الرئيسية / أخبار / دولة فلسطينية مع وقف التنفيذ

دولة فلسطينية مع وقف التنفيذ

فيما تخوض السلطة الفلسطينية سباقًا ماراثونيًا لحشد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وفي توقيت تكتسب فيه القضية زخمًا غير مسبوق بفعل ما يجري في قطاع غزة، صادقت دولة الاحتلال رسميًا على مشروع استيطاني يقسّم الضفة الغربية. خطوة قرأها الكثيرون كإجهاض متعمد لكل مسعى لإقامة الدولة الموعودة. ولم تمنع الإدانات الدولية المتتالية ـ من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا وأستراليا التي دعت إسرائيل إلى التراجع الفوري عن قرارها ـ حكومة بنيامين نتنياهو من المضي قدمًا في سياساتها التوسعية، وكأنها تؤكد مرة أخرى أن حساباتها الإستراتيجية أكبر من أن تتأثر بمواقف دبلوماسية عابرة.

منذ توقيع اتفاق أوسلو ظلّ السؤال الجوهري مطروحًا: هل كان الاتفاق محاولة لإنقاذ ما تبقى من الحلم الفلسطيني، أم كان فخًا لدفن المشروع الوطني في تفاصيل إدارية وأمنية؟ الفلسطينيون ذهبوا إلى أوسلو تحت وطأة الانكسارات لإنعاش حلم الدولة، لكن الإسرائيليين تعاملوا مع الاتفاق كورقة لشراء الوقت، إلى أن تنضج أيديولوجية “حماس” وتتحول إلى خطر مزدوج: خطر على الدولة الإسرائيلية من جهة، وخطر على المشروع الوطني الفلسطيني من جهة أخرى. وهكذا تحوّل الاتفاق إلى أداة لتقويض التطلعات الفلسطينية بدل أن يكون جسرًا نحو الاستقلال.

فشل أوسلو لأنه قام على وهم التعايش في معادلة غير متكافئة تجاهلت جوهر القضية الفلسطينية واختزلتها في ترتيبات إدارية وأمنية لم تستطع تلبية طموحات الفلسطينيين في الحرية والسيادة. فالاتفاق وُلد ميتًا لأنه لم يعالج أصل الصراع بل غطى وهم الدولة فوق أرض ما زالت محتلة وفتح أمام الاحتلال المجال لتكريس وقائع لا رجعة فيها. وكان تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق “أ” و”ب” و”ج” أبرز دليل على ذلك. فقد بدا في بدايته خطوة انتقالية نحو الدولة لكنه سرعان ما تحول إلى وسيلة لتفتيت الجغرافيا الفلسطينية وتعميق السيطرة الإسرائيلية. واليوم وبعد ثلاثة عقود من أوسلو يعود السؤال: هل ما زال في الإمكان الاعتماد على هذا التقسيم كإطار لإدارة الأرض والناس؟ وهل يستطيع أن يرضي الفلسطينيين ويضمن لإسرائيل أمنها؟ أم أنه تحول إلى عبء تاريخي يغلق كل أبواب الحل ويجعل فكرة الدولة مجرد كيان معلق تحت رحمة الاحتلال.؟

وإذا كان اتفاق أوسلو قد تحول مع مرور الوقت إلى عبء على الفلسطينيين، بل إلى مصيدة كبّلتهم سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، فإنه في المقابل فتح الباب أمام لاعبين إقليميين جدد، في مقدمتهم إيران، التي رأت في هذا الفراغ وخيبة التجربة فرصة للتغلغل في عمق الصراع. ولم يكن الثمن ما دفعه الفلسطينيون وحدهم، بل حتى الإسرائيليون وجدوا أنفسهم أمام نتائج هذا التحول الذي غيّر موازين القوى وأدخل المنطقة في دوامة جديدة من المواجهات.

اليوم، حين يُطرح مجددًا سؤال إمكانية قيام الدولة الفلسطينية، تبدو الإجابة أكثر تعقيدًا من أيّ وقت مضى. فالعقبات التي أجهضت اتفاق أوسلو ما زالت حاضرة، والوقائع التي رسخها الاحتلال على الأرض جعلت خيار الدولة المستقلة أقرب إلى معادلة مستحيلة. ومع ذلك، تظل القضية الفلسطينية عنصرًا ثابتًا في معادلة الإقليم، يعيد نفسه مع كل جولة تصعيد في غزة ومع كل توسع استيطاني في الضفة، ليؤكد أن تجاهل جوهر الصراع أو الاكتفاء بالحلول الانتقالية لا يقود إلى الاستقرار بل إلى إعادة إنتاج الأزمة بأشكال أكثر تعقيدًا.

لكن ما الذي تغيّر اليوم؟ هل يمكن أن يشكل تراجع محور المقاومة الإيراني وتدمير قدرات حماس والجهاد الإسلامي وإخراجها من معادلة الردع مدخلًا لإعادة إحياء حل الدولتين وتصحيح ثغرات أوسلو؟ وهل سيكون سقوط نتنياهو ومعسكره اليميني المتطرف كفيلا بفتح نافذة نحو تسوية سياسية طال انتظارها؟

المشكلة لا تكمن فقط في نتنياهو ومن معه ولا في التعقيدات الجغرافية والأمنية والدينية، ولا في مسألة القدس التي ظلت على مرّ العقود عنوانًا للانسداد السياسي، بل تمتد لتطال معضلة أشدّ إلحاحًا وهي المسألة الاقتصادية… فهل سيبقى اقتصاد فلسطين مرهونًا لإسرائيل، خاضعًا لإملاءاتها، ومكبلاً باتفاقيات لم يُرِدها الفلسطينيون أصلاً؟ أم أن لحظة التحول السياسي القادمة ستفرض إعادة النظر في بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي تحوّل من أداة لتنظيم العلاقة الاقتصادية إلى قيد يفرغ أيّ سيادة فلسطينية من مضمونها؟

فالدولة التي لا تملك قرارها الاقتصادي هي دولة بلا مضمون، أقرب إلى ظلّ لكيان معلّق في الهواء، غير قادر على الاستمرار، أو بالأحرى هي ليست دولة حقيقية بقدر ما هي إدارة محلية موسعة تُمنح للفلسطينيين تحت سقف إسرائيلي محكم، وتُستخدم كأداة لتسكين الصراع أكثر منها مشروعًا للتحرر الوطني. وفي المقابل، فإن خيار المقاومة المسلحة وأيديولوجية التحرير الشامل يحتاجان إلى مراجعة فلسطينية واعية، تُقرّ بأن هذا المسار أصبح ذريعة تخدم المتطرفين الإسرائيليين لتبرير العنف الموجه ضد الفلسطينيين، بل إن الاستمرار فيه يعني تكريس معادلة الصراع المفتوح بدل البحث عن صيغة سياسية قابلة للحياة.

الأكيد أن ما جرى منذ السابع من أكتوبر لم يكن مجرد جولة دموية أخرى، بل لحظة فارقة قد تفتح الباب أمام سلام يعيد صياغة المعادلات في المنطقة. ومع ذلك يبقى السؤال المعلّق: هل يمكن لهذا الزخم الدولي أن يتحوّل إلى ضغط فعلي على إسرائيل، أم أن الدولة الفلسطينية ستظل فكرة مؤجلة تُستخدم كورقة تفاوضية في لعبة إقليمية ودولية أكبر من أصحاب الحق أنفسهم؟