محمد دياب
ظاهرة عربية تحتاج التوقف والدراسة، وتبدو لها علاقة بالمُلْك أو الحُكم والإمارة والمشيخة، وفور وصول أي من له علاقة بكرسي عرش أو حكم بلد يتجه فورا شطر تل أبيب وواشنطن؛ يقدم أوراق اعتماده، وكأنه يقول لمن بايعوه أو انتخبوه لستم أصحاب فضل، وأنه يدين بالفضل لأولئك المحتلين والغاصبين، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يحدث ذلك في عراق ما بعد الغزو الصهيو أمريكي، وفي مصر عقب ثورتي يناير 2011، ويونيو 2013، وأغلبهم يحج إلى البيت الأبيض، وإلى مكتب رئيس الوزراء الصهيوني، أو يرسل مبعوثيه إلى مقاراتهم ومكاتبهم بانتظام، ويلتقون بهم ويبثونهم مشاعر جياشة، وآيات من الحب والوله والامتنان، والأكثر حماسا واندفاعا وتهورا هم من أبناء الجزيرة العربية والخليج.
ألا يحتاج ذلك إلى وقفة وبحث ودراسات علمية؛ سياسية واجتماعية ونفسية؛ تساعد في التعرف على سر انقلاب هؤلاء، وكشْف بعد ومغزى ذلك؟، هل هو مظهر لنشاط موجه من خبراء ومختصين ومتمرسين؛ يقفزون الحواجز، ويخترقون الجدران ويغزون العقول، ويتحركون في طول «القارة العربية» ومهمتهم خوض حرب نفسية، وممارسة ما يُعرف «البرمجة البشرية»، ويجب أن تجد هذه الظاهرة من يُولِيها الاهتمام اللازم؟. ويصاحب هذه الهرولة هذيان؛ في صيغة تصريحات تُصنَّف ضمن «أدب اللامعقول»، على غرار أغنية «يا طالع الشجرة هات لي معاك بقرة تحلب وتسقيني بالملعقة الصيني.. ياطالع الشجرة»، وهكذا لآخر أغنية مسرح اللامعقول لتوفيق الحكيم؛ صاحب كتاب «الوعي المفقود»، الذي أفْتُتِح به الحملة الرسمية وشبه الرسمية ضد ثورة 1952 وإدانة وشيطنة قائدها.
ها هو أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول، العربية، وقد قامت في زمن المد القومي بدور حيوي وفعال بتأثير الدور المصري، الذي أرسى تقليدا بعقد اجتماعات قمة سنوية؛ يجتمع فيها الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ، للنظر في أحوال «القارة العربية»، وتناول قضاياها وأزماتها بأيدي العرب، وكانت القضية المركزية في ذلك الزمن وما زالت هي فلسطين، وتحريرها ممن اغتصبها وطرد شعبها وشرده.
مؤتمرات «القمة العربية» بهذا المفهوم بدأت الانتظام في ستينيات القرن الماضي، ووقفت قرارتها وراء ظهور كيان وطني فلسطيني، تجسد في إنشاء «منظمة التحرير الفلسطينية»، وتأسيس «جيش التحرير الفلسطيني»، وذلك مع الانعقاد الأول في كانون الثاني/يناير 1964، والثاني في آب/أغسطس من نفس العام، وكان ذلك استجابة لأوضاع نشأت بعد جلاء الاحتلال البريطاني من مصر، وتصاعد العمل الفدائي الفلسطيني، وانتصار الثورة الجزائرية، وأتت أكلها تباعا، فاتسعت رقعة الاستقلال وتوالي رحيل القوات الأجنبية عن الأرض العربية.
انتهت الحماية الفرنسية الاسبانية المزدوجة على المغرب عام 1956، واحتفظت أسبانيا بـ«سبتة»، حتى حصلت على الحكم الذاتي في 1995، واستمرت «مليلية» جزءا من إقليم «ملقا» الأسباني حتى آذار/مارس 1995، وتتمتع بحكم ذاتي الآن، والغريب أن الأمم المتحدة لم تُدرج «سبتة ومليلية» ضمن الأراضي المحتلة!!..
وتواجه مدينة «طنجة» وضعا مغايرا بسبب بيئتها متعددة الأديان والأعراق والثقافات، وينقسم سكانها والمقيمون فيها لأجانب؛ من رعايا دول وقعت على بروتوكول لتنظيم العلاقات فيما بين رعاياها؛ الألمان والنمساويين والمجريين والبولنديين وغيرهم؛ متحكمون في الاقتصاد، ويمتلكون مؤسسات وشركات تجارية ومالية ومكاتب عقارية ومصارف، ويستحوذون على أغلبية مقاعد البرلمان ويعتنقون المسيحية واليهودية، وقليل منهم تحول إلى الإسلام، والقسم الآخر يجمع أبناء المغرب؛ عرب وأمازيغ، ويمثلون الغالبية العظمى من السكان لكنهم يعيشون أوضاعا صعبة، ويزاولون مهنا متواضعة، وتمثيلهم النيابي محدود لا يعكس وزنهم السكاني الحقيقي، وبعضهم يدين بالإسلام، وفي معيتهم أقلية يهودية.
بعد أن كانت الدولة الصهيونية كيانا وظيفيا في خدمة المشروع الصهيوني الاستيطاني، أضحى ذلك دور الولايات المتحدة، وتحولت لكيان وظيفي خادم للدولة الصهيونية والحركة الصهيونية، وعادت واشنطن لسيرتها «الاستيطانية» الأولى
ووضع «جبل طارق» غريب، ويعود إلى تعدد مرات الفشل في حروب أسبانيا لاستعادته، وآخرها انتهت بالتنازل عنه كجزء من تسوية نهائية؛ تنازلت أسبانيا بمقتضاها عن «كامل ملكية مدينة وقلعة جبل طارق، إلى جانب الميناء والحصون والقلاع التي تتبعها إلى الأبد، دون استثناءات أو عوائق على الإطلاق»، وفي حالة تخلي بريطانيا عن «جبل طارق»، وجب عرضه أولاعلى أسبانيا، وإذا ما ظهرت نية بيعه، فمن الأفضل أن تعرض «عملية البيع على التاج الأسباني قبل أي أحد آخر». وكثيرا ما انتقد البعض التركيز على هذه المشاكل والقضايا المهملة، وعدم تناولها من «جامعة الدول العربية»، والرد هو أن الهدف هو إحياء الذاكرة الوطنية المعطلة وتنشيطها، بأثر الإلغاء الممنهج لبرامج الوعي، والانقلاب المتعمد في مناهج الدراسة، وموضوعات ومواد المشروعات والبحوث؛ الأكاديمية والعلمية وإهمالها.
ونسي أبو الغيط أن سنة 1973، شهدت حرب أكتوبر، وخاضتها مصر وسوريا وفلسطين، ومساندة الجزائر والعراق والسودان، ودول عربية أخرى وفق إمكانياتها وظروفها؛ وكان المفترض أن تكون البداية «إزالة آثار العدوان» بعد 1967، ثم الإعداد لدخول معركة تحرير الأراضي المحتلة قبل 1967؛ والحقيقة أن استبسال القادة والجنود وتضحيات الشعب وصموده وتحمله وتماسكه؛ كل هؤلاء لم يقصروا، وحققوا نصرا عسكريا عظيما، لكن الساسة كانوا له بالمرصاد وأجهضوه، وخذلوا السلاح، وأضاعوا البطولات، وأهدروا دماء الشهداء والضحايا.
وتم التنازل طوعا عن أوراق النصر المتاحة والكثيرة مرة واحدة، وتسليمها بالكامل لواشنطن، والحجة هي أن 99 في المئة من الأوراق السياسية والاقتصادية والعسكرية بيدها، وكأن باقي العالم كَمُّ مهمل من «الطراطير»، وسقط «النظام العربي» مغشيا عليه، ولم تقم له قائمة بعدها، وتحول النصر العسكري على الجبهة المصرية إلى نصر سياسي لصالح العدوين اللدودين الصهيوني والأمريكي، وهما في الحقيقة عدو واحد، وتوالت التداعيات، وانتشرت حمى المعاهدات؛ معَزِّزة ومؤكِّدة للهزيمة السياسية التي لم تكن مصر ولا العرب يستحقونها!!.
وأبو الغيط، كان دبلوماسيا صغيرأ مع اللواء حافظ إسماعيل؛ مستشار السادات للأمن القومي، وأبو الغيط يعلم كثير مما كان يدور حوله؛ بين حافظ إسماعيل وهنري كيسنجر، ومنها ترتيبات زيارة القدس المحتلة، وعندما يقول إن هزيمة 1967، التي مر عليها 53 عاما، هي سبب «الصفقة»، فنحن على استعداد لتصديقه، لو أشار للهزيمة السياسية التي تمت على يد السادات، ومستشاره للأمن القومي والعاملين في بلاطه، وغير ذلك استخفاف بالعقول، وإعلان بتوقف نموه ونمو جماعته البدني والعقلي، وتجمدهم عند سنة 1967، ويتعامل أبو الغيط مع تاريخ 1967 بأنه «نهاية التاريخ». وقامت قيامته حينها، وعاش حلم «أهل الكهف» الطويل وما زال؛ متناسيا إنجاز اكتوبر 1973 العسكري، وقافزا على ما جلبته زيارة السادات للقدس المحتلة، وتسليمه كل الأوراق السياسية والاقتصادية والعسكرية لواشنطن، وصلحه مع الدولة الصهيونية، واعتراف «منظمة التحرير الفلسطينية» بالدولة الصهيونية، التي رفضت بدورها الاعتراف بفلسطين.
وهناك عشرات الأمثلة، قبل وبعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وتفكيك الاتحاد اليوغوسلافي، وتقسيمه إلى عدة كيانات ودول؛ بدأت بانفصال كرواتيا وسلوفينيا وجمهورية مقدونيا عام 1991، ثم انفصال البوسنة والهرسك عام 1992، وانسلاخ صربيا والجبل الأسود وكوسوفو، وانتهت يوغوسلافيا الاتحادية رسميا عام 2006، وكانت تنتهج الحياد الإيجابي مع مصر والهند، وشاركت في تأسيس حركة «عدم الانحياز»، ولعب تيتو وعبد الناصر ونهرو أدوارا بارزة في السياسة الدولية، وفي التخفيف من حدة الحرب الباردة.
و«صفقة القرن» حولت أمريكا لمجال حيوي للدولة الصهيونية، وبادلتها الأدوار، فبعد أن كانت الدولة الصهيونية كيانا وظيفيا في خدمة المشروع الصهيوني الاستيطاني، أضحى ذلك دور الولايات المتحدة، وتحولت لكيان وظيفي خادم للدولة الصهيونية والحركة الصهيونية، وعادت واشنطن لسيرتها «الاستيطانية» الأولى، وأتى إعلان «الاستقلال» في 4 يوليو 1778، معززا ومؤكدا لتلك السيرة الكريهة، وذلك قبل زرع الدولة الصهيونية بأقل من قرنين، ويتبادلان الدور الوظيفي بعمل استعراضي وفقاعة «صفقة القرن»، وللعلم فإن الصفقة من مشتقات فعل صَفُق، مثل صَفِيق وصَفَاقة!!.
وقد سقطت الصفقة فور إعلانها، برفض شعبي كامل، فقد جمعت بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب أشد رموز العنصرية والتمييز على مدى التاريخ، واختيار الصفقة أو الصفاقة عنوان لهذا المشهد الاستعراضي جاء في محله لكونه عنوانا يحمل معنى التجريم والاستنكار والاحتقار.
كاتب من مصر