الرئيسية / أخبار / كيف نجحت باكستان في أن تصبح الدولة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي؟

كيف نجحت باكستان في أن تصبح الدولة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي؟

سارق الأسرار النووية.. كيف فعلها عبد القدير خان؟

قبل عام 1947 كان التي تعني لغًة – أرض الطاهرين – جزءًا من الهند، وقوميةً إسلاميةً صغيرة لا تعدو كونها مجرد أقلية تطمح في الانفصال عن البلد الواقع هو الآخر تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي، وبعدما وُلدت الجمهورية الإسلامية وشكلت وطنًا للمُسلمين في شبه القاره الهندية، ومن أجل الحفاظ على الاستقلال، تبنت الدولة خُطًا مغايرًا، وشرعت في السعي للحصول على قنبلة ذرية، لتصبح في أقل من ثلاثة عقودٍ على تأسيسها الدولة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي.

قصة البرنامج النووي الباكستاني بدأت من هولندا، على يد العالم عبد القدير خان، المعروف في السجلات الأمريكية باسم «شيطان المسلمين وتاجر الإرهاب». السطور التالية توضح لك كيف بدأت القصة، وكيف ولماذا كانت باكستان هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي نجحت في المحاولة التي فشلت فيها كل الدول العربية والإسلامية التي حذت حذوها.

بعد نحو 12 عامًا على تجربة الحكم الإسلامي في باكستان، حدث أول انقلابٍ عسكريٍ في البلاد من الجنرال أيوب خان المدعوم من الولايات المتحدة، لتبدأ تحولاتٍ جذريةٍ بدأت بنقل العاصمة من كراتشي إلى إسلام آباد، وانتهت بانتهاج العلمانية بديلًا عن فكرة الدولة الإسلامية، وفي تلك الأثناء تخرّج الشاب عبد القدير خان من كلية العلوم بكراتشي عام 1960، وعمل في وظيفةٍ حكوميةٍ متدنية من الدرجة الثانية، لكنه سُرعان ما تركها، وغادر البلاد أملًا في استكمال دراسته والعودة لمنصبٍ وظيفيٍ مأمول.

التحق «خان» بجامعة برلين التقنية، حيث درس علوم المعادن، كما نال الماجستير عام 1967 من جامعة «دلفت التكنولوجية» بهولندا، وأخيرًا درجة الدكتوراه عام 1972 من جامعة «لوفين» البلجيكية، وحين أراد العودة لبلاده، رفضته كل الجهات التي تقدم لها؛ بدعوى قلة خبرته العملية مقابل شهاداته الأكاديمية.

على الجانب الآخر عرضت عليه شركة في هولندا شغل منصب كبير خبراء المعادن، وكانت الشركة حينها على صلةٍ بأكبر منظمةٍ للأبحاثٍ الذريةٍ في أوروبا –يورينكو – وهي الشركة التي تأسست سرًا بشراكة بين بريطانيا، وألمانيا، وهولندا، بهدف تطوير أجهزة طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم بشكل مشترك، بما يضمن أن صناعة الطاقة النووية سيكون لديها مصدر وقود مستقل عن الولايات المتحدة.

اكتسب عبد القدير شهرة؛ كونه عالمًا برز في المحطة النووية التي عمل فيها، وكان لديه حق الوصول الخاص إلى المناطق الأكثر تقييدًا في منشأة «يورينكو»، وصلاحية قراءة الوثائق السرية الخاصة بتكنولوجيا أجهزة الطرد المركزي، وهو ما أتاح له الاطلاع على أكثر التصاميم تقدمًا، على الرغم من أنه جاء من باكستان، والتي كانت معروفة بتطلعها لامتلاك قنبلةٍ نووية.

وفي عام 1971 مُنيت باكستان الدولة الضعيفة بهزيمةٍ مُذلةٍ أمام الهند، أدت في النهاية إلى استقلال بنجلاديش عن باكستان، ليجد خان أن أسرته أصبحت مجموعة من اللاجئين، وكانت قوة الهند العسكرية تهدد الجمهورية الوليدة، وبعد ثلاثة أعوامٍ تنامت مخاوف إسلام آباد، حين فجرت الهند قنبلتها النووية الأولى، لتقرر باكستان رسميًا صنع قنبلة نووية وحصلت على دعمٍ من كندا وفرنسا.

وفي الوقت نفسه استدعى رئيس الوزراء العالم الفيزيائي منير أحمد خان الذي عمل في الولايات المتحدة، وكان رئيس هندسة المفاعلات في الوكالة الدولية للطاقة الذرية لعمل قنبلة، لكنّ كافة المحاولات باءت بالفشل، حتى أن الدول الداعمة رفعت يدها وقررت عدم التعاون مع باكستان لامتلاك سلاح نووي.

لكنّ رسالةً وصلت من السفارة الباكستانية في هولندا موجهة إلى رئيس الوزراء الباكستاني «ذو الفقار علي بوتو» غيرت كل شيء؛ فعبد القدير خان عرض المساعدة لنقل كافة الأسرار للحصول على قنبلة نووية، وهو العرض الذي قوبل بالموافقة السريعة، لتبدأ مرحلة جديدة في التاريخ الباكستاني لم تستطع الدول الكبرى اكتشافه إلا بعد فوات الأوان.

لماذا تجاهلت واشنطن مشروع باكستان؟

اضطر عبد القدير خان إلى المكوث عامين في هولندا حتى 1975، وهي المدة التي أكمل فيها سرًا نسخ كافة تصاميم أجهزة الطرد المركزي، بالإضافة إلى مهمة أخرى تمثلت في جمع قائمة بالشركات والعملاء المحتملين الذين يمكنهم تزويد باكستان بالتكنولوجيا اللازمة لإنتاج يورانيوم عالي التخصيب، ولم تعرف هولندا ما قام به سوى بعد سنواتٍ من رحيله.

(الرئيس الباكستاني ذو الفقار بوتو الذي تبنى مشروع صناعة سلاح نووي)

ولم تكد تنتهي السبعينات حتى بات خبر عبد القدير خان معروفًا لدى أجهزة الاستخبارات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بالرغم من أنه لم يكن رئيسًا رسميًا للبرنامج النووي الباكستاني، وفي الوقت الذي سعت فيه واشنطن لعرقلة حصول باكستان على سلاح نووي، كان خان يلعب بطريقةٍ أكثر ذكاءً وجموحًا عبر تأسيس سوق عالمية سوداء للتهريب والشراء على السواء لبناء أجهزة الطرد المركزي للقنبلة الباكستانية.

بحسب السيرة الذاتية التي سطّرها خان، فقد اعتمد إستراتيجية الشراء من السوق المفتوحة، واستغل رغبة الشركات الأجنبية في الحصول على المكاسب الخرافية جراء الربح النووي السريع، وكانت باكستان مستعدة للدفع بالرغم من أزماتها الاقتصادية وحصولها على قروضٍ متتابعة من صندوق النقد الدولي.

وعلى صعيد الوضع السياسي فالعام 1977 شهد انقلابًا عسكريًا في باكستان بقيادة الجنرال محمد ضياء الحق الذي تحالف في البداية مع الجماعة الإسلامية لتطبيق الشريعة الإسلامية، وهو المناخ الذي شجّع أكثر فأكثر على السعي لامتلاك قنبلة نووية في ظل عودة روح الجمهورية الإسلامية القديمة وتحدياتها، لكنّ باكستان التي باتت أقرب عداءً مع الغرب، تحولت فجأة إلى صفوفه بسبب الحرب التي شنها الاتحاد السوفيتي ضد أفغانستان عام 1979، وتغيرت معها الخريطة السياسية الدولية.

دعمت كل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وباكستان، حركة المقاومة الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتي، واعتُبرت باكستان وقتها هي خط المواجهة، واللاعب الرئيس في الصراع كونها القناة الرئيسة التي تم من خلالها تقديم المساعدة إلى المجاهدين الأفغان، وفي الوقت الذي غض فيه الجميع الطرف عن المشروع النووي الباكستاني، كان الاقتصاد الباكستاني يشهد نموًا إلى جانب الجيش الذي عزز من قدراته الدفاعية.

وفيما كانت باكستان تحصد ثمرة صفقتها السياسية، كانت معامل كاهوتا السرية في أقصى الصحراء تعمل لمباشرة المشروع الذي عُرف باسم «706»، والذي استمر ست سنواتٍ فقط حتى عام 1983، وهو التاريخ الذي دخلت فيه باكستان رسميًا نادي الكبار، في وقتٍ كان يستغرق فيه الأمر عادة عقدين من الزمان في أكثر دول العالم تقدمًا. يقولُ خان في مقابلةٍ تليفزيونة عام 2009: «لو لم تحدث الحرب الأفغانية، لم نكن لنتمكن من صنع قنبلة نووية في وقتٍ مبكر».

وفيما كانت المخابرات الباكستانية تعمل على حماية المشروع القومي عبر تأمين سلامة العلماء والحفاظ على سرية المشروع من خلال اعتقال الجواسيس، تكفلت السعودية وليبيا بتمويل التكلفة الأولية لصناعة سلاح نووي، والتي بلغت قيمتها في ذلك الوقت نحو 450 مليون دولار أمريكي.

وأمام الحدث الكبير رفعت هولندا قضية على الدكتور عبد القدير خان بتهمة سرقة وثائق نووية سرية، وحكم عليه غيابيًا بأربع سنوات، لكنّ المحكمة العليا برأته بعدما أثبت ستة علماء من زملائه في العمل القديم أنّ المعلومات التي حصل عليها خان كانت من النوع «المتوافر» والمنشورة في المجلات العلمية في جزئيات منفصلة.

وبوصول القنبلة النووية إلى باكستان التي تمتلك شبكةٍ كبيرة من العملاء في السوق السوداء، وجدت باكستان من مصلحتها تصدير التقنية النووية إلى بعض البلدان، وعلى رأسها إيران، وليبيا، إضافةً إلى العدو الأكبر للأمريكيين ممثلًا في كوريا الشمالية.

إلى أين وصلت حاليًا قدرات باكستان النووية؟

وفقًا لتقرير نشره «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام»، وصدر في يونيو (حزيران) الماضي، تضاعف باكستان تدريجيًا من حجم وتنوع قواتها النووية، إذ تمتلك باكستان 160 رأسًا حربيًا، وترفض حتى الآن التوقيع على معاهدة «حظر انتشار الأسلحة النووية»، ويحتل الجيش الباكستاني المرتبة 15 في ترتيب أقوى الجيوش عالميًا وفق مؤشر موقع «غلوبال فيربور» الأمريكي، والذي لا يعتبر دقيقًا بشكل كاف لأنه يغفل عدة عوامل مهمة في ترتيبه، لكنه يظل مؤشرًا هامًا، فيما تصل ميزانية الدفاع إلى 7 مليارات دولار أمريكي.

ومؤخرًا حصلت باكستان على وصف «الأكثر تحسنًا» في تصنيف مكافحة سرقة المواد والمرافق النووية، في تقرير أعدته وكالة «ميديا لاين» الأمريكية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، وذكر تقرير «مؤشر الأمن النووي» أن «أكثر التحسينات التي أجرتها باكستان كانت في فئة تدابير الأمن والتحكم (+25) بسبب تمريرها لوائح جديدة، وبالمقارنة مع تحسينات الدول الأخرى في هذه الفئة، تُعد زيادة باكستان في فئة تدابير الأمن والتحكم (+25) ثاني أكبر تحسن تسجله أية دولة منذ انطلاق المؤشر في عام 2012».

وتمتلك باكستان وكالة مخصصة مسؤولة عن حماية مخزون البلاد من الأسلحة النووية والأصول التكتيكية والإستراتيجية، والمسماة باسم «قوة قسم الخطط الإستراتيجية» يقودها قائد عسكري برتبة فريق، وتضم ما لا يقل عن 25 ألف جندي مدربين تدريبًا جيدًا ومجهزين تمامًا لتحمل مسؤولية حماية أصول البلاد النووية والتكتيكية. على الجانب الآخر يحظى النظام بفضل سلاح الردع الذي يمتلكه على صداقة الأنظمة الكبرى، بما يجعلها دولة مرضي عنها في العموم في الغرب، بعد سنواتٍ قضتها مهددة بالاتهامات بسبب العام 2003، حين اكتشفت شبكة خان النووية.

في عام 2003 أوقفت زوارق تابعة لخفر السواحل الإيطالي سفينة شحن ترفع العلم الألماني متجهة نحو ليبيا، كانت على متنها نحو ألف جهاز طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم بمواصفات صنع سلاح نووي، وبتعقّب الشحنة اتضح أنها تعود لشركةٍ في دبي تستخدم كواجهة لعبد القدير خان لبيع الأسرار النووية.

وأمام القضية الدولية، اضطر خان لتقديم استقالته من منصب المستشار العلمي للحكومة، كما خضع لاستجوابٍ شكلي، وفي عام 2004 ظهر في خطابٍ رسميٍ اعترف فيه بمسئوليته عن نقل تكنولوجيا السلاح النووي للخارج بهدف تحقيق أرباح شخصية دون علم الحكومة الباكستانية، وهي الاعترافات التي شككت فيها الاستخبارات الأجنبية في الوقت الذي منعت فيه الحكومة مثول خان أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وفي عام 1994 وقعت الولايات المتحدة وكوريا الشمالية اتفاقًا يقضي بتجميد الأخيرة برنامجها النووي مقابل النفط والغذاء، واضطرت كوريا الشمالية لهذا التوقيع، خاصة بعدما واجهت صعوباتٍ في إخفاء منشآتها النووية التي كان يمكن رصدها جوًا بسهولة من قبل مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكن باكستان قدمت لكوريا حلًا سحريًا ممثلًا في الفكرة التي طرحها عبد القدير خان عبر بناء منشآت سرية تحت الأرض تسمح لأجهزة الطرد المركزي بتطوير المواد الانتشارية دون علم واشنطن.

لكنّ أجهزة الاستخبارات الأمريكية رصدت في منتصف التسعينات 13 رحلة جوية قام بها خان إلى كوريا الشمالية برفقة طائرات شحنٍ عسكرية، واتضح بعدها أنها حملت التكنولوجية النووية الباكستانية، وفي المقابل حصلت إسلام آباد على مساعدة ممثلة في تطوير صاروخ قادر على حمل رؤوس نووية.

عبد القدير خان اتُهم أيضًا ببيع معلومات ومواد تستخدم في تصنيع القنبلة النوورية لدول أخرى مثل إيران، والعراق، وسوريا، وحتى الآن لم تصل الدول الأوروبية إلى قرار نهائي حول إذا ما كانت شبكة خان الدولية تحظى بدعمٍ مباشرٍ من الحكومة الباكستانية أم أنه مجرد تحرك منفرد بحثًا عن الثراء السريع.