الرئيسية / أخبار / خروج التضخم عن نطاق السيطرة وبداية الصدام بين الحكومات وشركات التكنولوجيا العملاقة

خروج التضخم عن نطاق السيطرة وبداية الصدام بين الحكومات وشركات التكنولوجيا العملاقة

استطاع الاقتصاد العالمي أن يتعافى بقوة خلال النصف الأول من العام 2021 لكنه ما لبث أن تعثر في النصف الثاني بسبب الاختناقات في سلاسل الإمدادات العالمية، وصعود أسعار النفط بمقدار الضعف تقريبا، وزيادة الأجور ورسوم الشحن وتكاليف الإنتاج الأخرى، إضافة إلى استمرار تداعيات جائحة كورونا التي كلفت قطاع السياحة ما يقرب من 2 تريليون دولار. وأصبح خروج معدل التضخم عن حدود 2 في المئة الذي أرادت البنوك المركزية الكبرى في العالم المحافظة عليه، تطورا خطيرا يهدد استقرار الاقتصاد العالمي. ويزيد من خطورة الأمر وجود تباين في وجهات النظر داخل مجالس إدارات البنوك المركزية الكبرى حول طبيعة التضخم، وما إذا كان «عابرا» أو «مقيما» لأن من شأنه أن يؤدي إلى اختلاف سياسات مكافحة التضخم.
وعلى الرغم من أن جيروم باول رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي قال في شهادة أمام الكونغرس قبل نهاية الشهر الماضي أنه ليس متأكدا حتى الآن مما إذا كان التضخم الحالي مجرد «ظاهرة عابرة» أو أنه قد يستمر مرتفعا لفترة طويلة، فإنه لم يطرح احتمال الانتقال من سياسة نقدية «تيسيرية» تدعم النمو إلى سياسة نقدية «متشددة» تكبح التضخم. وعلى الصعيد الرسمي فإن سياسات البنوك المركزية الرئيسية حتى الآن ما تزال تتمسك بسياسة نقدية تيسيرية تحافظ على أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة بغرض دعم فرص الانتعاش والنمو. التمسك بهذه السياسة قد تكون له مضار إذا استمر التضخم خارج التوقعات، لأن تكلفة التخلص منه ستصبح مؤلمة جدا.

مؤشرات التضخم

مستوى الأسعار في الأسواق العالمية بشكل عام يرتفع من شهر إلى آخر بمعدلات سريعة، مدفوعا بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية وتكاليف النقل واختناقات عرض السلع الوسيطة من خلال سلاسل الإمدادات العالمية. في الولايات المتحدة قفز معدل التضخم في الشهر الماضي إلى أعلى مستوى منذ عام 1982 معدل سنوي يبلغ 6.8 في المئة بعد أن كان قد ارتفع خلال الربع الثالث من العام الحالي إلى 5.3 في المئة، وهو معدل يقع خارج التوقعات تماما، وهو أحد أعلى معدلات التضخم التي سجلها عموما. وأشارت إحصاءات منطقة اليورو (19 دولة) في نهاية الشهر الماضي إلى ارتفاع التضخم إلى معدل تاريخي وصل إلى 4.9 في المئة، في حين أن السياسة المعلنة للبنك المركزي الأوروبي تعمل على ألا يزيد عن 2 في المئة في الأجل المتوسط (فترة تتراوح بين عامين إلى 5 أعوام).
وكانت تقديرات البنك تشير إلى أنه لن يتجاوز 1.7 في المئة في العام المقبل ثم يتراجع إلى 1.5 في المئة في عام 2023. كذلك فإن معدلات التضخم في كثير من الدول الصناعية بلغت معدلات تبعث على القلق. المعضلة الكبرى التي تواجهها البنوك المركزية في الدول الصناعية الكبرى تتمثل في عدم اليقين بشأن احتمالات النمو خصوصا مع ظهور وانتشار المتحور الجديد من فيروس كورونا «أوميكرون». ففي حال اتخاذ إجراءات وقائية ستتراجع فرص النمو الاقتصادي، بما يقلل قدرة البنوك المركزية على رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، لأن ذلك سينعكس سلبا على فرص النمو.

نمو أقل من التوقعات

وعلى صعيد التصنيف الاقتصادي الدولي، حققت الدول المصدرة للنفط مكاسب كبيرة، ويقدر صندوق النقد الدولي ان السعودية ستحقق نموا في العام الحالي بمعدل 2.8 في المئة مقابل انكماش في العام الماضي بنسبة 4.1 في المئة. وكذلك ستحقق روسيا نموا بمعدل 4.7 في المئة مقابل انكماش بنسبة 3 في المئة في العام الماضي. غير أن الدول الصناعية والدول الصاعدة (الناشئة) بما فيها الصين من المرجح أن تحقق معدلات نمو أقل من التوقعات، حيث يقدر بنك غولدمان ساكس ان معدل النمو المتوقع للولايات المتحدة نهاية العام الحالي سيبلغ 5.6 في المئة مقارنة بتوقع صندوق النقد الدولي البالغ 6 في المئة. وكذلك الحال في الصين حيث تشير تقديرات مراكز الأبحاث الاقتصادية الرئيسية إلى أنها لن تحقق معدل النمو المستهدف.
أما على صعيد قطاعات الأعمال، فإن شركات التكنولوجيا والأدوية والمؤسسات المالية العملاقة كانت في طليعة الشركات التي حققت مكاسب ضخمة خلال العام الحالي، إضافة إلى ما حققته في العام الماضي، وذلك على خلفية اتساع نطاق عمل المنصات الإلكترونية في مجالات تجارة التجزئة وتسوية المدفوعات إضافة إلى تطوير أدوية ولقاحات مكافحة فيروس كورونا وتحوراته المتعددة، التي كان آخرها نسخة أوميكرون، التي أصابت العالم بالهلع مع اقتراب موسم الأعياد وعطلات رأس السنة. كذلك حققت شركات النفط مكاسب ضخمة في العام الحالي بلغت 147 مليار دولار. وعلى العكس من ذلك فقد استمرت خسائر الشركات في قطاع السياحة، قدرتها منظمة السياحة العالمية بنحو 2 تريليون دولار.

الصدام مع شركات التكنولوجيا

في الشهر الحالي فرضت إيطاليا غرامة بقيمة 1.128 مليار يورو على شركة أمازون لانتهاكها قواعد المنافسة. وفي الشهر الماضي خسرت شركة «الفابت- غوغل» دعوى ضد قرار للاتحاد الأوروبي بتغربمها 2.8 مليار يورو على خلفية اتهام الشركة بالقيام بممارسات تجارية ذات طابع احتكاري. وفي الشهر نفسه تقدمت مجموعة من الولايات الأمريكية على رأسها ولاية تكساس بدعوى قضائية ضد الشركة نفسها تتهمهما بممارسة سلوك احتكاري وضغوط على الشركات الصغيرة. وفي أوائل العام الحالي كانت العقوبات التي فرضتها الصين على مجموعة «علي بابا» انتهت إلى حرمانها من إنشاء منصة لتسوية المدفوعات أونلاين، والقيود التي أعلنتها السلطات المالية الصينية للحد من الأنشطة الاحتكارية لشركات التكنولوجيا العملاقة موضوعا للانتقاد في الغرب، مما أدى إلى هبوط قيمة أسهم هذه الشركات.
لكن هذه الانتقادات ضد كيفية تعامل الصين مع مجموعة «علي بابا» لم تلبث أن تراجعت سياسيا وإعلاميا مع تطورين مهمين: الأول هو اتفاق قادة الدول الصناعية على وضع نظام جديد للمعاملة الضريبية للشركات العملاقة، يقضي أولا بفرض ضريبة على أرباح تلك الشركات في كل الدول التي تمارس فيها أعمالها تعادل نسبتها إلى مجموع أرباح الشركة، أي عدم تحويل كل الأرباح إلى الشركة الأم أو تهريبها إلى ملاذات آمنة، ما يمنح دول النشاط نصيبا عادلا من الضرائب، والحد من قدرة هذه الشركات على التهرب الضريبي. كذلك نص النظام الضريبي الجديد الذي أقرته قمة الدول الصناعية السبع الكبرى ومجموعة الدول العشرين، على إلزام تلك الشركات بدفع الحد الأدنى من الضريبة على المستوى العالمي بنسبة 15 في المئة من الأرباح التي تحققها، ما لم تكن الضريبة في دولة النشاط أكبر من ذلك.
أما التطور الثاني المهم فهو أن الكونغرس الأمريكي تبنى عدة مشروعات قوانين تحظى بتأييد الحزبين الديمقراطي والجمهوري لفرض قيود ثقيلة على أنشطة شركات التكنولوجيا الخمس الأكبر، (مايكروسوفت- آبل- الفابت المالكة لغوغل- فيسبوك «ميتا»- وأمازون). وتتضمن الاقتراحات المعروضة تطبيق الإجراءات الواردة في مشروعات القوانين على كل الشركات الضخمة التي تبلغ قيمتها السوقية 550 مليار دولار أو أكثر. مجموعة الشركات الخمس المستهدفة حاليا تزيد قيمتها السوقية عن 11 تريليون دولار أو ما يعادل 20 في المئة من القيمة السوقية للشركات التي يتم تداول أسهمها في سوق المال الأمريكية. وتستهدف المقترحات الحد من الأنشطة الاحتكارية لتلك الشركات، وضمان حرية المنافسة من خلال منصات التجارة الإلكترونية ووسائل تسوية المدفوعات أونلاين. ومع ذلك فإن تحديد رأس المال السوق بـ 550 مليار دولار من شأنه أن يعفي كثيرا من الشركات من الخضوع لتلك القوانين، حيث أن بعض شركات التكنولوجيا المالية يقل رأسمالها عن ذلك، مثل شركة «باي بال» التي لا تزيد قيمتها السوقية عن 240 مليار دولار.
هذا يعني من الناحية العملية أن العلاقات بين الدول والشركات التكنولوجية العملاقة ستشهد خلال العام المقبلب حالة من التوتر حول الكثير من الموضوعات من أهمها المنازعات الضريبية والممارسات الاحتكارية.

المعركة بين أمازون وفيزا

وعلى التوازي مع الصدام بين الحكومات وشركات التكنولوجيا فقد اشتعلت معركة أخرى بين شركات التكنولوجيا وشركات التسويات المالية، أهمها المعركة بين «فيزا» و«أمازون» حول عمولات المدفوعات، حيث تشعر شركات بيع السلع الاستهلاكية على منصات التجارة الإلكترونية أن لديها كثيرا من الخيارات، وأن شركات تسوية المدفوعات التقليدية مثل «فيزا» و«ماستر كارد» فقدت الكثير من قوتها لأنها أصبحت تعمل في سوق تنافسية دخلت إليها شركات تكنولوجيا مالية جديدة سريعة النمو، مما يسمح للبائعين بالحصول على خدمة تسوية المدفوعات بتكلفة أقل. المعركة بين «أمازون» و«فيزا» سوف تحدد نمط العلاقات في سوق تسوية المدفوعات لسنوات مقبلة. وقد صوبت «أمازون» سهامها ناحية «فيزا» في المملكة المتحدة، وقالت أنها قد تمتنع عن قبول مدفوعات بواسطة بطاقات «فيزا» اعتبارا من 19 كانون الثاني/يناير المقبل، إذا لم تقبل بتقليل نسبة العمولة على تسوية المدفوعات. وعلى الرغم من أن «أمازون» تستحوذ فقط على نسبة واحد في المئة فقط من إجمالي التسويات التي تجريها «فيزا» في بريطانيا، فإن الأخيرة لها مصلحة مشتركة مع «أمازون» في التوصل لحل الخلافات حول نسبة العمولة، حيث أن مزاحمة وسائل الدفع والتسويات المالية الأخرى عبر المنصات الإلكترونية أدت عمليا إلى تخفيض نصيب بطاقات الائتمان من سوق تسوية مدفوعات منصات تجارة السلع الاستهلاكية إلى حوالي 7 في المئة فقط في أمريكا الشمالية، في حين أن منصات تسوية المدفوعات الإلكترونية الآجلة «اشتري الآن وادفع فيما بعد» تضاعف نصيبها من السوق إلى 78 في المئة، الأمر الذي يزيد من قوة منصات التجارة الإلكترونية في مواجهة شركات بطاقات الائتمان.
لقد شهد العام الحالي تطورات سريعة في أسواق العالم، ولكن على الرغم من تحسن فرص النمو، فإن الاقتصاد العالمي ما يزال بعيدا عن الوصول إلى ما كان عليه قبل جائحة كورونا. وتأمل المؤسسات الاقتصادية العالمية أن يتحقق ذلك في العام المقبل.