بدأ ساسة إسرائيل وأحزابها في رسم تحضيرات المعركة الانتخابية المقبلة، خاصة في ظل حمّى استطلاعات رأي متقلبة الإحصائيات، والتي تسعى فيها وجوه سياسية تقليدية وصاعدة لإيجاد موطئ قدم لها في الخارطة البرلمانية المقبلة للكنيست الإسرائيلي. فالتحالفات قيد البلورة على مسطرة الأيديولوجيا الحزبية، من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها، وهو ما يؤشر إلى تنامي استقطاب غير منضبط المعايير في المشهد السياسي الإسرائيلي، حيث قد يؤدي إلى توازنات جديدة تُعيد رسم المشهد البرلماني كمقدمة تنعكس لاحقًا على تركيبة الحكومة وتوجهاتها.
في أحد استطلاعات الرأي الإسرائيلية المثيرة للاهتمام، نُشر مؤخرا من قِبل معهد لازار للأبحاث لصالح صحيفة “معاريف”، تتنبأ نتائجه بتحول سياسي كبير داخل إسرائيل، حيث تظهر عودة حزب نفتالي بينيت بـ23 مقعدًا في الكنيست، متقدمًا على حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي سيحصل في المقابل على 21 مقعدًا. بينما سيحصل الديمقراطيون على 11 مقعدًا، يليهم حزب غادي آيزنكوت، رئيس هيئة أركان الجيش السابق، الذي قد يصبح لاعبًا رئيسيًا في الانتخابات الوشيكة وبيضة القبان في أيّ ائتلاف حكومي مقبل، في حين لن يجتاز حزب “أزرق أبيض” بقيادة بيني غانتس عتبة الحسم.
بشرح مبسط، الكنيست الإسرائيلي اليوم يتشكل من كتلتين: كتلة معسكر ائتلاف حكومة نتنياهو، وكتلة المعسكر المناهض له. وبحسب استطلاع الرأي، فإن الكتلة المناهضة للحكومة ستفوز بـ61 مقعدًا، أما كتلة الأحزاب الائتلافية الحاكمة حاليًا فستحصل على 48 مقعدًا فقط.
منذ “السابع من أكتوبر”، أبقى بنيامين نتنياهو ائتلافه متماسكًا، بل قاد الصراع ليحقق استمرار مصالحه الشخصية والحزبية إلى حين عقد الانتخابات البرلمانية المقبلة. وإن حدثت بعض الاهتزازات، فقد كان قادرًا على التعامل معها وتطويعها لخدمة استثمار حرب يقودها على الجبهات السبع، كزعيم إسرائيلي تاريخي لمشروع مقدس يتبناه معسكر أحزاب اليمين واليمين المتطرف.
غزة، وما تبقى منها، هي القضية الكبرى التي تسعى أحزاب إسرائيل وسياستها كافة، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، إلى توظيفها في الأجندات الانتخابية. وهو ما يُفهم من تصريح نتنياهو “الحرب بدأت في غزة وستنتهي في غزة،” في ظل تراجع ملحوظ للدور الأميركي في التعاطي مع ملف الحرب على القطاع. فبالرغم من مرور وقت على إعلان حماس موافقتها على مقترح الوسطاء المصري والقطري المعدّل لمقترح ستيف ويتكوف، لم يصدر عن الإدارة الأميركية، وتحديدًا عن ويتكوف، أي تعليق يحدد ما سيؤول إليه مسار التفاوض في المرحلة المقبلة. بل عمدت إلى عقد لقاء تشاوري بمعزل عن أطراف إقليمية ودولية، لبحث مسألة “اليوم التالي” لقطاع غزة. فالموقف الأميركي يدفع نحو منح حكومة نتنياهو فسحة للتحرك عسكريًا من أجل بلوغ أهداف ما بات يُعرف باسم “عملية مراكب جدعون الثانية”، لتثبيت شروط نتنياهو الخمسة، وهو ما يصب في صالحه على المستوى الانتخابي في المرحلة القادمة.
عند العودة إلى مجريات الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، كان جليًا تسخير بنيامين نتنياهو دوائر الصراع المتداخلة في المنطقة لدعم حظوظ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي استغل ممارسات نتنياهو ضد إدارة الرئيس الديمقراطي السابق جو بايدن في دعايته الانتخابية وخطاباته النارية، وأظهره بمكانة “الخَرِفِ الضعيف”، ليحقق وصوله إلى البيت الأبيض. وانحاز ترامب برؤاه كليًا لصالح أهداف إسرائيل، وجيّر تصريحاته للدفاع عن سياسات نتنياهو وحكومته.
نظرية الصدام بين ترامب ونتنياهو باتت غير واقعية، لإدراك مؤسسات الولايات المتحدة وإدارتها حاجتها إلى رئيس وزراء إسرائيلي قوي في المستقبل للبناء على ما تم إنجازه في منطقة الشرق الأوسط. وهو ما يُناقش داخل أروقة البيت الأبيض ضمن فريق ترامب، في ظل مشهد ما زال معقدًا بتطورات متلاحقة يشهدها الإقليم، كمقدمة لاستمرار مكافحة النفوذ الصيني الناشئ، والحد من عودة تمدد أجندات ومحاور إيرانية، ضمن عناوين “السلام الاقتصادي” الذي يرعاه كوشنر، في رؤية تتجاوز الفلسطينيين والاعترافات الدولية بدولتهم.
وقد نُسفت النظرية بتعهد الرئيس ترامب سابقًا بإنقاذ نتنياهو من محاكمته، من خلال المطالبة العلنية بالعفو عنه، وتقديم الدعم غير المحدود لإسرائيل في حربها على إيران، ثم منحه غطاءً سياسيًا لتمرير خططه بشأن احتلال غزة. جميعها عوامل تطفو على السطح وتدلل على أن الإدارة الأميركية ورئيسها الجمهوري يرميان بثقلهما السياسي لإبقاء بنيامين نتنياهو في موقعه على رأس حكومة تل أبيب، استعدادًا للتعامل مع جولات محتملة من الصراع، في سياق سياسة “الرقص على حبال الحرب والسياسة،” التي دأب عليها جاهدًا لإعادة الكرة إلى ملعب الداخل الإسرائيلي، لرسم هوامش الحفاظ على قاعدته الانتخابية له ولحلفائه المتطرفين، وعدم تآكلها أمام حملات المعارضة المستعرة، التي سينجو منها بكل تأكيد بفضل قوة الدعم الترامبي.