الرئيسية / أخبار / حين تتحدث حكومة الأردن بلسان الشارع يراها الأخير “بالعينتين”

حين تتحدث حكومة الأردن بلسان الشارع يراها الأخير “بالعينتين”

فرح مرقه:

تغيرت النبرة الحكومية الأردنية مع مساء الأربعاء لتصبح أقرب للشارع ومصالحه وتتجنب الحكومة نغمة النفقات، بالتزامن مع فرض حظر التجول الذي أعلن عنه الجيش العربي (الأردني) في بيانه، إذ يمنع التنقل بين المحافظات ويقصر الحركة داخل العاصمة والمحافظات أيضاً.

وزير المالية الدكتور محمد العسعس رفض عمليا التصريح بأي نفقات تكبدتها الحكومة معتبرا ان ” التكلفة هي اصابة 56 انساناً عزيزاً نتمنى لهم الشفاء وما بقي تفاصيل”، وهذه إجابة على رومانسيتها الظاهرية إلا انها تعكس اختلافا إيجابيا بالنبرة الحكومية والتي لاقت الكثير من النقد حين صرح وزير الصحة الدكتور سعد جابر حول تكلفة المرضى.

بالتزامن مع تصريحات العسعس كان جابر أيضا يتحدث عن “رفضه لقرض جديد من صندوق النقد الدولي لمجابهة كورونا” وأن الحكومة متمثلة برئيسها الدكتور عمر الرزاز ووزير المالية العسعس تعهدت بتقديم ما يلزم وتحدث جابر عن 2 مليون دينار أردني تكلفة تقريبية للازمة على البلاد حتى اللحظة.

هنا وفي جملة واحدة يدغدغ جابر مشاعر الأردنيين الرافضة ومنذ سنوات لصندوق النقد وقروضه والتي اغرقت فيها حكومات البلاد بديون باتت تحكم بشكل الاقتصاد الذي أساسا يشكو الضعف والتشوه وفقا لتصريحات رئيس الوزراء الرزاز نفسه.

طبعا التكلفة المذكورة آنفاً- ودون البحث في تفاصيلها وهي بالضرورة تكلفة ستتضاعف لاحقا، خصوصا مع إشكالات الوزارة في إيجاد وسائل الفحص وبعض المعدات الصحية اللازمة للعزل وغيرها- تقلّ عن التبرعات الفردية والمؤسساتية التي وصلت لوزارة الصحة، لا بل وتقل عن تبرع البنك العربي (3 ملايين دينار اردني) منفردا، والتي جمعت الحكومة أضعافها خلال الأيام القليلة الماضية عبر التبرعات الشبيهة، الأمر الذي يظهر مليا أكثر من نجاعة الإجراءات الحكومية، أن المسؤولية الاجتماعية عالية في الأردن ولا تحتاج للكثير من التأزيم الذي كان حاصلا تحت عنوان “ضرائب التكافل الاجتماعي”.

مراقبة المشهد الأردني خلال اليومين الماضيين يظهر وبوضوح أن الأردنيين وبمجرد شعورهم بأن المؤسسات معهم وليست عليهم، وبأن خندق الوطن يتسع للجميع، قدّموا عمليا مالهم وما يحتكمون عليه من إمكانيات للدولة، والاعلانات عن التبرعات من المؤسسات والبنوك والافراد لا تزال متوالية حتى لحظة كتابة التحليل.

بهذا المعنى وحتى على الصعيد الاقتصادي، الذي يحمل ومنذ زمن أقل نسبة ثقة بين الأردنيين والدولة بسبب الإجراءات المتخبطة للحكومات المتعاقبة، فإن الأردنيين يفتحون مع الدولة صفحة جديدة وعلى قاعدة الأزمة التي تجعل الجميع في خندق واحد. حتى اللحظة بالمقابل تبلي مؤسسات البلاد بلاءً حسناً ويظهر افراد المؤسسات المختلفة مسؤولية كبيرة حتى في التعامل مع المخالفين ورغم الصلاحيات التي يمنحها قانون الدفاع.

هنا يبدو ان الشارع تعامل مع الدولة على طريقة المثل الشعبي المعروف “من يراني بعين اراه بالاثنتين”، ليقدّم جلّ ما يملكه بمجرد ان بدأت الحكومة تخاطب الاردنيين بصورة اقرب اليهم ومنذ بدأت اجراءاتها تظهر نجاعتها.

في الأثناء وعلى الصعيد الاقتصادي أيضاً، تم الافراج عما يقارب عن 500 موقوف بقضايا مالية واقتصادية، وهنا قضية رأي عام أخرى عنوانها المتعسرين والمدينين الذين عمّق خيار السجن من أزمتهم، والذين تابعت “رأي اليوم” العديد من الحالات من بينهم حيث تحول الفرد المعسر بعد سجنه إلى عائلة كاملة تشكو الضائقة المالية والاقتصادية ما يقدّره الخبراء بنحو نصف مليون اسرة بين مطلوبين وبين من يخشون التحول لمطلوبين سواء بديون للدولة أو لتجار آخرين وقطاع خاص.

في هذا الملف الإشكالات كبيرة ومتعددة أيضا فالمطلوب لا يحول اسرته فقط لأسرة منكوبة اقتصاديا وانما يحوّل أيضا الدائنين، اذ في السوق الأردنية الدائن لشخصٍ مدينٌ لآخر بكل الأحوال، وهنا أحجار دومينو كانت أساسا الحكومة قد فتحت ملفها لوقف الإخفاق الاقتصادي فيها.

المدينون يرون ان ديونهم تتراكم مع زيادة الضرائب ومطالبات الدولة ومع إصرار الدولة أيضا على السجن كخيار لملفهم، والدائنون يريدون نقودهم ليستمروا في العمل، وحكومة الرزاز لكونها أساسا وصلت للسلطة التنفيذية في ضائقة من النوع الصعب وجدت نفسها في متاهة كبيرة حتى في التفريق بين المعسر ومحترف النصب، بينما تتهاوى الطبقة الوسطى تباعا لخط الفقر أو ما أدنى منه.

هنا واليوم، وبعد تصريحات وزير المالية العسعس عن انفتاح الحكومة على الخيارات والأفكار لخروج الدولة اقوى من ازمة كورونا، وبما ان قانون الدفاع قد تم تفعيله بالفعل وهو ما يمنح الدولة هامشا للحركة ليس موجودا بالحالات العادية، فقد بات من الضروري عمليا إيجاد حلول خلاقة بالتزامن مع الأزمة، لكف الطلبات عن المدينين لعامين أو ثلاث مع استمرار منعهم من مغادرة البلاد، لصالح السماح لهم بالعمل وتسديد ديونهم، كما ان تبدأ الدولة بإعادة النظر بمطالباتها للشارع سواء عبر المطالبات الضريبية او حتى تلك المتعلقة بالضمان الاجتماعي وغيره من المؤسسات، حيث هنا محامون اكدوا مرارا امام “رأي اليوم” ان مثل هذه الدعاوى تملأ المحاكم ولا يجد القضاة حلولا امامها الا الحبس، وهو ما يعمق الهوة بين الدولة والمواطن ولا يدع في النهاية مجالا للتسويات.

فتح نافذة حقيقية يتنفس منها الأردنيون في الشق الاقتصادي متاح اليوم حقيقة مع كل ما يبدو عليه المشهد، حيث حكومة لا تستطيع العمل دون المؤسسات الأخرى ومؤسسات الدولة جميعا لا تستطيع العمل دون الشارع الأردني وملك الأردني يترك للجميع حرية الحركة في البلاد ما يمنح شعورا حقيقيا بأن المؤسسات تعمل بنجاعة.

بهذه الحالة عمليا يمكن للحكومة الحالية ومع تراجع خيار الانتخابات التشريعية القريب، أن تتخذ إجراءات جديدة ومختلفة تعيد عبرها هيكلة الاقتصاد على أساس اكثر عدالة ويساعد المواطنين العاديين أولا في استعادة ثقتهم بالدولة كراعية لمصالحهم جميعا دون تفريق، وثانيا في المساهمة بشكل جديد للاقتصاد يحمي الطبقات الأقل حظا ولا يغبن الأكثر حظا.

بكل الأحوال، تبقى الأفكار في هذا المجال رهن القرار السياسي والاقتصادي المرجعي، والذي لا يزال البعض يشككون بادامته واحتمالات قدرة المؤسسات على التعامل مع المشهد باستراتيجية حقيقية تبتعد عن التكتيك الاني واللحظي. هنا قد لا يفقد التحليل السياسي الأمل ولكنه يبقى حذراً بعد التجارب المتراكمة.