شهاب المكاحلة
ذهب الأميركيون في 6 تشرين الثاني 2018 إلى مراكز الاقتراع لانتخابات التجديد النصفي الأميركية التي حدَدت أداء الرئيس الأميركي دونالد ترمب والتي أعطت مؤشراً لدى الأميركيين عن مدى رضاهم عن سلوكه الرئاسي وإدارته لدفة الولايات المتحدة بعقلية الـ»بيزنس مان»، ما عده البعض ضربة قوية لنوايا ومشاريع ترمب واليمين المتطرف.
فوز الديمقراطيين بالأغلبية في مجلس النواب كان متوقعاً في ظل انتقادات حادة لترمب خلال العامين الماضيين. لكن الانتصار هذه المرة هو الأول منذ 8 سنوات وهذا يُمثل بالنسبة للشارع الأميركي استفتاءً مُبكراً على أداء الرئيس وإدارته لشؤون الدولة الداخلية والخارجية.
يمكن القول أن الانتخابات أسفرت عن نتائج متباينة للكونجرس بشقيه النواب والشيوخ، مع سيطرة الحزب الديمقراطي على مجلس النواب، في حين كانت الأفضلية للحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ هذا يمثل بحد ذاته انقساماً في الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدى الشعب الأميركي كما أن ذلك يمثل صِداماً مُبكراً بين الحزبين قُبيل الانتخابات الرئاسية في العام 2020.
فعلى الرغم من أن الديمقراطيين فازوا بمجلس النواب واستعاد الجمهوريون سيطرتهم على مجلس الشيوخ إلا أن الكثير من دول العالم عاشت لحظات من التفاؤل وأخرى من التشاؤم عقب إعلان النتائج منها دول عربية وأجنبية. فما الذي يعنيه هذا الفوز لكلا الحزبين؟ وكيف سيتمكن الرئيس الأميركي من مجابهة سيلٍ من الضغط السياسي في القادم من الأيام في قضايا شرق أوسطية وعالمية ذات تعقيد كبير لان النتائج حتماً ستؤثر على السياسة الخارجية الأميركية ومفاوضاتها مع دول مثل إيران وكوريا الشمالية وروسيا والصين.
فمن الناحية التاريخية، عندما يواجه الرؤساء الأميركيون خسائر على مستوى شعبيتهم المحلية، فإنهم يلجأون للخارج للمساعدة في رأب الصدع عن طريق التمويل الخارجي لبعض المشاريع تماماً كما فعلت الصين في شراء أذونات حكومية أميركية للحصول على مكاسب في التبادل التجاري مع واشنطن وكما فعلتْ عدد من الدول الغنية بالطاقة الهيدروكربونية عبر صفقات السلاح والاستثمار في عدة قطاعات لتوظيف أكبر عدد من الأميركيين وإيجاد فرص عمل لهم.
وهنا لا بد من استذكار أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تواصل دوماً اللجوء للخارج للخروج من عُنق الزجاجة إما عبر الحصول على استثمارات أجنبية أو عن طريق إنهاء اتفاقيات ما بينها وبين دول أخرى وغيرها من الوسائل والأساليب لممارسة المزيد من الضغط على المجتمع الدولي والدول التي لا تدور في فلك الولايات المتحدة. وما قامت به إدارة الرئيس بوش الابن بعد شهرين من هزيمة الجمهوريين في انتخابات منتصف العام 2006 لخير دليل على ذلك إذ قامت إدارته بسنِ زيادة عديد القوات الأميركية في العراق. كما بدأت عملية التفاوض مع طهران–وهي خطوة أدت إلى تخطيط سيناريو الحرب في عهد الرئيس باراك أوباما، تلاها اتفاق (P5+1) الذي تمَ العُدول عنه من قبل الرئيس ترمب. وفي أعقاب انتخابات التجديد النصفي الأميركية في العام 2010، بدأت إدارة أوباما تدخلها في ليبيا، تحت مظلة الـ»ناتو» في وقت تقوم به إدارة ترمب بتنظيف بقايا تلك العملية والرجوع بعقارب الساعة إلى ما قبل ثورات»الربيع العربي»التي أطاحت بعدد من الأنظمة العربية وكان بعضها على وفاق مع واشنطن.
تحديات تواجه ترمب في المستقبل المنظور
تواجه إدارة ترمب عدداً من التحديات لسياساتها في الشرق الأوسط. فعلى خلاف كل من الرئيسيْن أوباما وبوش الابن، سيواجه ترمب خلال العامين المقبلين ضغوطاً استثنائية من أعضاء مجلس النواب–وربما مجلس الشيوخ–للتراجع عن عدد من المخططات السياسية الخارجية في الشرق الأوسط. وستكون هناك الكثير من الأصوات ضد ما يقوم به حالياً وهذا يعني معركة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
فمن المحتمل أن يكون هناك تسارع في مجرى الأحداث السياسية في الإدارة الأميركية فيما يتعلق بالشرق الأوسط، كما أن عامل الوقت يلعب دوراً مُهماً بالنسبة له وبالنسبة لحكومات كثيرة في الشرق الأوسط التي باتت تترقب ما ستسفر عنه هذه التغييرات على السياسة العامة لواشنطن والشرق الأوسط نظراً لأن ترمب قد رسم تحالفات أوسطية جمعت إسرائيل إلى جانب عدد من الدول العربية ضد إيران تمهيداً لتحالف ضد المدَ الشيعي.
هل سيقود ذلك نحو تحركات محتملة في الكونجرس لإقالة الرئيس أو إعلان عدم أهليته مُدعما ذلك بنتائج تحقيق المحقق الخاص روبرت مولير في التدخل الروسي في انتخابات 2016 والتي اطاحبت بمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون؟ يبدو أن القادم من الأيام سيكون له تأثير على ما يحدث في الشرق الاوسط وخصوصاً الصراع مع إيران التي يريد ترمب الخروج من الاتفاق بأكبر صفقات ممكنة مع الدول الخليجية وتنازلات سياسية واقتصادية إيرانية تسهم في دعم الاقتصاد الأميركي الذي وصلتْ ديونه من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات قياسية مقارنة بالأعوام السابقة.
قد يلجأ الديمقراطيون إلى فتح ملف التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية للعام 2016 ما سيزيد من نفوذ المحقق الخاص في تلك القضية وهذا سيشكل عقبة في علاقة ترمب مع الكرملين فيما بعد بل وعقبة في طريق تحسين العلاقات بين واشنطن وموسكو أو حتى في أية محاولة للتقارب مع موسكو في قضايا عالمية منها قضايا الشرق الأوسط.
هل سيعمل الديمقراطيون على عزل الرئيس؟
مسألة عزل الرئيس الأميركي ليست بالحسبان الآن لأن عزله ليس في صالح الديمقراطيين الذي يريدون الإيقاع بالحزب الجمهوري وليس فقط بشخص الرئيس ترمب وإدارته. كما أن الإنجازات الاقتصادية التي حققها الرئيس خلال عامين من رئاسته للبلاد من خلق فرص وظيفية لملايين الأميركيين قد توصله إلى إنهاء مدة ولايته ما لم تكشف تحقيقات موليرعن فضائح كبيرة تطال ترمب وأسرته وهذا فقط ما قد يساهم في الدفع باتجاه عزل الرئيس علماً بأن ترمب مرشح لولاية جديدة في حال أكمل ولايته الأولى. اليوم، المعركة بين الديمقراطيين والرئيس المثير للجدل هي كسر عظم على حد وصف بعض الحف الأميركية فكل طرف فيها يريد الأيقاع بالآخر ولكن بالنقاط لا بالضربات القاضية.
علاقة واشنطن بحلفائها العرب
من المُرجح أن يضغط الديمقراطيون في مجلس النواب على الرئيس ترمب وإدارته لإعادة النظر في علاقات واشنطن بالرياض وغيرها من العواصم العربية. كما أن ذلك سيدفع الولايات المتحدة أيضاً إلى إعادة النظر في عدد من الصراعات في الشرق الأوسط كالصراع في سوريا واليمن والموقف من الاتفاق النووي مع إيران بشروط مختلفة بعيداً عن التشدد الذي يدعو إليه ترمب في ظل تسريب للمعلومات بأن واشنطن ستنسحب من سوريا قريباً وتترك الميدان لروسيا وحدها لتدير الصراع العسكري وتحسم الأمور سياسياً مقابل إبعاد إيران عن ساح المعركة في سوريا.
كل ذلك سيكون تحت مجهر الكونجرس. ويمكن ملاحظة تلك البوادر قُبيل انتخابات التجديد النصفي بقليل بعدد من الدعوات لحل الصراع الرباعي مع قطر ( المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة ومصر ومملكة البحرين) وتشكيل تحالف شرق أوسطي استراتيجي (Middle East Strategic Alliance) لتعزيز الاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، سيبقى الشغل الشاغل للإدارة الأميركية مكافحة الإرهاب والتطرف أينما وُجد، وهذا ما سيحدد أيضاً علاقة واشنطن بشركائها في الشرق الأوسط. لذلك سيتم مراجعة فرض بعض القيود على السياسة الاميركية الخارجية مع عدد من الدول منها السعودية عقب قضية مقتل جمال خاشقجي كما سيؤثر ذلك على مدى تعاون واشنطن مع الرياض في حرب اليمن.
خطة السلام للشرق الأوسط وصفقة القرن
من المُرجح أن تُسرِع الإدارة الحالية من الجدول الزمني لخطة السلام الفلسطينية -الإسرائيلية. إن الجدول الزمني قيد التنفيذ، ولعل زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لعُمان تأتي في هذا الصدد في محاولة للسعي إلى حل وسط. وهنا تكمن إمكانية إدارة ترمب الحالية في ظل الضغوطات النيابية على نهجه في تسريع التوصُل إلى حل للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي أو فرملة الحوار وإطالة أمد الأزمة بعد أن تحصُل تل أبيب على كافة التنازلات عربياً ومنها التطبيع العلني وغيره إذ ما عاد خافياً على أحد أنَ إسرائيل باتت ترسم حدودها خارج الأراضي الحالية التي تُسيطر عليها عبر مشاريع منها سكك الحديد والطرق السريعة والتي تقول تل أبيب أنها ستوفر التمويل اللازم لها عن طريق البنك الدولي والصناديق الأجنبية والمِنح من الدول الكبرى.
وبناء عليه فإن ترمب قد يضطر في ظل الضغط النيابي عليه إلى الإفصاح عن ماهيِة صفقة القرن في ظل تأكيدات رئاسية أنه يسعى إلى جلب الإسرائيليين والفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات من جديد. ومع ذلك، يبدو أن أي استئناف للمحادثات سيترتب عليه تحدي إسرائيل التي تسعى دوماً إلى تأجيل البتِ في الصراع ومستقبل الدولة الفلسطينية لأنها تُراهن على عامل الزمن لمحو الهوية الفلسطينية عبر الترانسفير والوطن البديل وتطبيع الدول العربية قبيل التفكير حتى في إيجاد حل للقضية الفلسطينية.
علاقة واشنطن بطهران
قد يستفيد ترمب فعلاً من تشكيلة الكونجرس الجديدة بحُلتها الديمقراطية والتي قد تساعده في الخروج من المأزق الذي تسبَب به حين أعلن خروج بلاده من الاتفاق النووي مع إيران ما يعني تخفيفاً تدريجياً للعقوبات المفروضة على طهران. لذلك ستكون قدرة الولايات المتحدة في زيادة الضغط على إيران وعلى دول أخرى مثل كوريا الشمالية وغيرها من الدول التي تتعامل مع طهران وبيونج يانج جديرة بالاهتمام. ومن الممكن أن يبقي الرئيس على موقفه من إيران في ظل ضغطٍ نيابي للمرونة في التعامل مع الملف النووي والحظر الاقتصادي عليها خصوصاً في ظل تهديات صينية وروسية وهندية بأنها ستتدخل لحماية مصالحها في إيران.
الصراع السوري ومآلاته
في الوقت الحالي، ترى إدارة الرئيس الأميركي أن على الحكومات الشرق أوسطية ومنها تركيا والدول العربية وخاصة الخليجية أن تتحمل تبعات الصراع السوري وأن تساهم في حلِ الحرب الدائرة هناك منذ العام 2011. ما سيدعم ذلك هو الأعضاء الجدد في مجلس النواب الأميركي الذين يؤيدون في الغالب حِياد الولايات المتحدة وعدم تدخلها في الصراع وتوكيل الآخرين في إدارة الصراع ومنهم روسيا. وهنا نعود إلى التقارب الروسي الأميركي في عدد من القضايا العالمية من جديد ولكن هناك توجه سياسي جديد في واشنطن يسعى إلى إعادة توتير العلاقات البينية بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي على اعتبار أن روسيا ما هي إلا وريث الاتحاد السوفيتي وبعد انهياره بات العالم محكوماً لعقود من دولة عظمى واحدة. وهنا يضغط أنصار هذا التيار على الرئيس وإدارته من أجل المُضي قدماً في ممارسة الضغوطات على روسيا من منظور أنها أقل قوة من الولايات المتحدة وأنها ليست سوى قوة أقليمية ينبغي التعامل معها على هذا الأساس.
باختصار، فإن انتخابات التجديد النصفي لها تأثير لا يمكن إنكاره على السياسة الخارجية وقد لا يفضي ذلك إلى تغيير دراماتيكي وسريع لكنه سيكون ملحوظاً لأن ترمب يؤمن في ظل سيطرة الديمقراطييين على المجلس بالبراغماتية التكتيكية لا الاستراتيجية الغوغائية.
متى سنشهد تلك التغييرات؟
ومن المُرجح أن يبدأ الكونجرس بِحُلته الجديدة في يناير 2019 بالتحقيق في إدارة ترمب الداخلية والخارجية للبلاد ومن المعروف أن ذلك سيأخذ وقتاً كبيراً لكن سيكون لذلك تداعيات كبيرة عالمياً. ومن المحتمل أن يكون لانتخابات التجديد النصفي الأميركية تأثيرات متعددة على سياستها تجاه آسيا. فمع سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب، سيتولى ممثل نيويورك إليوت إينجل رئاسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب. ومن المتوقع أن يكون لدى إينجل والديمقراطيين الآخرين في اللجنة عدة أولويات من مثل إعادة إطلاق التشريعات التي من شأنها تعزيز العقوبات على أي جهة لا تتماشى مع السياسة الأميركية خصوصاً الصين.
ويبدو أن الديمقراطيين يسيرون نحو الدفع إلى نهج أكثر صرامة تجاه الرياض في أعقاب مقتل خاشقجي التي قد تؤثر أو تُعرقل إلى حد كبير مبيعات الأسلحة الأميركية إلى السعودية–وهي خطوة من شأنها أن تحظى بدعم بعض الجمهوريين المؤثرين أيضاً – والضغط على كل من الرياض وأبوظبي لوقف الحرب في اليمن.
بالإضافة إلى ذلك، ستكون من ضمن الأولويات الرئيسة للديمقراطيين محاولة الحفاظ على عمل وزارة الخارجية كمؤسسة حيوية. ومن المتوقع أن تزيد لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب بقيادة الديمقراطيين من الاهتمام بحقوق الإنسان على مستوى العالم–في وقت تخلت فيه إدارة ترمب بشكل كبير عن التركيز على انتهاكات حقوق الإنسان والدفع نحو تعزيز الديمقراطية. وقد يحاول الديموقراطيون إصدار تشريع أكثر صرامة حول ميانمار في مجلس النواب، وبالتالي تمكين زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل من ترسيخ نهج أكثر صرامة تجاه ميانمار.
وفي الوقت نفسه، وعلى صعيد تغير المناخ، قالت رئيسة مجلس النواب المرتقبة نانسي بيلوسي بالفعل إن الديمقراطيين «سيحيون لجنة تركز على تغير المناخ مماثلة لتلك التي موّلها الديمقراطيون من عام 2007 إلى أوائل 2011» لسنِ تشريعات لتخفيف حدة تغير المناخ. كما سيدفع الديمقراطيون بشكل خاص لتسليط الضوء على تغير المناخ وعواقبه الخطيرة المُحتملة للهجرة والأمن والتجارة في آسيا.
ومن المُرجح أن يدفع الديمقراطيون البيت الأبيض إلى توضيح آلية تطوير استراتيجيتها التجارية في آسيا التي يبدو أنها تعتمد حالياً على دفع الصفقات الثنائية مع الدول بما فيها اليابان والفلبين وفيتنام. ومن بين هذه الدول الثلاثة، يبدو أنَ طوكيو فقط مهتمة بشكل كبير بالمضي قدما في صفقات، على الرغم من أنَ هانوي ومانيلا منفتحان على ما يبدو لإجراء محادثات استكشافية. ومن المُرجح أن يسعى الديمقراطيون في مجلس النواب إلى الضغط على البيت الأبيض للتوضيح بشكل لا لُبس فيه ما إذا كانت أية اتفاقيات ثنائية جديدة ستعتمد على نموذج الاتفاق المُعدل بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.
وفي الختام، هناك من يقول بأن الديمقراطيين لن يتمكنوا من إحداث تغيير ملموس في المسار السياسي لإدارة ترمب الخارجية حتى مع فوز الديمقراطيين بالأغلبية في مجلس النواب؛ غير أنَ البعض يرى أنه بإمكان الحزب الديمقراطي البدء بالتغيير وفرملة سياسات وقرارات ترمب ما سينعكس على المجتمع الأميركي اقتصادياً وسياسياً. لذلك، فإن الانتخابات الأميركية تشغلُ العالم لأنها تؤثرعلى نهج البيت الأبيض وسيِده كما تؤثرعلى خيارات واشنطن في القضايا العالمية التي من المُتوقع أن تتغير ولكن بشكل بطئ. ألا إنَ غداً لناظره قريب.