الرئيسية / أخبار / كيف تُدار الحروب

كيف تُدار الحروب

إقالة رئيس وكالة استخبارات الدفاع الأميركية الجنرال جيفري كروس كشفت عن أزمة أعمق من مجرد خلاف حول تقييم ضربة عسكرية، وكيف يمكن للرواية السياسية أن تفرض نفسها على المؤسسات الأمنية، وتُعاد صياغة الوقائع وفقًا لمعادلات القوة، حتى لو كان الثمن هو رأس من يقودها.

الضربات الأميركية التي استهدفت ثلاثة مواقع نووية إيرانية في يونيو الماضي، وُصفت من قبل الرئيس دونالد ترامب بأنها “تدمير كامل،” و”رسالة ردع تاريخية.” لكن التقييم الأولي لوكالة استخبارات الدفاع، والذي أفاد بأن الضربات لم تؤدِ إلاّ إلى تأخير البرنامج النووي الإيراني لبضعة أشهر، كان كافيًا لإثارة غضب الرئيس، ودفعه إلى سلسلة إقالات طالت كبار الضباط، في مشهد يُعيد إلى الأذهان صراعات الرواية بين ما يُقال في الخطاب السياسي، وما يُكتب في التقارير الاستخباراتية.

الجنرال كروس، الذي شغل مناصب حساسة في الاستخبارات العسكرية، لم يكن مجرد موظف إداري، بل كان جزءًا من منظومة تحليل إستراتيجية تُفترض فيها الموضوعية والدقة، وسبق أن شغل منصب القائد العام لكل من قيادة أميركا الشمالية للدفاع الجوي (نوراد) والقيادة الشمالية للولايات المتحدة. كطيار مقاتل مخضرم، أمضى أكثر من 4200 ساعة طيران، كان مسؤولاً عن الدفاع عن المجال الجوي لأميركا الشمالية وحماية الأراضي الأميركية. إقالته، دون تفسير رسمي، تفتح الباب أمام تساؤلات حول مدى استقلالية المؤسسات الأمنية في ظل إدارة تُعيد تشكيل الجيش الأميركي وفقًا لرؤية سياسية صارمة، لا تتسامح مع التقديرات التي لا تتماشى مع سرديتها.

ولم تكن هذه الإقالة حدثًا معزولًا. فمنذ بداية ولاية ترامب الثانية في يناير، شهدت المؤسسة العسكرية الأميركية سلسلة تغييرات غير مسبوقة، شملت رئيس هيئة الأركان المشتركة، وقادة البحرية وخفر السواحل، ورئيس وكالة الأمن القومي، ونائب رئيس أركان القوات الجوية، وأميرالًا ملحقًا بحلف الناتو، وثلاثة من كبار المحامين العسكريين. حتى رئيس أركان القوات الجوية أعلن تقاعده المبكر، دون تفسير، بعد عامين فقط من توليه المنصب.

هذه الإقالات، التي ترافقت مع خفض عدد الجنرالات والأميرالات من فئة الأربع نجوم بنسبة 20 في المئة، تثير مخاوف حقيقية من تسييس الجيش الأميركي، الذي لطالما اعتُبر مؤسسة محايدة، تعمل وفقًا لمعايير مهنية صارمة. فهل باتت الولاءات السياسية معيارًا لاختيار القادة العسكريين؟ وهل يمكن أن تُدار الحرب، أو تُقيّم نتائجها، بناءً على ما يُرضي الرئيس لا ما يُفيد الدولة؟

الضربة على إيران، التي شاركت فيها أكثر من 125 طائرة وغواصة صواريخ موجهة، كانت تهدف إلى توجيه رسالة ردع قوية، في ظل تصاعد التوترات الإقليمية. لكن التقييم الاستخباراتي، الذي نُشر على نطاق واسع، أفاد بأن الأثر كان محدودًا، وأن البرنامج النووي الإيراني سيستأنف نشاطه خلال أشهر. فهذا التناقض بين الرواية الرسمية والتقييم الفني ليس مجرد خلاف في التقدير، بل هو اختبار لمدى قدرة المؤسسات على قول الحقيقة، حتى عندما تكون غير مريحة.

رد إدارة ترامب على وسائل الإعلام، واتهامها بـ”التغطية المتملقة لتقييم أولي،” يعكس رغبة في السيطرة على السرد، وتوجيه الرأي العام نحو رواية واحدة، لا تحتمل التعدد أو التشكيك. وزير الدفاع بيت هيغسيث لم يُخفِ انزعاجه، وقال إن التقييم “سُرّب لأن لدى أحدهم أجندة،” في إشارة إلى وجود نوايا سياسية خلف نشر التقرير. لكن السؤال الأهم: هل المطلوب من الاستخبارات أن تُجمّل الواقع، أم أن تُنبه إلى ما لم يتحقق؟

في ظل هذا المشهد، تبدو الضربة على إيران أقل أهمية من تداعياتها الداخلية. فإقالة قادة الاستخبارات وتهميش التقييمات الفنية يُضعفان من قدرة الدولة على اتخاذ قرارات إستراتيجية مبنية على معلومات دقيقة. كما يُربك الحلفاء، الذين يعتمدون على مصداقية المؤسسات الأميركية في تقييم المخاطر، ويُعزز من سرديات الخصوم، الذين يرون في هذه الإقالات دليلًا على ارتباك داخلي.

الجيش الأميركي، الذي يُعد من أكثر المؤسسات احترامًا في الداخل والخارج، يواجه اختبارًا غير مسبوق: هل يستطيع الحفاظ على استقلاليته المهنية في ظل إدارة تُعيد تشكيله وفقًا لمعايير الولاء؟ وهل يمكن أن تُدار الحروب، وتُقيّم نتائجها، بناءً على ما يُقال في الخطابات، لا ما يُكتب في التقارير؟

في النهاية، تبقى الحقيقة هي الضحية الأولى في صراع السياسيين والخبراء العسكريين. وإذا كانت الضربات على إيران قد أحدثت أثرًا محدودًا، فإن أثرها على الداخل الأميركي قد يكون أكبر بكثير. فإقالة القادة وتهميش التقييمات لا يُعيدان بناء الثقة، بل يُعمّقان الشكوك، ويُضعفان من قدرة الدولة على مواجهة التحديات، في عالم لا يرحم من يُخفي الحقائق خلف الشعارات.