د. شهاب المكاحله -واشنطن –
إن محاولتنا لرصد نتائج الربيع العربي بعد كل هذه السنوات هي محاولة لفهم لماذا وصلت هذه المظاهرات إلى الوضع الراهن، وأدى بعضها إلى نتائج كارثية. والنهج الواقعي في هذا الصدد هو مقارنة التوقعات والنتائج لأنها أداة علمية تستخدم عادة لتحديد النتيجة. لذلك يعتبر الكثير من الخبراء الربيع العربي فشلاً ذريعاً.
وفي الحقيقة، فإن ذلك يعتمد على النظر بعناية إلى ما جرى في الأعوام السبع الأخيرة التي أطلق عليها بالسبع العجاف. والتي تنذر بسبع أخر لا تبقِ ولا تذر. وتبدو الاضطرابات السياسية مثل الثورات الفاشلة ضد الديكتاتوريات. ولكن نظرة تحليلية لما يجري اليوم وخصوصاً في تونس وسوريا واليمن وليبيا وغيرها يقودنا إلى الاعتقاد بأن ما شهدناه ليس حراكاً إصلاحياً بل هو حركات مبرمجة كانت دوافعها الإصلاح في الظاهر ركب موجتها مخربون فأصبح الحراك المدني حرباً داخلية وسفك دماء.
ولا شك أن الربيع العربي قد بدأ بشكل تلقائي في مرحلته الأولى في بعض البلدان تعبيراً عن آمال الجيل الجديد في التغيير نحو مجتمعات متقدمة. وكان هذا قبل أن يلعب عاملان إثنان دوراً هاماً في تدمير هذه الآمال. العامل المحلي المتمثل في الإسلام السياسي، والعامل الدولي الذي يمثله الدور الاستعماري للدول الكبرى.
ومع وجود هذين العاملين، تحول الربيع العربي من ثورة تطالب بالحرية إلى حروب دينية في ذلك المجتمع بين أبنائه وأخرى تحولت إلى حرب أهلية على أساس عرقي. لقد قُسمت المجتمعات التي عانت من هذه الظاهرة عمودياً بحيث سمحت التدخلات الإمبريالية بتفكيك وإعادة إنشاء المنطقة لخدمة أهداف اللاعبين بشكل أفضل عبر الدخول في أكبر شريحة من المجتمع وهي الطبقة الفقيرة التي تعتبر في كل الدول العربية قنبلة موقوته إذا ما انتزع فتيلها في الوقت المناسب فلن يسلم أحد من شررها وشرها.
ففي الوقت الذي كان فيه برنامج المظاهرات والاحتجاجات يسعى إلى انتقال دول الربيع العربي إلى المجتمعات الديمقراطية، إلا أنه كان هناك لاعب غير معروف يعمل عمداً على التحريض على الفوضى لضرب الوحدة الوطنية من خلال تشجيع المتطرفين من جميع أنحاء العالم، ومن خلال الإستيلاء على المعابر الحدودية لتسهيل المهمة وتدمير المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية المملوكة للدولة وهذا ما حصل في عدد من الدول العربية ومنها سوريا واليوم مصر وليبيا وغيرها من الدول.
ولأن الشعب العربي بسيط في طموحاته، فقد اعتقد أن الربيع العربي سيجلب له الحرية والديمقراطية وسيحسن حياة الفقراء والمضطهدين. إلا أن ما حصل هو العكس تماماً فقد شهدت العديد من دول الربيع العربي الفوضى وسفك الدماء وعدم الاستقرار بسبب المصالح الإقليمية والدولية المتضاربة حيث أن العديد من هؤلاء اللاعبين أخذوا مواقف مُسيسة لخدمة مصالحهم المستقبلية وليس مصالح المتظاهرين. وقد حرًض هذا على الكراهية والإرهاب في الشرق الأوسط الذي بدأ يغرق في حروب طائفية وفتن ظهر منها ما ظهر وبطن منها ما بطن. والسؤال هو: كيف بدأ الربيع العربي وكيف انتهى؟ ومن فاز ومن خسر؟
وبهذا المعنى، انتقلنا من حالة يكون فيها الشعب باختلاف ميوله السياسية ومعتقادته موحداً من أجل التغيير الديمقراطي في الصراعات الإقليمية والدينية والسياسية. فبعد أيام فقط من اندلاع مظاهرات الربيع العربي، تم استبدال الولاء الوطني بالدعم الديني أو الولاء السياسي بالولاء لشخص معين أو مع يعرف بالـ”Personal Cult” وهو أشبه بالتأليه. إن تدمير المجتمعات وتفريغ السكان وتحويل المواطنين إلى لاجئين في جميع أنحاء العالم هو النتيجة السلبية للربيع العربي الذي خلق مجتمعات جديدة ذات خلافات طائفية وإيديولوجية وعرقية مع رفض مبدأ التعايش.
إلى أي مدى نجحت دول الربيع العربي في مظاهراتها لتحقيق أهداف الشعب؟ لا تزال الدوافع الأساسية للربيع العربي لم تتحقق حتى الآن. في الوقت الحاضر، فإن البلدان التي شهدت الربيع العربي ليست أكثر سعادة، فهي لا تزال في ظل نفس الظروف المقلقة فاقتصاداتها لم تتحسن وانتقاداتها لحكامها لم تغير شيئاً بل من جاءوا ليسوا بأفضل ممن ذهبوا. بعبارة أخرى، كان الربيع العربي مصطنعاً، وكان على المنطقة أن تمر به للوصول إلى حالة من الفوضى تحت ذريعة تحقيق أحلام الشعوب وهي من مبادئ “الفوضى الخلاقة”.
في القرن الثامن عشر، ثار الفرنسيون ضد حكامهم بسبب زيادة عدد السكان الفرنسيين ولم يكن للشباب وظائف بسبب فساد كبار المسؤولين. وهكذا، فإن الأحوال المعيشية للشعوب تزداد سوءاً وتزداد فقراً في وقت يزداد فيه الأغنياء. لذلك اندلعت الثورة الفرنسية آنذاك وغيرت وجه فرنسا. ولكن أين نحن من الربيع العربي؟ وما هي نتائجه الإيجابية؟ باختصار كانت نتائجه نعمة على الدول التي كان يمكن أن يندلع فيها الحراك الشعبي ولم يندلع نظراً لما شاهدته الجماهير في تلك الدول من فوضى حلت بتلك المجتمعات التي طالبت بالتغيير من سفك للدماء التي ملأت الشوارع والأزقة.
وهكذا، فإن أوجه التشابه في الأسباب بين الثورة الفرنسية والربيع العربي واضحة ولكن العرب انقسموا كما ذكر سابقا ًعلى أساس أجندة مُسيسة محلية وجداول أعمال ومصالح خارجية مع القوى الكبرى. وعلى الرغم من أن معدل البطالة وصل إلى أكثر من 30 في المائة في عدد من دول الربيع العربي، إلا أن هذا لم يكن السبب الرئيس للمظاهرات. كما أن الأداء الاقتصادي سلبياً في العديد من الدول العربية باستثناء تلك الدول الغنية بالنفط. وباختصار، لا تزال دوافع الربيع العربي ماثلة للعيان ولم تتغير نسب البطالة. فكم من خريج جامعي لا يلق أيدي تتلقفه للعمل بل يلقى ترحاباً من تيارات سياسية ودينية متطرفة تسعى إلى تجنيده في صفوفها. كم من مسوؤل فاسد تسبب بحراك الشارع لأنه لا يبدي اهتماماً لهموم الشعب والمواطنين البسطاء بل يهتم بتعيين أقربائه ومن لف لفهم بمناصب رفيعة ورواتب عالية. ومن بعدها يصعد إلى المنبر ليدعي محاربة الفساد. كل ذلك يضعف الانتماء والولاء للوطن لأن المواطن لم يعد يهتم بتلك الشعارات الرنانة بل يهتم برغيف الخبز الذي بات عملة صعبة هذه الأيام.
الربيع العربي نعمة لتجار السلاح
زادت مبيعات الأسلحة إلى البلدان العربية منذ بداية الربيع العربي. وقد ساعد ذلك بعض الدول بما فيها روسيا والصين إلى الوصول إلى الشرق الأوسط. فقد جلب الربيع العربي روسيا مرة أخرى إلى الشرق الأوسط عبر سوريا بقاعدتين عسكريتين: طرطوس وحميميم. كما عزز من وجود الولايات المتحدة عبر قواعد جديدة سيتم انشاؤها بدل تلك التي أصبحت قديمة. لذلك فإن أمن واستقرار دول الشرق الأوسط واستمرارية أنظمتها يعتمدان على التحالفات الإقليمية والدولية.
إذا نظرنا إلى الربيع العربي اليوم نجده صراعاً للعلاقة المتوترة بين الحاكم والمحكوم، وأنه دليل على عدم التوازن في “العقد الاجتماعي” الذي يحكم تلك العلاقة. ويجب أن يتم إصلاح هذا التباين بتحسين العوامل الثقافية والدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتعليمية، مما يمهد الطريق لعملية إصلاح واسعة النطاق للمصالح المتناقضة لأن القادم – والله أعلم – أعظم.
المصدر: الأول نيوز