بعد انعقاد قمة العُلا في يناير (كانون الثاني) 2021 لإعلان المصالحة الخليجية، وإنهاء حصار قطر المفروض عليها منذ يونيو (حزيران) 2017، بدا وكأنّ المنطقة كُلّها وبشكلٍ تلقائي تعود إلى حقبة ما قبل ترامب، وبدأت دول المنطقة ترتيب أولوياتها من جديد، ومحاولة إغلاق بعض الملفات التي من الممكن أنّ تخلق توترًا في العلاقة مع إدارة بايدن التي تعهَّدت بعودة الولايات المتحدة لقيادة العالم.
كانت قطر إحدى الدول القليلة بالمنطقة التي خرجت من عهد ترامب بسجلٍ نظيف أمام إدارة بايدن، يسمح لها وبشكلٍ مباشر، لعب دور إقليمي في بعض الملفات العالقة. سنتعرَّف في هذا التقرير كيف تستعيد قطر دورها الإقليمي في ظل إدارة جو بايدن، وما هي الفراغات التي تُحاول ملئها من خلال ملفات الوساطة الدولية.
أيام الحصار.. ثمار قطر الطازجة تنضج على مهلٍ
مع صعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عام 2017، وإعطائه الضوء الأخضر للدول الأربعة بفرض الحصار على دولة قطر في يونيو 2017. وجدت قطر نفسها أمام معضلة وأزمة اقتصادية وسياسية كبيرة، وبالرغم من مساوئ الحصار على قطر، وعزلها جغرافيًا عن الإقليم، إلّا أنّها استطاعت أنّ تخلق لنفسها فرصًا جديدة، اقتصادية وسياسية، باتت اليوم تعطي ثمارها مع صعود إدارة أمريكية جديدة، ديمقراطية، تعتقد بأنّ دعم الحلفاء ركيزة أساسية في عقيدتها الخارجية. خلال سنوات الحصار تمكنت قطر من الانفتاح على أسواق جديدة، مثل السوق التركي والإيراني، وتوطيد علاقتها سياسيًا مع الدولتين.
أثناء استقبال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني في قمة العلا
وأثبتت قطر بعد الحصار قدرتها على الحفاظ على استقلاليتها الخارجية، فاليوم ما زالت علاقتها مع إيران جيدة، إذ لم تزل تتشارك معها أكبر حقول الغاز، ولم تُنهِ قطر علاقتها العسكرية مع تركيا أيضًا، رغم أن تلك كانت إحدى شروط دول الحصار في البداية، بل وطَّدت علاقتها معها أكثر وأكثر، وأصبحت العلاقة مع تركيا بالنسبة للحكومة القطرية «علاقة إستراتيجية».
كما تمكَّنت قطر بالرغم من وجود إدارة ترامب التي أعطت الضوء الأخضر للحصار، من استضافة محادثات السلام الأفغانية، وإتمام معاهدة سلام تاريخية، وكانت هذه المعاهدة بالنسبة لبعض المحللين الأمريكيين، إحدى النقاط الإيجابية لترامب في سياسته الخارجية التي لا يختلف عليها الكثيرون.
وبعد الأزمة مع إدارة ترامب، وتصريحاته التي اتهمت قطر بتمويل «الإرهاب»، استطاعت قطر إعادة وتوطيد العلاقة مع أمريكا من خلال الصفقات الاستثمارية، وصفقات السلاح. وكانت بعض هذه الصفقات تتم من خلال شركة «برزان القابضة» التابعة لوزارة الدفاع القطرية، والتي وقَّعت صفقات سلاح ضخمة في ولاية كارولينا الجنوبية، أحد حصون الحزب الجمهوري.
«نحن هنا في حال تعثّرت فرنسا في لبنان»
هُنالك العديد من الملفات الإقليمية التي بدأت قطر تسعى تجاهها للعب دور قوي في السياسة الخارجية في فترة ما بعد الحصار. من هذه الملفات ملف تشكيل الحكومة اللبنانية العالق منذ استقالة حكومة حسّان دياب بعد انفجار مرفأ بيروت، فقد زار وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني لبنان الأسبوع الماضي، والتقى مع الرئيس اللبناني ميشال عون، وعقب لقائه مع عون؛ صّرح وزير الخارجية القطري بأنّ قطر مستعدة للاستثمار في لبنان حال تشكُّل حكومة، ودعا أيضًا إلى «تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية».
لم تحمل كلمات الوزير أيّ وجود لمبادرة سياسية للدوحة فقد قال وزير الخارجية: «لا نسعى لنسف المبادرة الفرنسية، بل نعمل على استكمال المساعي الدولية لتشكيل حكومة»، ولكنّ بحسب ما نقله موقع «الخليج أونلاين» عن صحيفة «القبس الكويتية» بأنّ الدوحة مستعدة لإعلان مبادرتها في حال موافقة الأطراف اللبنانية كلها على المشاركة.
تُبرز قطر نفسها هُنا وسيطًا بديلًا في الملف اللبناني في حال تعثرت المبادرة الفرنسية، فقد جاءت هذه المحاولات بعد مواجهة المبادرة الفرنسية عثرات وصعوبات، إذ لم تنجح إلى هذا اليوم منذ أشهر من انطلاق تشكيل الحكومة اللبنانية.
وحاولت فرنسا إدخال السعودية وسيطًا لإنجاح مبادرتها في تشكيل الحكومة، ولكنّ مشكلة السعودية الرئيسة هي أنّها لن تدعم حكومة يكون حزب الله طرفًا حاضرًا فيها، وفي المقابل لا يمكن تشكيل حكومة لبنانية من دون أنّ يكون حزب الله فيها.
الاتفاقية النووية الإيرانية.. بوابة قطر للبيت الأبيض
بعد إنهاء الحصار، وقبل تنصيب الرئيس جو بايدن، دعت قطر دول الخليج العربي للانخراط في الحوار مع إيران، وأعلن حينها وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني «استعداد الدوحة للوساطة بين الطرفين»، إذ جاءت هذه التصريحات في سياق وعود الرئيس بايدن بـ«إحياء» الاتفاقية النووية الإيرانية التي دشنت عام 2015.
تُحاول قطر اليوم إبراز نفسها أمام إدارة بايدن على أنّها الوسيط الحقيقي في المحادثات مع إيران بشأن الاتفاق النووي، وذلك بسبب علاقتها مع الطرفين، وجهودها المتتالية في استضافة محادثات السلام، مثل محادثات السلام الأفغانية.
فقد صرّح وزير الخارجية القطري عن أنّ دولة قطر تعمل على خفض «التصعيد من خلال العملية السياسية والدبلوماسية للعودة إلى الاتفاق النووي»، إذ جاءت هذه التصريحات بعد مكالمات بين وزير الخارجية، وروبيرت مالي، مبعوث أمريكا لإيران، وجاك سوليفان مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض.
كما أعلنت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية «إرنا» بالأمس، عن اجتماع جرى بين وزيري الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف والقطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في طهران، لبحث الوساطة القطرية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وقد قال ظريف للوكالة ما يوضح أهمية الدور القطري المرتقب الآن؛ إذ أكد أنه «يمكن لقطر لعب دور هام في هذا الإطار».
«الديمقراطيون غاضبون من الإمارات».. آفاق قطر الجديدة
ستكمل قطر جهودها في الملف الأفغاني، فلم تكن معاهدة السلام الأفغانية نهاية الطريق، ذلك بسبب تعقُّد الأمور مع صعود إدارة بايدن، التي صرحت بأنّها ستعيد «تقييم» الاتفاقية، ذلك بسبب أنّ الاتفاقية تهمش حليف أمريكا، الحكومة الأفغانية، وتزيد من قوة خصمها، حركة طالبان، وفق تقييمها المبدئي.
بالإضافة إلى الملف الأفغاني، توجد ملفاتٌ إقليمية قد تفتح فرصًا لقطر للعب دور الوساطة، فبحسب «سيف كريم» – اسم مستعار – ومحلل سياسي مُطّلع قال لـ«ساسة بوست»: «قد تقفز قطر للعب دور الوسيط في اليمن بين الحوثيين والسعوديين، وذلك بسبب علاقتها القوية مع إيران، إلا أنّ هذا غير مؤكد بسبب أنّه دورٌ عمانيّ بالأساس».
ويضيف المحلل: «يوجد اليوم تقاطع بين قطر وواشنطن، وهو ليس تقاطع قوي ولكن يمكن البناء عليه، وفرصة لتعزيز قطر وجودها في واشنطن، وهي أنّ الحزب الديمقراطي يعاني من الإمارات، فالإمارات اليوم تُعقد المشهد في اليمن من خلال دعم جماعات انفصالية في اليمن، وتتمادى على بعض النواب الديمقراطيين في الكونجرس، وقد يخلق هذا مساحة جديدة لقطر لتوطيد علاقتها مع الإدارة الأمريكية».
وفيما يخص العلاقات بين الإمارات والديمقراطيين التي ذكرها المصدر، وهي العلاقات التي ربما تسفيد قطر من توترها، فقد نقل موقع «الإنترسبت» بالفعل يوم 12 من شهر فبراير (شباط) 2021، تصريحات عن النائب الديمقراطي رو خانا قال: إنّ يوسف العتيبة، السفير الإماراتي لواشنطن، «صرخ في وجهه» بسبب موقفه من حرب اليمن. وأضاف خانا: «قادني تصرفه بأنّ هُنالك غطرسة حقيقية، وشعور بالاستحقاق، وشعور بأنّه قوي ويمكنه التصرف بهذه الطريقة. وأنا لم أشهد شيئًا مثل ذلك من قبل».
في الواقع بات العديد من الأطراف في الإقليم ينظرون إلى قطر بوصفها دولة لديها الإمكانيات للعب دور كبير في السنوات القادمة خاصة في ظل إدارة بايدن، وهو ما دفع وزير الخارجية التركي على سبيل المثال إلى التصريح بأن «القوة الناعمة القطرية مهمة جدًا»، ورغم أن العلاقات التركية القطرية دافئة منذ الحصار الخليجي، لكن هذه النبرة من الإدارة التركية في التأكيد على الدور المحوري لقطر جديدة نوعًا ما.
ويبدو أنّ المصالحة قمة العلا قد وضعت قطر في وضعٍ مثالي، فلم تتحقَّق مطالب دول الحصار، وخرجت قطر من الحصار بعلاقاتٍ قوية مع بعض دول المنطقة، وفرصٍ جديدة مع الإدارة الأمريكية يمكنها أنّ تُعيد نفسها لاعبًا إقليميًا قوي، عن طريق قوتها الناعمة.