ًصادق النابلسي
لم يتسنَ للعلاقة بين الرياض وطهران أن تستوي على غايات مشتركة ومنافع متبادلة، ولم تستطع التكيّف مع التحولات العميقة التي شهدها العالم ودفعت دولاً من الشرق والغرب لمواجهة أزماتها بالحوار والتعاون واختبار بدائل جديدة للحفاظ على وجودها ودورها.

العلاقة هنا أبعد من وصفها مشروعاً غير تام، وسيرورة لم تنضج بعد، وحكمة لا تصدر عن جهتين بالقدر ذاته، ومعايير غير موحدة، أو إجراءات متخلّفة ، حتى يمكن إتمامها أو إنضاجها أو تعديلها وتصحيح الموقف والمقاربات حول مسائلها وقيمها. فالإشكالات في النشأة التاريخية، والموروث العقدي، والتباين الثقافي، والتناقض الحاد في التوجهات السياسية، أمارة على الصعوبات الحتمية التي تواجه العلاقة في محتواها وأساسات بنائها ومناهج فعلها.

خلال العقود الماضية وحتى هذه اللحظة تبتني كل الجدالات الفكرية والدراسات البحثية على أساس فرضيات تجتهد في إبراز الجانب الحواري والتعاوني في عملية تصحيح العلاقة بين الرياض وطهران. وقد يكون الإيرانيون أكثر من وقع في فخ المقاربة المثالية وكانوا حريصين على الدفاع عن منهجية تستحضر مفاهيم ومفردات كالأخوة الدينية، ودول الجوار، وأمن المنطقة، وشراكة إقليمية، وتعزيز الاستقرار، وتطوير العلاقات، والتكامل الاقتصادي، والتنمية، وتطلعات الشعوب، والسلام، بل ومدفوعين برغبة عارمة إلى بناء أنساق وإنشاء آليات يمكنها أن تنزع عن البلدين ذلك الغطاء القديم، ومؤمنين بصدق أنّ طريق الحوار سيفتح الباب واسعاً لتنظيم العلاقات وإزالة الحواجز النفسية والعراقيل التاريخية. الايرانيون وقفوا متسامحين بسذاجة، سواء على أساس دوافع دينية أخلاقية أو بمسالمة سياسية حالمة في ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات في المستقبل.

وحتى الواقعيون الإيرانيون بالغو في توقعاتهم من الحوار وأنّ المشكلات بين البلدين قابلة للحل من خلال “تدوير الزوايا” كما صرح وزير الخارجية محمد جواد ظريف في أكثر من مناسبة، واقتراحه “هندسة إقليمية جديدة تصبو الى تحقيق المصالح المشتركة”.  بل حتى لو قفز فوق كل عوامل الشقاق والفصام وأعلن أنّ بلاده “ستكون أول دولة تقف إلى جانب السعودية في حال تعرضها لأي عدوان خارجي”، فمن الخطأ الافتراض أنّ مثل هذه المواقف ستكون سجادة حمراء أو رأس جسر للعبور إلى صداقة مأمونة الجهة والنهايات!

إنّ كل الفرضيات سواء استندت إلى أفكار مثالية أو واقعية والتي يراد اختبار صحتها والرهان على نتائجها في تأسيس علاقات ذات آفاق جديدة يمكن الاستعانة بها لو تأكد أنّ السعودية دولة حرّة في اختيار مستوى تفاعلاتها مع طهران. فكيف يكون ذلك والسعودية لا تملك مصيرها ومواجهة قوى الإكراه الخارجية وقوى المنع الداخلية؟

عدم استقلال السعودية وتبعيتها للغرب عموماً وللولايات المتحدة الأمريكية على نحو صارم يجعل أي تبريد أو تسخين أو مساكنة أو أي مستوى من مستويات العلاقة محكوم لهذه التبعية وليس لاعتبارات أو مصالح دولة لها استقلاليتها الذاتية وقرارها الحر، وهذا السلوك السعودي يعتبر عاملاً مقيداً في جعل أي حوار منتجاً وأي تعاون ممكناً.

قد يظن البعض أنّ التغيير في أساليب إدارة الأزمة، السيطرة على الانفعالات وكيفية التفاعل مع المنافس أو الخصم، استيعاب وتفهم كل طرف لطموحات وأدوار الآخر، الانفتاح الإيجابي والانقياد إلى الموضوعية الصارمة في تحديد وحل المشاكل، السعي إلى إجراءات نظامية محكومة بقواعد المصلحة لكل طرف، وغيرها من الطروحات ستكون مقنعة ومشجعة على بناء الثقة بين البلدين وتأسيس علاقات في سياق عالم المصالح وبعيداً عن التراجيديا المتصاعدة !  لكن السعودية مع إيران لا تملك حرية المناقشات والتفاهمات البراغماتية، ولا تسير بدوافعها الخاصة إلى سياقات تسووية أو صيغ تعاونية. قد تجاهر أحياناً في دبلوماسيتها وعلى لسان مسؤوليها بمواقف قد تعكس رغبة واقعية توحي بتفاعلها مع حركة المتغيرات والتوازنات الإقليمية والدولية التي تستدعي شكلاً معيناً من التموضعات السياسية والأيديولوجية، ولكن هذا مجرد كلام لا فعليّة له أمام حقائق صراع أساسي متصاعد ومحموم. السعودية كيان متمحض بالتبعية القهرية لقوى الهيمنة الغربية التي كانت أساس شرعيتها وديمومتها. فهي مؤسَسَة بدهياً على انتمائها لهذه القوى والخروج على سياساتها ومرجعيتها وتوجّهاتها يساوي موتها .

إيران في سياساتها الحالية تفهم العلاقات مع المملكة السعودية انطلاقاً من المبادىء الإسلامية والقانون الدولي وفي إطار علمي واقعي تنافسي. وفي طهران نظام تشتمل افتراضاته على إمكانية التغلب على وضعية التعارض في المصالح والسياسات عبر شبكة أمان من الحوار والتعاون وامتلاك الشجاعة المعنوية لمقاومة التدخلات الخارجية. لكن الطرف المقابل ليس فقط غير جاهز للحوار وغير مستعد لاختبار معادلة الشراكة لارتباطه بأساطيل وأساطير الحماية الغربية، بل يساهم في نزع الشرعية عن السلام والأمن تماماً كما يقول المثل الروسي:” عندما يرسل الله الطحين يسحب الشيطان الكيس”!