الرئيسية / أخبار / دولة بلا حدود وحدود بلا دول

دولة بلا حدود وحدود بلا دول

يتعامل الكيان الصهيوني – ومعه القوى الغربية – مع بلاد الشام كوحدة جغرافية واقتصادية وسياسية يجب تفكيكها واحتلالها وإضعاف جيوشها وسحق مقاوماتها وقتل شعوبها أو تشريدهم. هذه سياسته في السلم والحرب على حدّ سواء، والسلم في قاموسه الوجودي هدنة بين حربين. بل هذه سياسة سابقة على تأسيس الكيان. تجدها في أدبيات وممارسات الصهاينة منذ القرن التاسع عشر. لم يميّز الصهاينة الأوائل في سعيهم إلى إقامة دولة يهودية، بما فيها إرسال عملاء ماليين لشراء الأراضي، بين يافا وصيدا وبين غزة وسيناء وبين صفد والجولان. جميعها أرض إسرائيل التوراتية القابلة للاستعمار.

وقد اختص الصهاينة منطقة جنوب الليطاني بمساعٍ حثيثة لاحتسابها ضمن النفوذ البريطاني لتسهيل مشروعهم وكادوا أن ينالوا مرادهم بدعم من لندن لولا عناد فرنسا التي أرادت أن تحتفظ بأكبر مساحة تحت حكمها. لكن فرنسا نفسها لم تميّز بين سوريا ولبنان كوحدة اقتصادية، فجعلت لهما ميزانية واحدة ووضعتهما تحت إشراف جمركي موحّد مقابل إصرارها على التقسيم السياسي فأنشأت لبنان الكبير وأربع دويلات سورية على أساس طائفي من ضمنها دولة للدروز في جبل العرب وأخرى للعلويين في الساحل السوري.

وليس سرّاً أن الصهاينة، والذين ما يزالون يلومون العرب لرفضهم قرار تقسيم فلسطين عام 1947، لم يقبلوا الحدود التي رسمتها الأمم المتحدة لدولتهم حينذاك والتي منحت 50 في المئة من فلسطين التاريخية لأهلها والنصف الآخر للمستوطنين. بل شنّوا حرب «استقلالهم الأولى» فاستحوذوا على 28% إضافية. ولولا تمدّدهم المخالف لقرار التقسيم، لكان الجليل الأعلى المتاخم للحدود اللبنانية ضمن الدولة الفلسطينية الموعودة. رغم هذه المكتسبات، رفض العدو تثبيت حدوده النهائية وما يزال يسعى كلما سنحت له الموازين الدولية إلى توسيع هذه الحدود وقضم المزيد من الأراضي العربية.

في المقابل، تصرّ غالبية القوى السياسية التي تعاقبت على الحكم في الدول المجاورة لفلسطين على التشبّث بحدود استعمارية وهويات مناطقية ومشاريع تقسيمية. فهم عندما يطرحون الفدرالية، يطرحونها ضمن البلد الواحد بدلاً من طرحها بين الدول على شاكلة الاتحاد الأوروبي. وبينما تهرع دول أوروبا الغربية للدفاع عن أوكرانيا التي لا تجمعهم معها حدود أو لغة أو إثنية أو حتى تاريخ مشترك، يتبارى الحكّام العرب في التملّص من فلسطين بل في تقويض أي مقاومة والتآمر مع العدو. هم يتمثّلون بالغرب في كل شاردة وواردة سوى مفهوم السيادة والكرامة الوطنية والأمن القومي.

وفي ذروة التعدّي على حدودهم في الجنوب اللبناني والجولان السوري، تتسابق دمشق وبيروت في التناوش المسلح عبر مناطق التماس في البقاع والمطالبة بترسيم الحدود البرية والبحرية على حد سواء. وبينما تتمركز القوات العسكرية الأجنبية في قواعد حدودية إستراتيجية كالتنف وجبل الشيخ وتطلّ عبرها على أراضيهم في الاتجاهات الأربعة، تسارع دمشق إلى عرض العضلات في الساحل السوري وتسهّل بيروت وضع أبراج مراقبة بدعم وتمويل بريطانيا على طول الحدود وتكفي الأردن إسرائيل شرّ الصواريخ.

وبينما تتشبّث الدولة اليهودية بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا وما تحويه من موارد مائية وثروة زراعية، يتبرّع الطرفان السوري واللبناني في التملّص من مسؤولية تحريرها. وبينما يرفض الكيان رفضاً قاطعاً تواجد جندي أممي واحد على أرضه التي احتلها، تتبارى القوى اللبنانية في كيل المديح لقوات «اليونيفيل» واستضافتها فوق أجمل المواقع المطلة والبحرية في الجنوب. وبينما يفتح العدو حدوده على مصراعيها ليتلقّى الأطنان المؤلّفة من الأسلحة والذخائر عبر جسور جوية، تسعى الأنظمة الحاكمة العربية إلى قطع طرق إمداد المقاومة ونزع سلاحها وإغلاق المعابر غير الرسمية بحجة محاربة التهريب.

وبينما يشرّع الكيان استقدام أي يهودي من كل أصقاع الأرض إلى فلسطين المحتلة، تستغل الأنظمة الحاكمة النازحين واللاجئين في معاركها السياسية حدّ الابتزاز وتصادر حرّية الحركة وتدفع مواطنيها، عبر السياسات القمعية والتقشفية والاحتكارية، إلى الهجرة الشرعية وغير الشرعية على حدّ سواء. هذه الحدود بين سوريا ولبنان التي رسمها الاستعمار وحمتها الأنظمة وعزّزها الفكر القُطري والانعزالي، كم مرة سيقطعها الناس ذهاباً وإياباً كنازحين قبل أن يمروا عليها مرور المكرّمين؟ ليس قبل أن يدركوا – كلما زادت المأساة وتعمّق الانقسام – أن المصير التاريخي، شاؤوا أم أبوا، واحدٌ، من حلب إلى فلسطين.

إنّ ترسيم مناطق الأطراف قبل تنميتها، وتثبيت الحدود قبل بناء الدولة وترسيخ دعائمها، من علائم الاستعمار. يعيش الكيان الصهيوني زمن الاستعمار بكل إرهاصاته بينما تجهد الطبقات العربية الحاكمة في إخراجنا من زمن التحرّر الوطني والتنكّر لواقعنا الاستعماري بكل الوسائل. بنية الاستعمار ماثلة اليوم بكل وضوح: دولة صهيونية بلا حدود وحدود عربية بلا دول. إسرائيل بلا حدود تعني استيطاناً وتطهيراً عرقياً وإبادة واجتياحاً واحتلالاً وتوسّعاً استعمارياً.

وحدود بلا دول تعني تناحراً طائفياً وحكماً قمعياً واقتصاداً تبعياً تحت مسمّى اقتصاد حر وإذلالاً معيشياً مقابل ثروات مركّزة. أمّا نقيض هذه وتلك، فهو فلسطين بلا حدود: حق العودة وحرية الحركة بين الجليل وجبل عامل والجولان وغور الأردن وسيناء ولو عبر كيانات سياسية متعددة. سيتهمنا البعض بالطوباوية، على اعتبار أن دعوة التعايش مع الوحش الإسرائيلي عين الواقعية. لكم دولكم ولنا أوطاننا.