ينطبق. وهناك أسباب هيكلية لعدم مضاهاة اليوان الصيني للدولار الأمريكي. ومع ذلك، فإن التاريخ مليء بالكوارث الاقتصادية التي سبقتها التوقعات المطمئنة. وإذا كان هذا التهديد يلوح فالأفق، فنحن في البداية. ولكن هذا هو بيت القصيد. ومن الأسهل إدارة أزمة محتملة في المرحلة “التدريجية” بدلاً من أزمة “مفاجئة”.