ابراهيم درويش
في المؤتمر الصحافي الذي عقده مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان ليلة الجمعة كرر فيه الموقف الأمريكي من الأزمة الأوكرانية وهو أن الغزو الروسي بات محتوما وفي أي وقت، وان شرفة الحل تضيق وان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يغزو الجارة أوكرانيا في أي وقت. وجاءت تصريحات سوليفان بعد اجتماع الرئيس جو بايدن مع الحلفاء في أوروبا والناتو عبر الفيديو يوم الجمعة، وتم التأكيد على نفس الرسالة التي يتحدث بها فريقه منذ بداية الأزمة، وهي أن الأمور قد تصبح «مجنونة» وأن روسيا لديها الكثير لتخسره وعليها القبول بالعرض الغربي وسحب قواتها العسكرية.
والمستمع إلى التصريحات الأمريكية من بايدن إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن وسوليفان يطلع على رؤية واحدة وهي أن الحرب مقبلة، وربما قبل انتهاء دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بيجين يوم 20 شباط/فبراير. ونفس اللهجة التهديدية والتخويفية واضحة في تصريحات الحكومة البريطانية ورئيس وزرائها بوريس جونسون الذي تلاحقه الفضائح. وتصور الصحافة الموالية للحكومة الموقف المتشدد وبخاصة تهديدات وزيرة الخارجية ليز تراس التي حملت الرسالة إلى موسكو يوم الخميس، بشكل دفع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لوصف اللقاء بأنه «حوار الطرشان». وبين قرع طبول الحرب التي لا يعرف بايدن ولا فريقه متى سيعلنها بوتين، هناك رفض مستمر من الكرملين المصر على ضرورة تفهم مظاهر القلق الأمنية التي كانت وراء الحشود العسكرية. وتقديم ضمانات بعدم توسيع حلف الناتو إلى الحديقة الخلفية لمجال التأثير الروسي وإعادة النظر في ترتيبات الأمن التي تبعت سقوط الاتحاد السوفييتي والتوصل لنظام جديد غير نظام ما بعد 1997 يعترف بروسيا كقوة عظمى كما كانت أثناء الحقبة السوفييتية.
وفي أوكرانيا يعثر المراقب على رؤية مختلفة، حذر وقلق من التصعيد الغربي في الخطاب والحشود العسكرية على الأطراف الشرقية من حلف الناتو والتحضيرات الأمريكية لإرسال حوالي 1.700 جندي من الفرقة 82 المحمولة جوا إلى بولندا للمساعدة في إجلاء الأمريكيين الذين لم يخرجوا من أوكرانيا، وحسب تقارير صحافية فهناك حوالي 30.000 أمريكي في أوكرانيا، مع أن سوليفان رفض تقديم تفاصيل حول هذا العدد عندما سئل، لكنه كرر نداءات بايدن بضرورة مغادرة الأمريكيين من أوكرانيا وفي أقرب وقت.
ماكرون حلال المشاكل
وخلف الوحدة الأوروبية وقوة الناتو ووساطات الرئيس إيمانويل ماكرون يزداد التصعيد. فقد حل ماكرون ضيفا على بوتين في 7 شباط/فبراير واجتمع معه خمس ساعات بدون تحقيق أي تقدم. لم يكن لديه ما يعرضه للقادة في برلين بعد وصوله من كييف التي اجتمع فيها مع فولدومور زيلينسكي. وكل ما دعا إليه هي العودة لاتفاقية مينسك التي ترفضها روسيا وأوكرانيا ولا تفي بالمطالب الحقيقية للطرفين في ظل النزاع الدائر منذ ثمانية أعوام. وقالت مجلة «إيكونوميست» (8/2/2022) إن مهمة ماكرون التي جاءت قبل جولة الانتخابات الرئاسية لإعادة انتخابه، ليست إلا مجرد شراء للوقت ولا تحل المشكلة. وبالضرورة فمقترحات ماكرون عن الأمن الأوروبي وقدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها تثير شكوك الحلفاء في أوروبا الذين يرون أنها غامضة وتستجيب للمطالب الروسية. وجاءت جولة ماكرون في ظل شكوك من نهجه القائم على العمل بطريقة ثنائية وليس جماعية، رغم زعمه أنه يحب التشارك مع الجميع. وظل منذ وصوله إلى السلطة قبل خمسة أعوام يحاول حل المشاكل بطريقة ثنائية والعمل مع بوتين ودونالد ترامب، من دون اعتبار لحلفائه في أوروبا. والنتيجة هو سجل مزيج من النجاح والفشل، واضح في لبنان الذي تدخل فيه وتركه لشأنه وكذا مالي التي تدهورت العلاقات مع الطغمة العسكرية الحاكمة هناك وعموم غرب أفريقيا كما ترى سيليا بيلن في «فورين أفيرز» (10/2/2022).
غموض وغرابة
وبالعودة للأزمة الأوكرانية فالصورة الظاهرة من التحذيرات الأمريكية والوساطة الفرنسية والحذر الأوكراني والنفي الروسي هي إما ان الوضع خطير جدا أو غريب وغامض. ويرى ديفيد إغناطيوس في صحيفة «واشنطن بوست» (10/2/2022) ان الفرق بين نبرة الفزع البادية من الغرب والهدوء الحذر القادم من كييف هي أن الأوكرانيين تعودوا على التهديد الروسي، منذ قرارهم الشعبي الخروج من فلك الكرملين في الثورة البرتقالية عام 2004 وثورة الكرامة عام 2014 التي أطاحت بحليف بوتين فيكور يانوكوفيتش وهو ما أدى لضم شبه جزيرة القرم. وعبر إغناطيوس عن خوفه من خلاف النخبة السياسية الأوكرانية ورفض زيلينسكي التعامل مع المعارضة أكثر من خوفه على وحدة الأوكرانيين ضد بوتين. وهو ما كان وراء الوفد الدبلوماسي الأمريكي الذي زار العاصمة الأوكرانية في الشهر الماضي ومناشدة الرئيس التعامل مع معارضيه، وكان رده هو الهجوم عليهم. لكن إغناطيوس لا يفسر الفزع الأمريكي بشكل كامل، ولا يعترف أن إدارة بايدن قررت منذ بداية الحشود العسكرية الروسية شن حرب تضليل إعلامي هدفها نزع المبادرة من بوتين ومحاولة فرض شروط المعركة عبر سلسلة من التسريبات الإستخباراتية لتصوير بوتين بالطرف المعتدي من جهة والغرب بالطرف الحريص على الدبلوماسية.
استراتيجية التخويف
وتساءلت صحيفة «نيويورك تايمز»(3/2/2022) إن كانت هذه الاستراتيجية ناجعة في وقت اتهمت فيها روسيا إدارة بايدن بأنها تصعد وتزيد من فرص الحرب. وشملت استراتيجية بايدن التي دافع عنها سوليفان ليلة الجمعة على تسريب معلومات سرية حول الحشود العسكرية التي ستصل إلى 175.000 جندي، وهي معلومات لا يتم التوصل إليها إلا عبر طرق استخباراتية ومصادر ثمينة. ثم شجعت الإدارة الأمريكية حكومة جونسون للكشف عن معلومات استخباراتية مفادها أن بوتين يخطط لإنقلاب في كييف وتنصيب حكومة عميلة له هناك. وقالت الصحيفة إن الهدف من حرب المعلومات هذه هو قطع الطريق على الروس وحرمانهم من التفكير باستراتيجيات بديلة. وضرب حملات التضليل بالمعلومات كما قال بلينكن، دونما اعتراف منه أن ما تقوم به بلاده هو حرب شائعات وتضليل.
ويغلف الأمريكيون والبريطانيون تحذيراتهم بأنها تقوم على سيل من المعلومات الموثوق بها وتدعمها الصور التي التقطتها الأقمار الإصطناعية ومنشورات على تويتر. ورغم اعتراض المسؤولين الأوكرانيين على استخدام كلمة «غزو محتوم» وتوقف المسؤولين الأمريكيين عن استخدامها إلا أنهم عادوا لنشر الفزع عندما طلبوا من الأمريكيين المغادرة وبأي طريقة وكأن الحرب باتت على الأبواب. واتهم بوتين إدارة بايدن بأنها تمارس سياسة الاحتواء في الحرب الباردة وتستخدم أوكرانيا لتحقيق هذا الهدف. والواضح في الموقف الأمريكي الداعي للدبلوماسية هو أن الثقة معدومة ببوتين، فالدعوة للحل الدبلوماسي مجرد تكتيك، وأنه لم يغز أوكرانيا احتراما لصديقه الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي حضر معه افتتاح دورة الألعاب الأولمبية ووقع معه لاحقا اتفاقية لا مجال فيها للممنوعات، ووصفها مسؤولون أمريكيون بما يشبه الحلف بين البلدين وهو أمر لم يحصل عليه أي زعيم روسي من قبل. وقالت روبن رايت في مجلة «نيويوركر» (7/2/2022) أن الاتفاقية تتحدى النظام العسكري والسياسي القائم وتتحدى الغرب. و«كشف أقوى مستبدين في العالم عن خطة واسعة لمواجهة الولايات المتحدة كقوة عظمى والناتو باعتباره حجر الأساس للأمن الدولي والليبرالية الديمقراطية كنموذج صالح للعالم». ووصفتها صحيفة «واشنطن بوست» (8/2/2022) بأنها محاولة لإنشاء نظام عالمي يحمي الديكتاتوريين. وأعاد الإصطفاف الصيني- الروسي الوضع إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة. ورغم الشكوك حول التزام الصين في الدفاع عن روسيا إلا أن البلدين أكدا حق كل منهما في تايوان التي يعتبرها شي أرضا صينية وأوكرانيا التي يعتبرها بوتين جزءا من روسيا. وكتب العام الماضي ناقدا الاتحاد السوفييتي منح أوكرانيا صفة الدولة لأن قدرها وبيلاروسيا هو مع روسيا. وفي الوقت الذي يرى فيه المحللون الأمريكيون أن استراتيجية بايدن القائمة على التحول من الردع السلمي إلى الردع النشط قد أتت أكلها وان بوتين قد «رمش» أولا. هناك من يرى غير ذلك، ويخشى من آثار استراتيجية الإدارة القائمة على التسريبات الاستخباراتية.
مخاوف
ونقل موقع «بوليتكو»(8/2/2022) عن مسؤولين أمنيين بأن الهدف من التسريبات هو تجنب شبح أفغانستان والتقديرات الأمنية التي اعتقدت أن الحكومة الأفغانية ستظل باقية لعدة أشهر بعد انسحاب القوات الأمريكية. ومن بين الداعمين لهذا النهج هو مدير «سي آي إيه» ومجلس الأمن القومي سابقا مايكل هايدن الذي قال إنه دعا ولسنوات عدة إلى اعتماد الرأي العام على المعلومات الأمنية. وقال «الوضع مختلف الآن، عصر المعلومات مهم جدا». ولكن التسريبات كانت كثيرة بدرجة تمنى فيها بعض مسؤولي الأمن القومي لو أوقفتها الإدارة. وتساءل البعض حتى من يدعمون التسريبات إن أصبح الرئيس وفريقه ناشرين للخوف وبشكل مفرط، وذلك نتيجة الفشل الأمني السابق في أماكن أخرى مثل أوكرانيا وقبل فترة في أفغانستان. وقال مسؤول سابق في «سي آي إيه» وبخبرة واسعة في الملف الروسي «أنا قلق مما سيطال مصداقية معلوماتنا الإستخباراتية على المدى البعيد ووسط كل هذه المعلومات المختارة التي يتم رفع السرية عنها». ووسط الجلبة يظل السؤال قائما حول من سيشعل الفتيل أولا، فبايدن أرسل معدات عسكرية لأوكرانيا وكذا حلفاؤه في أوروبا وحشد قوات على حدود الناتو الشرقية، لكنه أكد أنه لن يرسل قوات لمساعدة النظام الحاكم في أوكرانيا. وغير لغة التهديد والتخويف ليس لدى الرئيس الأمريكي سوى السلاح المعروف وهو العقوبات الاقتصادية التي ستكون قاسية جدا وستهز الاقتصاد الروسي. ونعرف من تجارب العقوبات في دول أخرى أنها لم تطح بأية أنظمة سوى أنها فاقمت معاناة الناس الذين يزعم الغرب أنه يسعى لحمايتهم.
مع السلامة أمريكا
ولأن الأزمة بدأت من موسكو، فقرار حلها هو بيدها، وقد وضع بوتين أمريكا في المكان الذي أراده كما قالت فيونا هيل في مقال لها بصحيفة «نيويورك تايمز»(24/1/2022) إن بوتين يهدف في الحشد الأخير أبعد من مجرد إغلاق «الباب المفتوح» لحلف الناتو أمام أوكرانيا والاستيلاء على المزيد من الأراضي – فهو يريد طرد أمريكا من أوروبا. على حد تعبيره: «وداعا أمريكا.. احذري الباب في طريق الخروج».
وترى هيل التي تراقب بوتين وتحلل تحركاته منذ أكثر من عقدين، أن «أفعاله كانت هادفة واختياره لهذه اللحظة للتغلب على التحدي في أوكرانيا وأوروبا متعمد للغاية. ولديه هوس شخصي بالتاريخ واحتفالات الذكرى السنوية. صادف كانون الأول/ ديسمبر 2021 الذكرى الثلاثين لتفكك الاتحاد السوفييتي، عندما فقدت روسيا موقعها المهيمن في أوروبا. ويريد بوتين أن يذيق أمريكا طعم الدواء المر الذي كان على روسيا أن تبتلعه في التسعينيات». وهو يعتقد أن أمريكا في نفس المأزق الذي كانت عليه روسيا بعد الانهيار السوفييتي: ضعفت بشكل خطير في الداخل وفي تراجع في الخارج، كما يعتقد أن الناتو ليس أكثر من امتداد لأمريكا.
الحرب الطويلة
وحتى لو قرر بوتين سحب قواته فلديه الوسائل الأخرى للضغط ويعمل وفق جدوله الزمني الخاص به كما يقول الصحافي أنطون ترويانوفسكي في صحيفة «نيويورك تايمز» (10/2/2022) وقال إن الرئيس بوتين يراهن بشكل متزايد على إرثه في عكس التحول المؤيد للغرب في أوكرانيا. حتى لو لم يأمر بغزو هذا الشتاء، فإنه جعل من الواضح أنه سيواصل الضغط، مدعوما بتهديد القوة، طالما أن الأمر سيستمر في طريقه مهما طال الوقت لتحقيق مراده. ويقول المحللون إن الحشد العسكري الروسي الحالي حول أوكرانيا واسع للغاية لدرجة أن بوتين يتعين عليه أن يقرر في الأسابيع المقبلة ما إذا كان سيأمر بغزو أو يسحب بعض القوات. ولكن حتى لو يسحبهم، فستكون لديه وسائل أخرى لإبقاء خصومه في حالة تأهب، مثل تدريبات قواته النووية أو الهجمات الإلكترونية أو الحشود المستقبلية. وإذا قام بالهجوم، فمن المرجح أن يشتد الحراك الدبلوماسي الغربي الحالي. وبحسب أندريه سوشينتسوف، عميد كلية العلاقات الدولية بجامعة موسكو النخبوية التي تديرها وزارة الخارجية الروسية: «أتوقع أن تكون هذه الأزمة معنا، بأشكال مختلفة، طوال عام 2022 على الأقل». ووصف المواجهة الحالية بأنها الخطوة الأولى فقط في جهد روسي طويل الأمد لإجبار الغرب على الموافقة على هيكل أمني جديد لأوروبا الشرقية. لقد كان توصيفا لبداية مرحلة تنطوي على مخاطر عالية في صراع روسيا مع الغرب المستمر منذ سنوات والتي تكتسب رواجا في دوائر السياسة الخارجية في موسكو. هدف روسيا، بحسب سوشينتسوف: إبقاء تهديد الحرب حاضرا دائما، وبالتالي فرض المفاوضات التي تجنبها المسؤولون الغربيون حتى الآن. وقد يعني هذا النهج الانجرار إلى نوع جديد من «الحرب الأبدية» – صراع يستهلك المزيد من الوقت والثروات، مع عدم وجود استراتيجية خروج واضحة. وربما كان الدرس المستفاد من الانسحاب الفوضوي من أفغانستان في الصيف الماضي، لبوتين، هو أنه ليس لدى أمريكا استعداد لصراع بعيد – وأوكرانيا بعيدة عن أمريكا ولكن ليس عن روسيا. وقد جاء الرئيس بايدن إلى السلطة مصمما على تركيز أمريكا وحلفائها على التهديد طويل الأمد المتمثل في الصين الصاعدة – وهي منافسة تكنولوجية وعسكرية واقتصادية. لكن بوتين الآن هو من استحوذ على اهتمام الإدارة. وبالضرورة فسياسة بوتين تقوم على فرض الرأي الروسي بالقوة. وهو في هذه الحالة يستخدم مثل غيره أدوات العصر والحداثة بما فيه من مزاعم ديمقراطية وليبرالية وتشكيل روايته عن التاريخ والجغرافيا والعرق لردم الماضي الذي يرى أنه ظلم الروس وإعادة تشكيل الحاضر كما يرى توم ماكتاغو في مجلة «أتلانتك»(9/2/2022). وقال: «بوتين رجل ينتمي إلى عالمنا وهو ليس حديثا فقط مثل أي زعيم غربي، ولكن بالمقارنة مع أولئك الذين يبدو أنهم يعتقدون أن الحداثة هي مرحلة وصلنا إليها في حدود عام 2000 فهو أكثر حداثة إلى حد كبير».