بدأ مبكرا في كل من سلطنة عمان والمملكة السعودية العمل بخطط لتنويع الاقتصاد والاستعداد لمرحلة ما بعد النفط. لكن التطورات السريعة في سوق الطاقة، والضغوط البيئية من أجل التحول عن الوقود الأحفوري الملوث للبيئة إلى أنواع الوقود الصديق للبيئة، أتاحت للبلدين فرصة كبيرة لبناء نموذج جديد على المستوى الوطني وعلى مستوى التعاون الإقليمي، تصبح بمقتضاه عُمان واجهة رئيسية للسعودية على العالم، كما تصبح السلطنة نفسها بفضل استراتيجيتها الوطنية للوقود الأخضر لاعبا عالميا رئيسيا ومركزا إقليميا في سوق الوقود الصديق للبيئة الهيدروجين الأخضر. أما النموذج السعودي فيعتمد حتى الآن على الهيدروجين الأزرق الأقل تلويثا للبيئة. وقد تعاملت كل من الاستراتيجيتين العمانية والسعودية مع صناعات الطاقة المتجددة، على أنها تتشكل من حلقات تكنولوجية وإنتاجية وخدمية وتجارية مترابطة، بمعنى أن كل واحدة منها تشكل سلسلة إنتاج تؤثر وتتأثر بغيرها من سلاسل الإمدادات الصناعية والخدمية في البلاد.
ويمثل إنتاج الهيدروجين «الأخضر أو الأزرق» أحد أهم أعمدة تطوير اقتصاد مرحلة ما بعد النفط في الشرق الأوسط، سواء بالنسبة لدول الخليج المصدرة للنفط، أو بالنسبة للدول النامية العربية وغير العربية ذات الاقتصاد الأكثر تنوعا؛ ففي نهاية الأمر تمثل الطاقة احتياجا أوليا من احتياجات التنمية وتنويع الاقتصاد. وقد عانت الدول المصدرة للنفط والغاز من تأثير تقلبات أسعار النفط والغاز على تمويل التنمية بشكل عام، خصوصا خلال الفترة منذ عام 2014 حتى الآن. أما الدول المستوردة للطاقة فإنها تجد لنفسها في مرحلة ما بعد النفط فرصة لتقليل اعتمادها على الطاقة المستوردة، بل انها تسعى إلى المزاحمة في سوق الطاقة العالمي، من خلال خلق فائض في إنتاج الكهرباء النظيفة يتم تبادله من خلال شبكات التوزيع الإقليمية والعالمية المتاحة فعلا أو الممكنة.
أهمية التمويل والتكنولوجيا
تظهر متابعة مشاريع إنتاج الهيدروجين ضخامة التمويل اللازم لإنتاج الطاقة النظيفة، إضافة إلى بناء القدرات الضرورية، ومنها التكنولوجيا والمهارات البشرية. ولهذا السبب فإن الحكومات في دول الشرق الأوسط وغيرها أعلنت الدخول في مشروعات ضخمة وطموحة بالمشاركة مع شركات النفط العالمية، كما هو الحال في السعودية حيث بادرت «أرامكو» إلى تخصيص استثمارات ضخمة في مشروعات إنتاج الهيدروجين منخفض الكربون. وفي بناء التعاون الإقليمي مع سلطنة عمان أقامت «أرامكو» تحالفا شركة «أكوا باور» للطاقة، وشركة «اير بروداكتس» الأمريكية، لتطوير مشروع إنتاج الهيدروجين في المنطقة الحرة في صلالة بالمشاركة مع شركة «نفط عمان» تبلغ تكلفته الاستثمارية حوالي 7 مليارات دولار. ويمثل هذا المشروع في جانب منه امتدادا للتحالف بين الأطراف الثلاثة لتطوير المنطقة الاقتصادية في جازان بتكلفة استثمارية تبلغ 12 مليار دولار.
وتتبنى سلطنة عمان خطة طموحة لكي تصبح أحد المنتجين الرئيسيين للهيدروجين على مستوى العالم بطاقة إنتاجية تصل إلى 1.8 مليون طن من الهيدروجين الأخضر (الخالي من الكربون) سنويا، وذلك باستخدام الطاقة النظيفة المنتجة بواسطة محطات توليد الكهرباء بالشمس والرياح، لفصل الأوكسجين عن الهيدروجين. وكان المخطط الأولي لمشروع المنطقة الحرة في الدقم قد تضمن تخصيص مساحات شاسعة في المياه وفي الأراضي المحيطة بالميناء من أجل إقامة مزارع برية لتوليد الطاقة الشمسية ومزارع شاسعة لطاقة الرياح في البحر.
وتبلغ الطاقة الإنتاجية المتوقعة لمحطات طاقة الرياح والطاقة الشمسية حوالي 25 غيغاوات، تبلغ تكلفتها الاستثمارية 30 مليار دولار، من المتوقع أن يبدأ العمل فيها عام 2028 ويستغرق تنفيذها 10 سنوات. ويعتبر التحول من الوقود التقليدي إلى الهيدروجين أحد أهم ملامح انتقال سلطنة عمان إلى مرحلة ما بعد النفط. وطبقا للاستراتيجية القومية للهيدروجين فإنه قد بدأ فعلا العمل في إقامة البنية الأساسية المادية لعدد من المشاريع لإنتاج الهيدروجين الأخضر، حيث سيتم استخدام الطاقة المتجددة (طاقة الرياح والطاقة الشمسية) في توليد الكهرباء اللازمة لفصل الهيدروجين عن الماء، بينما سيتم استخدام النفط والغاز لإنتاج الهيدروجين الأزرق أو الرمادي، حيث يتم فصل ثاني أكسيد الكربون وإنتاج الهيدروجين الأزرق منخفض الكربون باستخدام تكنولوجيا فصل وتدوير الكربون أو تخزينه في باطن الأرض. ومن المتوقع أن تصبح البنية الأساسية لاستقبال ونقل وتخزين المنتجات السائلة والغازية جاهزة للتشغيل قبل نهاية النصف الأول من العام المقبل، سواء لاستقبال الإنتاج المحلي العماني أو الإنتاج السعودي.
الأهمية الاستراتيجية
لميناء الدقم
يعتبر ميناء أنتويرب البلجيكي المركز الأوروبي الرئيسي لتبادل الهيدروجين ومنتجات الصناعات البتروكيمائية ووسائل النقل. وتوجد حاليا علاقة شراكة بين مينائي الدقم في سلطنة عمان، وأنتويرب في بلجيكا، حيث أن شركة الميناء البلجيكي مساهم رئيسي في كونسورتيوم إدارة وتشغيل ميناء الدقم. وبذلك سيصبح للسلطنة منفذ مباشر على أسواق العالم في أنتويرب، ومن ثم فإن المشروعات المقامة في الدقم تكتسب أهمية عالمية، بقدرة منتجاتها على النفاذ إلى أسواق أوروبا. كما أن الموقع الجيوستراتيجي للميناء في قلب الواجهة البحرية لسلطنة عمان على بحر العرب والمحيط الهندي، يجعله المنفذ الرئيسي والواجهة الأكبر والأسهل وصولا والأكثر أمانا لصادرات دول شبه الجزيرة العربية إلى مناطق الشرق الأقصى وجنوب آسيا وشبه القارة الهندية، بعيدا عن النزاعات في مضيقي هرمز وباب المندب.
عندما تم التخطيط الأولى لإنشاء ميناء الدقم في المنطقة الوسطى لسلطنة عمان، فقد راعت التصميمات الأولية أن يصبح الميناء في المستقبل مركزا إقليميا وعالميا لتجارة الهيدروجين والطاقة النظيفة، وأن يخدم سلاسل الإنتاج المرتبطة بصناعات الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وصناعة تحلية المياه، ومراكز الإنتاج والتجميع والتدريب التابعة لها، ومنشآت التخزين وأرصفة الاستقبال والنقل، وكافة الأنشطة اللوجستية والخدمية المرتبطة بتلك الصناعات، وذلك ضمن رؤية «عمان 2040».
وعلى صعيد بناء النموذج المحلي السعودي لمرحلة ما بعد النفط، فإن تحالفا يضم شركة أرامكو وصندوق الاستثمارات العامة السعودي وشركة «أكوا باور» السعودية إلى جانب شركة «أيربروداكتس» الأمريكية يمثل العمود الفقري لمشروع إنتاج الهيدروجين في منطقة التنمية السعودية الجديدة «نيوم» على ساحل البحر الأحمر يستخدم في إنتاج الطاقة النظيفة، ومنها وقود السيارات.
ويقدر خبراء صناعة السيارات ان استخدام كيلوغرام واحد من الهيدروجين كوقود لمحركات السيارات، ينتج طاقة تكفي لتسيير المركبة لمسافة 100 كم، وهو ما يعادل خمسة أضعاف مسافة التشغيل باستخدام كيلوغرام واحد من الغاز الطبيعي.
ومع تطور تكنولوجيا فصل الهيدروجين عن الماء، وانخفاض تكلفة إنتاج الطاقة المتجددة، من المتوقع أن تنخفض تكلفة إنتاج الكيلو من الهيدروجين الأخضر في الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال إلى 1.5 يورو للكيلوغرام، على أن تنخفض التكلفة بحلول عام 2030 إلى 1.19 يورو/كغم مقابل تكلفة تصل إلى 5 يورو في الوقت الحاضر. لكن تخفيض التكاليف يحتاج إلى تحالف قوي ماليا وتكنولوجيا وتجاريا، على غرار تحالفات سلاسل الإمدادات العالمية. وهو ما تحاول شركات أوروبية السعي إلى إقامته في الوقت الحاضر، من خلال إنشاء محطات عملاقة لإنتاج الطاقة المتجددة الرخيصة، لتغذية محطات إنتاج الهيدروجين، بما يساعد على تخفيض التكاليف مع وفورات الإنتاج الكبير. وعلى سبيل المثال فإن التكاليف الاستثمارية لإقامة مركز لإنتاج الطاقة الخضراء في غرب أستراليا يستخدم طاقة الشمس والرياح لإنتاج 50 غيغاوات من الكهرباء لتشغيل محطة للهيدروجين الأخضر بطاقة 28 غيغاوات، تقدر بحوالي 70 مليار دولار، وهو ما يعادل تقريبا قيمة التكاليف الاستثمارية اللازمة لإنشاء مشروع مثيل يعمل بالغاز المسال. هذا مع تحقيق فوائد الانتقال إلى عصر ما بعد النفط والغاز والمزايا البيئية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن ذلك.
النموذج السعودي لإنتاج الهيدروجين
يتم إنتاج الهيدروجين الأخضر بفصل جزيئات الهيدروجين عن الماء، وذلك باستخدام التحليل الكهربائي. هذه عملية مكلفة جدا وتحتاج إلى كمية كبيرة من الطاقة، فإذا كانت الكهرباء المستخدمة ناتجة عن حرق وقود أحفوري، فإن عملية استخلاص الهيدروجين في هذه الحالة تتسبب في زيادة نسبة التلوث؛ أما إذا كانت الكهرباء المستخدمة ناتجة عن مصدر طاقة متجددة مثل الشمس أو الرياح فإن استخلاص الهيدروجين من الماء يكون صديقا للبيئة بلا أي أضرار.
وهذا هو أساس النموذج العماني لصناعة الهيدروجين. أما النموذج السعودي فهو على العكس من ذلك يعتمد على وفرة الغاز والنفط في استخلاص الهيدروجين المنخفض الكربون وليس الخالي منه تماما. ويتم ذلك أساسا من خلال عملية فصل للكربون عن الغاز عن طريق مصائد أو فلاتر، يتم عن طريقها إعادة ضخ الكربون في حقول الغاز وتخزينه، أو توجيهه إلى استخدامات صناعية مفيدة، من أشهرها صناعات المشروبات الغازية. ومن ثم تقل إلى أدنى حد ممكن انبعاثات الكربون خلال عملية حرق الغاز الطبيعي. لكن الهيدروجين الأزرق الناتج عن «مصائد» أو «تدوير الكربون» يحمل نسبة من ثاني أكسيد الكربون تتراوح بين 5 إلى 15 في المئة على الأقل. وهناك طرق أخرى لإنتاج الهيدروجين الأزرق أو الرمادي باستخدام غاز الميثان أو مادة الأمونيا، لكنها جميعا تحتوي على ثاني أكسيد الكربون. ويعتبر هذا النموذج مهما للسعودية ولشركات النفط والغاز في العالم، التي يمثل النفط والغاز ثروتها الرئيسية. وسوف يستمر هذا النموذج صالحا للعمل خلال الفترة الانتقالية وحتى يقرر العالم وقف استخدام النفط والغاز نهائيا.
وسوف تعتمد السعودية على استخدام تكنولوجيا «مصائد الكربون» أو «تدوير الكربون» على نطاق واسع، وذلك للمحافظة على عائد ثروتها من الوقود الاحفوري، مع تقليل انبعاثات الكربون الناتجة عنه. وفي هذا السياق فإن النموذج السعودي يتضمن استخدام منشآت التخزين ومصافي النفط في ميناء الدقم من أجل إنتاج وتصدير الهيدروجين الأزرق إلى كافة أنحاء العالم. ومع ذلك فإن صناعة الهيدروجين السعودية تتضمن مشروعا كبيرا لإنتاج «الهيدروجين الأخضر» الخالي تماما من الكربون في إقليم «نيوم» التنموي الجديد على الساحل الغربي للبحر الأحمر، إضافة إلى استخدام تكنولوجيا جديدة طورتها شركة «ايربروداكتس» الأمريكية لإنتاج النيتروجين عن طريق فصله عن الأوكسجين من الهواء في الجو. وضمن سلسلة إنتاج صناعة الهيدروجين ستقوم شركة «هايزون موتورز» الأمريكية بإنشاء مصنع في «نيوم» لتجميع 10 آلاف شاحنة نقل ثقيل، تعمل بالهيدروجين لنقل البضائع بين دول مجلس التعاون الخليجي. وسيتم توفير الطاقة الأولية التي ستستخدم في فصل النيتروجين عن الهواء، عن طريق محطة لتوليد الكهرباء بواسطة الرياح قدرتها 1.5 غيغاوات، وأخرى لتوليد الكهرباء بواسطة خلايا الطاقة الشمسية بقدرة 2.5 غيغاوات. ومن المتوقع أن يبدأ تشغيل المرحلة الأولى في المشروع عام 2025.
التحالف السعودي الثلاثي الذي يضم «مجموعة أكوا باور» للمشروعات والطاقة، وصندوق الاستثمارات العامة وشركة أرامكو، يمثل ركيزة ما يطلق عليه «وادي الهيدروجين» في «نيوم» الذي يضم مشروعات لإنتاج الهيدروجين والأمونيا والميثان. وتبلغ تكلفة المشروع حوالي 5 مليارات دولار. ومن المتوقع أن ينتج حوالي 650 طنا من الهيدروجين يوميا، وهي كمية تكفي لتوليد الطاقة اللازمة لإنتاج 1.2 مليون طن من الأمونيا الخضراء سنويا، بهدف أن تكون «نيوم» خالية تماما من التلوث والانبعاثات الكربونية.