عمر نجيب
مرة أخرى تتمكن دمشق من كسب مواجهة جديدة في معركتها في الحرب شبه الدولية الدائرة على أرض الشام منذ منتصف شهر مارس 2011، حيث خسر هؤلاء الذين راهنوا على جعل معركة جيب إدلب في شمال غرب سوريا نقطة إنتكاس للجيش العربي السوري وذلك بإستخدامهم تركيبة تحالف ثلاثية مكونة من الجيش النظامي التركي والفصائل والمليشيات المسلحة التي تضم آلاف المسلحين الأجانب القادمين من أكثر من 80 دولة والذين يسميهم الغرب تشكيلات المعارضة والقوات الجوية الإسرائيلية.
فيوم الخميس 5 مارس أعلن في العاصمة الروسية موسكو وبعد قمة روسية تركية استمرت أكثر من ست ساعات عن وقف لإطلاق النار في جيب إدلب، وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو يقف إلى جانب نظيره التركي رجب طيب أردوغان، إنه يأمل في أن يؤدي اتفاقهما إلى وقف العمليات العسكرية في آخر معقل للمسلحين في أقصى شمال غرب سوريا.
وأردف بوتين قائلا ”آمل أن تمثل هذه الاتفاقات أساسا جيدا لوقف النشاط العسكري في منطقة خفض التصعيد في إدلب وأن توقف معاناة السكان المسالمين والأزمة الإنسانية المتفاقمة“.
أردوغان قال للصحفيين إن الهدنة ستدخل حيز التنفيذ في منتصف ليلة الخميس الجمعة. وأضاف ”سنعمل سويا لتوفير المساعدات للسوريين المحتاجين“. وأن تركيا تحتفظ بحقها في ”الرد على جميع هجمات النظام السوري في الميدان“.
حفظ ماء الوجه
الاتفاق ضمن احتفاظ الجيش السوري بكل الأراضي التي استعادها من التنظيمات المسلحة والجيش التركي منذ بداية سنة 2020، وتراجع الرئيس التركي عن إنذاره الذي حدد فيه نهاية شهر فبراير لينسحب الجيش السوري إلى النقاط التي تقدم منها وإلا ستجبره أنقرة بقوة السلاح على ذلك.
أغلب الملاحظين سواء في الغرب والشرق اعتبروا أن الرئيس الروسي منح الرئيس التركي فرصة لحفظ ماء الوجه والتراجع عن تهديداته، وقدم له تسوية مشابهة لسابقات لها مكنت الجيش السوري وعلى مراحل من اتباع سياسة القضم التدريجي للأراضي التي سيطرت عليها في أوقات مختلفة الفصائل المسلحة.
فبالنار قبل التفاهمات، ثبت الجيش السوري وحلفاؤه سيطرتهم على طول الطريق الدولي حلب دمشق وأمنوه شرقا وغربا. كما تمكنوا من إبعاد خطر المسلحين عن مدينة حلب بالكامل، ولاحقوهم إلى أقصى ريفها. أما التفاهم، فينتظر أن يتم بموجبه فتح الطريق الدولي حلب اللاذقية أمام المدنيين بعد أسبوع، وإنشاء ممر أمني بعمق 6 كلم على جانبي طريق حلب اللاذقية، أي منطقة عازلة بعرض 12 كلم. تسيير دوريات روسية تركية بين ترمبة غرب سراقب وعين حور في ريف اللاذقية على الطريق السريع.
كما اتفق الجانبان على تسيير دوريات روسية تركية مشتركة إبتداء من 15 مارس 2020 على طول شريط مواز للطريق أم 4 وعلى بعد أربع كلم منه، من بلدة ترنبة الواقعة على بعد كيلومترين من مدينة سراقب ووصولا إلى بلدة عين الحور.
وبانتهاء هذه المرحلة من العمليات العسكرية، عبر بدء سريان وقف إطلاق النار، يكون الجيش السوري قد سيطر منذ بداية عملياته في أرياف حلب الجنوبي والجنوبي الغربي والشمالي الغربي وريفَي إدلب الشرقي والجنوبي منذ أوائل عام 2020، على ما يقارب 215 قرية وبلدة وناحية. كما يكون قد تمكن من تأمين طريق دمشق حلب الدولي، بعد أن حرر مسافة ما يقارب 100 كم من هذا الطريق. ووفق خريطة السيطرة هذه، باتت المساحة التي استعادها الجيش السوري تقدر بحوالي 1900 كم مربع.
حقيقة خسائر تركيا
في طريق عودته من موسكو وفي تصريحات صحفية أدلى بها يوم الجمعة من على متن طائرته قدم الرئيس التركي اعترافا ضمنيا بأن رهانه على قدرة الجيش التركي فرض نفسها على الجيش السوري قد فشلت، حيث صرح أن قوات بلاده الناشطة في إدلب تواجه “نظام” الرئيس السوري، بشار الأسد، وليس روسيا، مؤكدا أن تركيا خسرت المئات جراء هجمات الجيش السوري.
وأضاف: “لا مشكلة هنا بين روسيا وتركيا، لا نواجه روسيا، إننا نواجه نظام الأسد. وهذا النظام، للأسف، يضطهد بلا رحمة مواطنيه في منطقة إدلب”.
وأضاف أردوغان: “هذا النظام أقلقنا دائما من كل المناطق الحدودية بينها الباب وجرابلس. شن هجمات من هناك ما أسفر عن تكبدنا خسائر كبيرة يصل عددها إلى المئات. وجهنا تحذيراتنا لكنه لم يتوقف رغم ذلك”.
كما تعهد بأن تحتفظ تركيا بالوضع الراهن لنقاط المراقبة في إدلب، مبينا أنه “لا يوجد أي تغيير بهذا الخصوص حاليا”.
في دمشق رحبت المستشارة السياسية والإعلامية في الرئاسة السورية، بثينة شعبان، بالاتفاق المبرم مؤخرا بين روسيا وتركيا بشأن إدلب، مشددة على أنه “لصالح سوريا وجيشها وشعبها”. وشددت على أن الاتفاق “خط بدماء السوريين لمصلحة سوريا وهو جزء من مسارات عدة سياسية وعسكرية ودبلوماسية”.
وقالت المستشارة إن هذا الاتفاق تم التوصل إليه بفضل “تضحيات وبطولات” الجيش السوري الذي استعاد السيطرة على مساحة تتجاوز ألفي كم مربع و”فرض تنفيذ اتفاق سوتشي في إدلب”، مضيفة أن هذه “التضحيات” في المرحلة الراهنة “فرضت الاتفاق الذي بموجبه يتم فتح طريقي أم 4 و أم 5 مع التأكيد على استمرار مكافحة التنظيمات الإرهابية”.
وأشارت شعبان إلى أن الاتفاق المبرم مؤقت ويخص منطقة معينة فقط، متهمة أردوغان بعدم الالتزام باتفاق سوتشي والتنسيق “تنسيقا مطلقا” مع إسرائيل والولايات المتحدة.
وأكدت المستشارة أن التنسيق الروسي السوري “مسبق ودقيق، كما هناك مصداقية وثقة متبادلة ومطلقة بين البلدين”، لافتة إلى أن الجانب الروسي “برهن على مدى سنوات الحرب على سوريا وانخراطه في مكافحة الإرهاب أنه حليف يعتمد عليه ويحترم كلمته”.
يشير الملاحظون إلى أن قبول إردوغان بنصوص الاتفاق يعني أنه تراجع عن مطالبته بعودة قوات دمشق إلى حدود سوتشي وقبوله تشغيل دمشق الطريقين الدوليين بين حلب ودمشق وبين حلب واللاذقية ويعني تحمل أنقرة مسؤولية إقامة المنطقة العازلة وإبعاد فصائل معارضة أو متشددة من جانبي الطريق الدولي وهو ما فشل أو تقاعس عن تنفيذه في اتفاقيات سابقة. كما أبقى اردوغان وربما لأيام قليلة قادمة على نقاط المراقبة التركية جزرا معزولة في مناطق سيطرة الحكومة “وتحت رحمة المظلة الروسية”.
دمشق قبلت من جانبها التراجع عن خطة استعادة كل جيب إدلب قبل بداية الصيف بعملية عسكرية واسعة، وقبلت قرار موسكو تسيير دوريات مشتركة مع تركيا في شمال غربي سوريا كما هو في شمالها الشرقي. في المقابل، كسبت رضوخ أنقرة لواقع الميدان أي السيطرة على المناطق التي قضمها جيشها مؤخرا وحققت هدفها الاستراتيجي في فتح شرايين الاقتصاد وثبتت السيطرة على طريق حلب سراقب معرة النعمان خان شيخون حماة، إضافة إلى سيطرتها بالأمر الواقع على مناطق جنوب طريق سراقب عين حور.
مصادر عسكرية في مقر حلف الناتو في بروكسيل أشارت إلى أن الجيش السوري أدهش العديد من الخبراء في تعامله مع التدخل التركي، حيث نجح في كسب أكثر من جولة رغم التفوق النظري في العتاد والعدد للجيش التركي، وذكر أحد العسكريين أنه عندما طلب أردوغان من موسكو تركه يتعامل مع جيش دمشق دون تدخل روسي قبل الكرملين الرهان ولكن دون تدخل جوي لأي من الطرفين، وهنا أكتشف الأتراك مدى خطأهم في تقدير قوة القوات السورية.
في اليوم الأول من وقف إطلاق النار، سيرت الشرطة العسكرية الروسية مع القوات التركية دوريات مشتركة بالقرب من مدينة سراقب في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، على طريق حلب اللاذقية، فيما أفادت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا” بأن “الهدوء ساد محاور العمليات”، مؤكدة في الوقت نفسه أن “وحدات الجيش جاهزة للرد بقوة على أي محاولة خرق من قِبَل التنظيمات الإرهابية”. من جهتها، شددت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، خلال مؤتمر صحافي، على ضرورة “القضاء على التنظيمات الإرهابية في سوريا، واكدت أن موقف روسيا ثابت حيال ذلك”، مشيرة إلى أن “اتفاق وقف الأعمال القتالية في إدلب يجدد التأكيد على مواصلة محاربة الإرهاب بكل أشكاله”، مؤكدة أن “لسوريا كامل الحق في القضاء على التنظيمات الإرهابية على أراضيها”.
تقلص النفوذ الأمريكي
كتب جوناثان ماركوس مراسل الشؤون الدبلوماسية والدفاع في هيئة الاذاعة البريطانية يوم 5 مارس قبل ساعات من القمة الروسية التركية:
يحتاج الرئيس التركي إلى تخليص نفسه من موقف صعب في سوريا، ومن ثم فهو يتجه إلى العاصمة المعنية، ونعني بها موسكو وليس واشنطن.
كم تغيرت الظروف! فقبل زمن ليس بالبعيد كانت أمريكا هي اللاعب الخارجي المسيطر في المنطقة. لكن الأمر لم يعد كذلك.
إن استهانة الرئيس ترامب بالتفكير الاستراتيجي ورغبته في الانسحاب بواشنطن من منطقة مضطربة من العالم أسهمتا في تغييب النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة. وتكمن مشكلة تركيا في خلافها مع الحكومة السورية.
جعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه لاعبا أساسيا في الأزمة السورية.
ومنذ وقت مبكر قرر بوتين نشر قوة جوية للحيلولة دون سقوط سوريا. وما أن استقر وضع الرئيس بشار الأسد، حتى استخدمت روسيا قوتها الجوية في مساعدة الجيش السوري في استعادة أراض من أيدي التنظيمات المسلحة. وباتت إدلب آخر الساحات الرئيسية لهذه المعارك.
وبخلاف التدخلات الغربية في أفغانستان والعراق، كان للروس رؤية واضحة لما يريدونه في سوريا وكانوا على استعداد كاف للمضي قدما في تنفيذ رؤيتهم.
لكن تركيا، التي تسيطر على جيوب أخرى في سوريا، تعلم أنها لو تراجعت في إدلب، فإن مواقع سورية أخرى قد تتعرض على الأقل من وجهة نظر أنقرة لهجمات مشابهة من قوات الجيش السوري.
دمشق حليف روسي قديم منذ زمن الاتحاد السوفيتي، وتمثل سوريا أحد مواقع النفوذ الخارجية القليلة المتبقية لموسكو. على أن التحالف بين الرئيس بوتين ونظيره السوري ليس قائما على التاريخ فحسب وإنما أيضا على الجغرافيا السياسية الصعبة.
نظام عالمي جديد
يمكن القول إن سوريا تمثل “أنموذجا” للسياسة الروسية، ودليلا على أن موسكو تلتزم بكلمتها وأنها شريك يعول عليه.
وعلاوة على ذلك فإن وجود روسيا في سوريا يعتبر نواة لتوسع روسي في المنطقة. ولقد هيأ هذا الوجود الفرصة أمام روسيا لمغازلة تركيا الحليف البارز في حلف شمال الأطلسي “ناتو” في فرصة سانحة لإضعاف جبهة التحالف الأطلنطي.
يرى بوتين في انهيار الاتحاد السوفيتي مأساة كبرى، ويرى أنه من الضروري أن تستعيد روسيا مكانتها كلاعب أساسي على الساحة العالمية، وقد وجد بوتين في سوريا إحدى الوسائل التي تمكن بلاده من استعادة تلك المكانة.
لكن المشكلة بالنسبة للغرب تتمثل في أن الأمر لا يقتصر على سوريا.
إن بشائر عودة الدب الروسي تظهر في أكثر من مكان. ولبوتين يد مؤثرة في ليبيا، حيث تدعم قوات الجنرال حفتر.
كما أن روسيا داعم أساسي للنظام الفنزويلي. ولا تكف روسيا عن لعب دور القوة العظمى في محيطها، وتمضي بلا هوادة في تحقيق مصالحها في جورجيا وأوكرانيا.
كيف يمكن للغرب أن يتصدى لذلك الزحف الروسي؟.
في مضمار عسكري ضيق النطاق، يحدث الشيء الكثير. وتشهد قوات الناتو تطويرا وتعيد ترتيب نفسها من أجل هذا العالم الجديد الذي يشهد تجددا للتنافس بين القوى الكبرى.
وتنتشر المزيد من القوات الأمريكية الآن في أوروبا وتجرى المناورات بوتيرة ونطاق متزايد بشكل ملحوظ.
لكن هذه المشكلة ليست عسكرية عند التحقيق، وإنما هي دبلوماسية وسياسية.
ثمة فراغ في القيادة يعايشه الغرب. ولا يولي الرئيس ترامب اهتماما حقيقيا بالجغرافيا السياسية، ويمكن القول إن إدارته مترددة بشدة صوب روسيا.
ويتبنى العديد من المسؤولين في الإدارة الأمريكية موقفا معارضا بشدة لأنشطة موسكو، بينما يبدي الرئيس ترامب قدرا ملحوظا من الثقة في الرئيس بوتين.
وفي ظل حالة عدم اليقين السياسية، لا يمكن اعتبار ألمانيا حاملةً للواء الغربي، كما لا يمكن اعتبار المملكة المتحدة حاملة لهذا اللواء في ظل انشغالها بالخروج من متاهة بريكست “الانفصال عن الاتحاد الأوروبي”. مَن إذن يحمل هذا اللواء؟.
لقد مهدت فرنسا الطريق لعودة الارتباط بموسكو. وقد وضع الرئيس إيمانويل ماكرون هذه العودة إلى موسكو بين أولويات سياسته الخارجية.
وفي مؤتمر ميونيخ للأمن شهر فبراير 2020، قال الرئيس الفرنسي إن أوروبا بحاجة إلى استعادة نفسها كقوة استراتيجية. وأكد أن ثمة حاجة إلى “سياسة أوروبية تجاه روسيا .. لا سياسة أوروبية عابرة للأطلنطي”.
وبينما يسود شعورٌ بأن مساعي فرنسا في هذا الصدد قد تضر بالتماسك الغربي وتعكر أجواءه فإن موسكو تنظر بعين الرضا إلى تلك المساعي الفرنسية.
النصر في سوريا
جاء في تحليل نشرته وكالة فرانس برس يوم 4 مارس 2020: عندما زار الرئيس التركي روسيا صيف سنة 2019، كانت الأجواء مميزة وتناول المثلجات أثناء مشاهدة عرض للمقاتلات مع صديقه فلاديمير بوتين.
لكن قبل زيارة رجب طيب اردوغان الخميس لموسكو، بدأت الغيوم تتلبد مع تباين مواقف المسؤولين في ملف سوريا.
وميدانيا، اشتدت المعارك بين القوات التركية وقوات الجيش العربي السوري المدعومة من موسكو في محافظة إدلب في شمال غرب سوريا.
وللرئيسين مواقف متباينة تماما وكل منهما يتمسك بها.
وهناك أمل بأن يتفق المسؤلان خلال المباحثات على وقف لاطلاق النار على الأقل. لكن من المستبعد أن يؤثر اردوغان على تصميم بوتين مساندة حكومة دمشق في هجومها لاستعادة آخر معاقل المعارضة في سوريا.
ويقول محللون أن تحقيق النصر في سوريا بالنسبة لبوتين ليس مسألة سياسية بل أصبحت شخصية.
وأعلن يوري بارمين المحلل لشؤون الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الدولية الروسية الذي يقدم الاستشارة للكرملين “تعززت صورة بوتين كاستراتيجي ماهر مرتبط بسوريا. … النصر في سوريا أصبح مسألة هيبة بالنسبة لروسيا ولبوتين شخصيا”.
تدخلت روسيا في سوريا في نهاية 2015 مع حملة قصف جوي ساهمت في تفوق جيش دمشق في المعادلة على الأرض.
وساعد التدخل الروسي الرئيس بشار الأسد على استعادة قواته مناطق شاسعة في البلاد من أيدي إسلاميين ومجموعات معارضة مدعومة من الغرب ومن تركيا.
وبوتين العميل السابق في جهاز “كاي جي بي” الذي وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بالكارثة، اقتنص فرصة لاستعادة أمجاد الكرملين العسكرية السالفة وتحدي الغرب.
ويقول المحلل العسكري الروسي بافيل فلغنهاور ان موسكو استثمرت بشكل كبير في قاعدتين على الساحل السوري، قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية، لكي يتمكن بوتين من إظهار قوته العسكرية في حوض المتوسط بفضل سفنه الحربية ومقاتلاته.
من جهته يقول ديميتري ترينين مدير معهد “كارنغي” في موسكو أنه تبين أن النزاع في سوريا كان ساحة جيدة للتدريب العسكري مع اكتساب مئات الجنود الروس خبرة ميدانية واختبار مئات الأسلحة الجديدة.
ويضيف “انه مثال مادي على ما يمكن لروسيا انجازه من خلال أدوات عسكرية ودبلوماسية في آن واحد”.
ويتابع أن للنزاع وقعا شخصيا بالنسبة لبوتين.
ووصل بوتين إلى سدة الحكم قبل 20 عاما خلال حرب الكرملين ضد المتمردين في جمهورية الشيشان. وتعهد بوتين حينها ب”القضاء عليهم”.
ويقول ترينين إن بوتين “يريد تصفية حساباته مع الإرهابيين” بعد أن توجه 4 آلاف روسي إلى سوريا والعراق للانضمام إلى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية في السنوات الأخيرة.
ويسعى بوتين أيضا إلى تحقيق نجاحات في السياسة الخارجية قد تعطي دفعا لشعبيته التي تراجعت بسبب الركود الاقتصادي.
والمرة الأخيرة التي سجل فيها انتصارا كبيرا في الخارج كان في 2014 مع ضم شبه جزيرة القرم بحيث ارتفعت شعبيته إلى 90 في المئة.
ويضيف “يعلم بوتين جيدا أنه يتفوق عسكريا وسياسيا على اردوغان” لكنه سيجد سبيلا للسماح للرئيس التركي ب”التراجع مع الحفاظ على ماء الوجه”.
وبعبارة أخرى “يسعى بوتين بالتأكيد للتوصل إلى تسوية مع تركيا حول سوريا لكنها ستكون تسوية تمليها روسيا” بحسب بارمين.
استراحة محاربين
جاء في تقرير نشر في العاصمة اللبنانية بيروت يوم 6 مارس 2020:
اختار الطرفان التركي والروسي تجاوز الكم الكبير من الخلافات بينهما حول المواضيع الأساسية، والتوصل إلى اتفاق خجول يتجاهل النقاط الحساسة التي كانت سبباً للتوترات الأخيرة. وهو ما يجعل الاتفاق مجرد هدنة أو “استراحة محارب” في انتظار جولات عسكرية أخرى قادمة.
خرجت قمة موسكو بين الرئيس التركي، ونظيره الروسي، بنتائج أقل بكثير مما كان يتوقع منها، ولربما جاز وصفها بأنها “مخيبة للآمال”، كونها فشلت في مقاربة عدد كبير من النقاط الحساسة التي غابت عن متن البيان الختامي.القمة خرجت ببيان من ثلاث نقاط:
1- وقف النشاطات العسكرية في إدلب، بدءاً من منتصف ليلة الخميس الجمعة.
2- إقامة “منطقة آمنة” على امتداد طريق أم 4، بعرض 6 كلم شمالاً و6 كلم جنوباً، على أن تقرر القيادتان العسكريتان للبلدين التفاصيل التقنية خلال أسبوع ينتهي في 15 مارس.
3- تسيير دوريات مشتركة تركية روسية على امتداد طريق أم 4 من منطقة ترنبة غربي سراقب إلى منطقة عين الحور غرباً.
ويلاحظ في الاتفاق:
1- غياب أي إشارة إلى “المنطقة الآمنة” التي كانت تركيا تطالب بها على امتداد حدود الإسكندرون مع إدلب لجمع اللاجئين فيها.
2- غياب الإشارة إلى نقاط المراقبة التركية المحاصرة وماذا سيحل بها.
3- غياب الإشارة إلى التنظيمات المسلحة المصنفة إرهابية وتطهير المنطقة منها.
4- غياب الإشارة إلى آليات وقف النار ومن سيراقبه ويضبطه.
5- غياب أي إشارة حتى في تصريحات بوتين وإردوغان إلى “اتفاق أضنة”.
6- عدم تحديد وظيفة “المنطقة الآمنة” شمال طريق أم 4 وجنوبه.
في المقابل:
1- يثبت الاتفاق الخطوط الجديدة التي وصل إليها الجيش السوري، ولا يشير إلى انسحابه إلى خطوط ما قبل المعارك، مثلما كان يطالب به إردوغان.
2- يثبت، من خلال عدم الإشارة، وجود القوات التركية في عمق إدلب وعلى خطوط النار المواجِهة للجيش السوري.
3- يوسع تمدد الوجود العسكري التركي جنوباً إلى خط أم 4 الذي هو تحت سيطرة المسلحين، ويعطي الوجود العسكري التركي، بالدوريات المشتركة مع روسيا، مشروعية ما، فيما يحرم الجيش السوري من إمكان مواصلة استعادة المناطق المحيطة بالطريق.
من الواضح أن اتفاق موسكو حاول أن يوازن بين مكاسب ميدانية تركية وسورية. لكنه لم يعالج أي مشكلة جذرية كانت سبباً للتصعيد العسكري الخطير في الآونة الأخيرة، ما يجعله مجرد هدنة أو “استراحة محارب” في انتظار جولات عسكرية أخرى قادمة. وعلى ما يبدو، فإن الطرفين التركي والروسي اختارا، لتجاوز الكم الكبير من الخلافات بينهما حول المواضيع الأساسية، التوصل إلى اتفاق خجول يتجاهل النقاط الحساسة التي كانت سبباً للتوترات الأخيرة. وهو ما يعكس إلى حد كبير استراتيجية روسيا التي لا تتخلى عن حليفتها سوريا، لكنها تراعي في الوقت نفسه وفي كل مرة تطلعات تركيا “المنطقة الآمنة والدوريات المشتركة” حتى لا تخسرها وتدفعها من جديد وبشكل كامل إلى الحاضنة الغربية.
ثلاثة متغيرات
كان إردوغان قد ذهب للقاء نظيره الروسي في ظل ثلاثة متغيرات ميدانية، وعاملين: داخلي وخارجي:
1- تقدم الجيش السوري وحلفائه في الأسابيع الأخيرة على جبهات إدلب، وتحرير كامل المنطقة المحيطة بطريق أم 5، وصولاً إلى جبل الزاوية، في الطريق إلى السيطرة على طريق أم 4، وهي مناطق كانت مشمولة باتفاق سوتشي.
2- دخول الجيش التركي، للمرة الأولى، بعناصره وعتاده إلى عمق إدلب، وصولاً إلى تشكيل “خطّ نار” على جبهة مقابلة لوجود الجيش السوري. وقد بلغ عدد الجنود والضباط ما لا يقل عن 8 آلاف عنصر، فضلاً عن أكثر من 3 آلاف آلية من دبابات وراجمات وصواريخ ومدافع وطائرات مسيرة مسلحة وغيرها.
3- دخول الجيش التركي ومعه التنظيمات المسلحة للمرة الأولى في مواجهة عسكرية مباشرة جوية وبرية مع قوات الجيش السوري وحلفائه، وسقوط خسائر كبيرة من الطرفين في ما يشبه حرباً إقليمية مصغرة. وهو ما يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الميدانية بين الطرفين لم يعد ممكناً في المستقبل استبعاد تكرارها على شكل حرب أوسع وغير محدودة.
أما العامل الداخلي، فهو الصدمة التي أثارها مقتل أكثر من 36 جندياً تركياً في ضربة جوية سورية روسية في 27 فبراير، واستدعت استنفاراً داخلياً للالتفاف حول الجيش التركي، لكن مع عدم قدرة إردوغان على تبرير سقوط هؤلاء لمصلحة مخططاته في سوريا وإدلب، في ظل انقسام داخلي كبير، وتحميل إردوغان مسؤولية رمي الجنود الأتراك إلى مهلكة غير وطنية، ووسط العودة الممجوجة إلى نغمة الدفاع عن حدود “الميثاق الملي” وتخويف الرأي العام التركي. إذ اعتبر شريك إردوغان، زعيم “الحركة القومية” دولت باهتشلي، أن الانسحاب من إدلب يعني الانسحاب لاحقاً من الإسكندرون، وكذلك في ظل استحكام “عقدة الأسد” بالمسؤولين الأتراك، حيث قال وزير الدفاع التركي، خلوصي آقار، خلال تعزية لعائلة أحد الجنود القتلى التي سألته: “متى سينتهي يا باشا هذا الأمر؟، إن “القوات التركية ستبقى في سوريا تحارب إلى أن يسقط النظام”، في حين قال باهتشلي نفسه إنه يجب التقدم وصولاً إلى دمشق وفصل رأس الأسد ووضعه في كيس.
أما العامل الخارجي، فيتمثل في فشل إردوغان في حشد الدعم الخارجي له. فلا حلف شمالي الأطلسي وقف بقوة إلى جانبه، ولا الولايات المتحدة وافقت على طلبه إرسال صواريخ “باتريوت” وحتى إن فعلت فذلك كان سيستغرق أسابيع إلا إذا كان الجنود الأمريكان هم من سيشغل البطاريات، ولا الاتحاد الأوروبي كان متحمساً لمغامرته في إدلب، بل استاء من محاولة ابتزاز إردوغان للأوروبيين بإستخدام ملف اللاجئين، والتي تعكس ضعفاً وليس قوة.
كما أن الكرملين أرسل كثيرا من الرسائل المشفرة إلى أنقرة قبل القمة حيث عزز الجيش الروسي، قواته في البحر المتوسط مقابل السواحل السورية، وأرسل عبر مضيق البوسفور الفرقاطة “الأدميرال غريغوروفيتش” و”الفرقاطة ماكاروف”. وجاءت “الرسالة” من اسمي الفرقاطتين. فستيبان ماكاروف هو الأدميرال الذي وجه الضربة للبحرية العثمانية في الحرب الثنائية بين 1877 و1878. في حين أن إيفان غريغوروفيتش هو آخر وزير لبحرية الإمبراطورية الروسية، من عام 1911 إلى 1917، لدى قصفها السواحل التركية”.
محروماً من أوراق القوة، لم يكن أمام إردوغان من ممر للخروج من مأزقه سوى ذلك المؤدي إلى موسكو، مع محاولة تحصيل ما أمكن من مكاسب عبر وضع ثقله العسكري في الميدان عشية لقائه مع بوتين. مع “اتفاق موسكو”، تدخل العلاقات التركية مع روسيا وسوريا وإيران مرحلة جديدة من التعقيدات غير الواضحة والمراوحة، في انتظار أول تعثر يعيد الكلمة الأخيرة إلى الميدان.
الغام
نشرت مصادر صحفية في لندن ما رأت أنه ألغام تحيط بالاتفاق التركي الروسي يمكن أن تنفجر في مرحلة لاحقة أشارت فيه:
1- تضمنت مقدمته “إعادة التأكيد على التزامهما القوي بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية”، ما يعني أن “شرعنة” الوجود التركي ستبقى محل تساؤل في موسكو ودمشق، وهي خاضعة للمقايضات السياسية الكبرى بين روسيا وتركيا. وكان لافتا أن الاتفاق لم يتضمن القول إنه “مؤقت” كما هو الحال في اتفاق سوتشي.
2- تضمن “تأكيد تصميمهما على مكافحة جميع أشكال الإرهاب، والقضاء على جميع الجماعات الإرهابية في سوريا على النحو الذي حدده مجلس الأمن الدولي مع الاتفاق على أن استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة”. يعني هذا أن لدى موسكو ودمشق “المبررات لاستئناف محاربة المتطرفين”. يعني أيضا أن لأنقرة ذخيرة تفاوضية بـ”ضرورة عدم استهداف المدنيين أو البنية التحتية تحت أي ذريعة”.
3- لم يتضمن الاتفاق أي إشارة إلى آلية رقابة على وقف النار وتنفيذ الخطوات اللاحقة، وترك ذلك إلى تقدير الجانبين الروسي والتركي من دون انخراط دمشق أو فصائل المعارضة.
4- إقامة “منطقة عازلة” على جانبي طريق حلب اللاذقية تشبه تحدي إقامة “منطقة عازلة” بين قوات الحكومة والفصائل المسلحة بعمق 20 كلم بموجب اتفاق سوتشي، الأمر الذي لم يتحقق. كما لم تنجز مهمة تسيير دوريات مشتركة أو “متزامنة”.
5- تضمن عدداً من “النقاط الغامضة” ومسائل يصعب التعامل معها، خصوصاً بشأن الانسحاب من الطريق الدوليين وترتيبات ذلك.
6- أعطى الاتفاق تركيا “حق الرد على أي هجمات من الجيش السوري” بالقدر نفسه الذي أعطاه لدمشق لـ”محاربة الإرهاب والرد على أي استفزازات”، ما يترك وقف النار عرضة لاختبارات عدة. ويلفت خبراء إلى أن هذا الوضع ليس مثبتاً بالنص في الاتفاق، لكنه يعكس مجدداً أن ثمة اتفاقات ضمنية بين الطرفين، جزء كبير منها قد يكون خاضعاً لتأويل كل طرف للاتفاق.
7- العقدة الرئيسية مرة ثانية، هي أن تفسير أنقرة لهذا الاتفاق يختلف عن تفسير موسكو ودمشق. الأولى، تريده بوابة لإقامة مديدة في شمال سوريا. بوتين يريده محطة للإبقاء على تركيا في الحضن الروسي واحتمال فتح أقنية بين دمشق وأنقرة. أما دمشق، فإنها تعتبره “استراحة قبل استئناف المعركة لاستعادة إدلب قبل التوجه شرقا لاستعادة جميع الأراضي”.
الدور الأمريكي الإسرائيلي
تفيد مصادر رصد في العاصمة الألمانية برلين أن تقارير للأجهزة الألمانية التي تتابع الأحداث على طول الجبهة الأوروبية الجنوبية المتوسطية، اشارت أنه منذ منتصف شهر أكتوبر 2019 كثفت الأجهزة الأمريكية والتركية بالتعاون مع إسرائيل وأطراف خليجية عمليات تسليح تنظيمات كجبهة النصرة وأحرار الشام في جيب إدلب بمعدات ثقيلة كالدبابات والسيارات المصفحة والمقذوفات المضادة للمدرعات والصواريخ التي تطلق من مركبات أو من الكتف على الطائرات. وقد تم جلب جزء من تلك الأسلحة من اوكرانيا وبعض دول جنوب آسيا وكذلك بعض الأسلحة الإسرائيلية والمعدات التركية. وقدرت مصادر فرنسية وألمانية تكلفة تلك المعدات وحتى منتصف شهر يناير 2020 بأكثر من 230 مليون دولار، في نفس الوقت شرع في تطبيق تنسيق كامل بين القيادة العسكرية التركية ومثيلتها في تل أبيب حيث سجل تنسيق عملي بين غارات الطيران الإسرائيلي على المواقع السورية المختلفة مع هجمات القوات التركية على القوات السورية في منطقة إدلب وذلك إضافة إلى تبادل المعلومات الاستخبارية.
كتب المحلل الروسي رسلان ماميدوف يوم 4 مارس 2020، في “أوراسيا إكسبرت”، حول الدور الأمريكي والإسرائيلي في التصعيد التركي في إدلب السورية.
أظهر التصعيد الأخير للصراع في إدلب انقساما واضحا في المصالح بالمنطقة، حيث واجهت القوات الحكومية السورية المدعومة من روسيا وإيران نيران الجيش التركي، الذي دعمت عملياته الولايات المتحدة. جعل الاهتمام الأمريكي بالنفط السوري والعلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران سوريا إحدى حلبات المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران.
تشكل إمدادات النفط أحد العناصر الرئيسية في مساعدة إيران لسوريا، لأن الحكومة السورية لا تملك القدرة على استخراج نفطها ومعالجته. وتواجه مساعدة طهران العسكرية للحكومة السورية أيضا مشاكل بسبب الانخفاض العام في دخل إيران، ما ينعكس على تمويل السياسة الخارجية الإيرانية.
وفي ظروف الهجمات الإسرائيلية المستمرة على أهداف إيرانية وفلسطينية في سوريا والتدخل التركي في إدلب، لا يبقى أمام إيران سوى خيارات قليلة. وهكذا، ففي الوقت الحالي، يمكن النظر إلى السياسة الإيرانية في سوريا في سياق ضعف مواقعها والانسحاب من دور اللاعب الرئيس في هذا الصراع. وهذا يخلق مجالا للمناورة أمام اللاعبين الآخرين ويتوافق مع الرغبة الأمريكية في الحد من نفوذ إيران في سوريا.
إلى ذلك، ففي وقت سابق، تم، بفضل اتفاق في جنوب غرب سوريا، إبعاد القوات الموالية لإيران عن الحدود مع إسرائيل. ولكن، مع ذلك، لم تنعم هذه المنطقة بالاستقرار.
ستظل منطقة الشرق الأوسط تعاني من المواجهة الأمريكية الإيرانية، مع وضوح رغبة دول الخليج في الحيلولة دون انزلاق الموقف إلى الهاوية، خشية انهيار اقتصاداتها، بل وانهيارها هي نفسها.
عادت الولايات المتحدة وإيران، بعد تصعيد يناير 2019، إلى الوضع السابق، الذي من المرجح أن يستمر حتى الانتخابات الأمريكية. ولكن، تبقى قائمة إمكانية حدوث هجمات غير متوقعة من الجانبين، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات. هذا الموقف، يفترض الحفاظ على السياسة الأمريكية المتمثلة في “أقصى درجات الضغط”، وعلى سياسة دعم إيران لـ “محور المقاومة”، المتحالف مع طهران والدول والجماعات المناهضة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
الرابح والخاسر
في موسكو كتب ألكسندر خارالوجني بصحيفة فوييني أوبوزرين يوم 6 مارس 2020:
التقى رئيسا روسيا وتركيا في موسكو. واستنادا إلى البيانات التي أدليا بها في نهاية القمة، تمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاقات محددة. ومع ذلك، فالسؤال عما ينتظر إدلب “سلام دائم أو هدنة هشة” يبقى مفتوحا.
في الواقع، يتضح أن تركيا، لم تكسب “الجولة” التي استمرت ست ساعات. وأما ما له دلالة كبرى فهو أن خطاب أردوغان المتعجرف والناري، الذي طالب روسيا “بالابتعاد عن طريقه في سوريا” وتوعد “بانتقام رهيب” في إدلب، سرعان ما حلت محله في موسكو تأكيدات بأن العلاقات بين البلدين الآن “في الذروة”، وأن الرئيس التركي يرى مهمته الرئيسية الآن حصرا في تطوير هذه العلاقات.
ولعل السبب في ذلك هو أن الدولتين جاءتا إلى مفاوضات بمواقف مختلفة، وأن روسيا، وفقا لمحللين عسكريين، ضاعفت عشية اللقاء بشدة وجودها في سوريا سواء عبر تحريك السفن الحربية إلى هناك، أم بمساعدة “الجسر الجوي” فيما أنقرة كانت في ذلك الوقت منخرطة في “مسلسل كوابيس” مع الاتحاد الأوروبي، ناجم عن فتح الحدود أمام مجموعات جديدة من اللاجئين الذين يسعون إلى هناك. فما الذي حصلت عليه؟ توبيخ من بروكسل وباريس وبرلين ووعود غامضة بـ “الدعم” من واشنطن، التي ألمحت سابقا إلى أنها لن تدعم أنقرة عسكريا.
ومن هنا النتائج. فمن الواضح أن أي حديث لم يعد يدور عن انسحاب القوات الروسية أو “تراجع قوات دمشق إلى مواقع العام 2018″، وكذلك مطلب إنشاء منطقة حظر طيران فوق إدلب للجميع باستثناء الطائرات المسيرة التركية. لقد تم الاتفاق على شروط موسكو.
ومهما يكن الأمر، فقد تم القيام بالخطوة الأولى لحل النزاع الذي كاد يخرج عن نطاق السيطرة.
النزول عن الشجرة
كتب المحلل ايليا ج. مغناير يوم 7 مارس :
وافق الرئيس فلاديمير بوتين على مقابلة نظيره التركي رجب طيب أردوغان الذي أصرّ وحضر إلى موسكو سعيا إلى وقف إطلاق النار الذي لم يستطع إعلانه من جانب واحد في ساحة المعركة حيث فَقَدَ زخمه بعدما كان قد دفع بآلاف الجنود الأتراك على خط المواجهة ضد الجيش السوري وحلفائه لأن عشرات الآلاف من الجهاديين المنتشرين في إدلب ومحيطها أثبتوا عدم تمكنهم من الدفاع عن المصالح التركية في شمال غرب سوريا. وقد خرج أردوغان من المفاوضات التي إستغرقت 6 ساعات فائزاً في بعض الجوانب ولكن بجناحين مخفوضين إذ أظهر بوتين بمهارة للرئيس التركي ضعف قضيته التي جاء من أجلها وأن سوريا ستبقى موحدة بإعتراف الطرفين.
وذكر مصدر مطلع مؤيد لسوريا إن “أردوغان أوقف إطلاق النار في إدلب ولكنه لم يتجرأ على إعلانه لأن ذلك كان سيكلفه غالياً داخلياً. فهو خسر الحرب عندما فشل في إستعادة سراقب والطريق البالغ طوله نحو 70 – 80 كيلومتراً الذي يربط بين دمشق وحلب المعروف بإسم أم 5. وهو أراد من بوتين أن يمد له السلّم لإنزاله عن الشجرة التي صعد اليها. وفهِم بوتين مراد أردوغان فأنقذ شريكه التجاري من الانكسار”.
وبمجرد موافقة أردوغان على إتفاقية أستانة فقد إعترف بالدور الإيراني الذي سينضم قريباً إلى قمة ثلاثية في محاولة لحلّ نقاط الإختلاف التي بقيت فيما يتعلق بالمنطقة العازلة في المحافظة الكردية وبالأخص في عين العرب “كوباني”. وتم تفكيك حجة أردوغان حول اللاجئين الذين يتدفّقون إلى بلاده لأن بوتين يدرك، وهو جابه ضيفه بأنه يقوم بنقلٍ منظّم للأفغان والصوماليين والعراقيين السوريين وغيرهم إلى الحدود مع اليونان للضغط على أوروبا وسحب المال منها.
ولم يسمح بوتين لضيفه بالمناورة حول طريقي أم 5 وام 4 اللذين كان من المفروض إخلاءهما من المسلحين بحسب إتفاق أستانة. وحرر الجيش السوري 210 قرية ومدينة بالقوة. وإتفق أردوغان مع بوتين على فتح ام 4 الذي يسيطر عليه الجهاديون وهذا إنتصار كبير للجيش السوري على الرغم من الشكوك الجدية بأن الجهاديين لن يسمحوا بتأمين الطريق للمدنيين والذي ستبدأ الدوريات الروسية التركية بمهماتها عليه بعد الخامس عشر من شهر مارس.
ووفق للمصدر المطلع، فإذا فشلت تركيا بفتح طريق ام 4 وإحترام الإتفاق، فإن روسيا لن تتردد مع حلفائها بإعادة السيطرة عليه بالقوة ولكن هذه المرة من دون تدخل الجيش التركي. وقد حاولت أنقرة وقف التقدم السوري بكل قوتها من دون أن تنجح بذلك. وحضر أردوغان إلى موسكو لأنه أراد وقف المعركة والخسائر التركية وتفادي كسر هيبته بالكامل في سوريا. واليوم لم يعد بإمكانه الرفض بعد معركة إدلب وسراقب القاسية. وقد أخبره بوتين أن جنوده الـ 33 تواجدوا مع جهاديين ولم يبلغ الروس بذلك بحسب الإتفاق العسكري بين الطرفين. وتالياً لم يستطع الرئيس التركي الرد على نظيره الروسي الذي جعل من اردوغان المسؤول المباشر عن قتل الجنود الأتراك، في حين أن أردوغان حاول إتهام الجيش السوري بذلك لتجنب المساءلة المحلية. وكذلك أجبر بوتين نظيره التركي على الإعتراف بعدم نجاحه في الوفاء بوعده بفصل الجهاديين عن المعارضة وهو ما شكل فشلاً واضحاً في إحترام إتفاق أستانا.
هل ستنجح تركيا بفصل الجهاديين عن الآخَرين؟ وهل ستفتح طريق ام 4؟. لم يعد مهماً بحسب قراءة ساندي سوريا الإلتزام التركي من عدمه. فإذا فشلت أنقرة في ذلك فإن روسيا ستفتح الطريق بالقوة النارية وتستأنف العمليات العسكرية وتندفع نحو مدينة إدلب. ولن يكون أردوغان في وضع يسمح له بالتدخل لمصلحة الجهاديين ولن يضع جيشه تحت رحمة القصف الروسي السوري. ووفق القراءة نفسها، فقد إرتكب أردوغان خطأ حياته من خلال الدخول إلى أرض المعركة بجشيه، فهو سمح للجيش السوري بقصف المواقع التركية وتدمير الطائرات المسيرة. وغنم الجيش السوري آليات تركية وقتل ضباطاً وجنوداً أتراك وكسر الخطوط الحمر.
وتالياً أصبح سهلاً على الجيش السوري مواجهة الجيش التركي مرة أخرى. أما النقطة المهمة، فأن الجهاديين أدركوا أن تركيا لم تعد في وضع يسمح لها بالدفاع عنهم أو عن قضيتهم. ولم يتبق أمامهم سوى خيارات قليلة: القتال حتى الموت أو المغادرة إلى الشمال الشرقي حيث لا تزال تركيا تسيطر على أراض سورية. وفيما يتعلق بنقاط المراقبة التركية الـ 14 الواقعة في المناطق السورية المحرَرة فإنها ستظل قائمة طالما رغب أردوغان، وبذلك سمح بوتين بتجنب إظهار الرئيس التركي منكسراً لأن روسيا تريد الإبقاء على مستوى التعاون التجاري والعلاقة الطويلة الأمد مع تركيا. وكشف المصدر المطلع أن بوتين أدرك أن حلف الناتو والمجتمع الأوروبي تخلوا عن تركيا، فحفِظ ماء وجه ضيفه الذي لم يتردد بطلب المزيد من التنازلات في شمال شرق سوريا حيث تتواجد أمريكا حول مناطق النفط وتسلبه من سوريا.
إلا أن طلب أردوغان رُفض لأن بوتين أراد ترك الباب مفتوحاً لعودة الإبن الضال الكردي إلى حضن الدولة السورية. ويدرك الرئيس الروسي أن أمريكا لن تستطيع البقاء إلى الأبد في سوريا تأخذ نفطها، ولذلك أجبر اردوغان على الإعتراف بوحدة الأراضي السورية، كل الأراضي. ويبدو أن ملف مشاركة الأكراد في إجتماع اللجنة الدستورية تقدم بعدما كان الرئيس التركي يرفض مشاركتهم. فهدف بوتين مساعدة الأكراد للعودة إلى كنف الدولة السورية والإبتعاد عن أمريكا التي ستغادر سوريا عاجلاً أم آجلاً.
قدم بوتين القوي يدَه إلى أردوغان الضعيف الذي حاول اللعب في ملعب الكرملين. ويدرك الرئيس الروسي أنه يفترض أن يأخذ الحذر بتعامله مع وعود أردوغان. إلا أن تركيا تدرك أيضاً أن روسيا ستضرب بشدة في المرة المقبلة إذا إنتهك إتفاق أستانا وأن حلفاء بوتين في سوريا سيكونون أكثر يقظة في أي مواجهة مستقبلية ضد الجيش التركي. لكن هناك شيئاً واحداً أكيداً وفق المصدر نفسه وهو أن الجهاديين فقدوا أباً في سوريا ولم يعد بإمكان أردوغان تقديم الحماية لهم لأنه يتطلع إلى الخروج من المأزق بأقل عدد ممكن من الكدمات “لقد كان أردوغان رأس الحربة لقلب النظام منذ بداية الحرب، وحان وقت الإستدارة”.