الرئيسية / أخبار / الضم ليس سياسة… بل شهادة وفاة للعدالة ودفنٌ لمستقبل شعب

الضم ليس سياسة… بل شهادة وفاة للعدالة ودفنٌ لمستقبل شعب

د. شهاب المكاحله

في كلمة لي في منبر دولي ضم عدداً من السياسيين وصناع القرار والأكاديميين في نيويورك، تحدثت عن تصويت الكنيست الإسرائيلي مؤخرا بضم الضفة الغربية وتداعياته. ففي قاموس السياسة العالمية، غالبا ما تُستخدم الكلمات لتلطيف القبح. إذ تُخفى الوقائع خلف مصطلحات براقة، ويُتحدث عن الانتهاكات وكأنها إجراءات قانونية عابرة. وها نحن أمام أحد أخطر هذه المصطلحات: “الضم”، كلمة باردة، إدارية، تُنطق على منابر دبلوماسية وكأنها مجرد تعديل حدود أو خطوة تشريعية. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير. الضم ليس قانونا. الضم دفنٌ علني لفكرة العدالة، ومحاولة خنق جماعية لحلم الفلسطينيين بالحياة والكرامة.

عندما تُرفع الأيدي للتصويت، وحين تُعلن الخطوة رسميا ويبدأ الضم الفعلي، تدخل فلسطين مرحلة جديدة لا رجعة فيها. الاحتلال الذي لطالما قيل إنه مؤقت يتجذر، ويتحول من حالة استثنائية إلى واقع دائم. بدل الحديث عن إنهاء الاحتلال، يصبح الحديث عن شرعنته. وهنا يبدو الأمر كما لو أن الجنرال سلّم البندقية للقاضي، لا لتطبيق العدالة، بل ليمنح القوة صكاً قانونيا. نعلم ان ما تقوم به إسرائيل هو ممارسة قميئة للضغط على الفلسطينيين ودول الطوق: الأردن ومصر، من اجل المزيد من التنازلات السياسية والأمنية لصالح إسرائيل، لكن ذلك لن يحدث طالما كانت هناك قيادات واعية في الأردن ومصر تعي التهديد الوجودي الذي يمثله المتطرفون الصهاينة.

والضم وفق صيغة المتطرفين الصهاينة لا يمنح الفلسطينيين حقوقا، ولا يفتح أمامهم أبواب المواطنة أو المشاركة السياسية. فعلى العكس تماما سيخضعون للقوانين الإسرائيلية من دون أن يكونوا جزءاً من المجتمع الذي تفرض هذه القوانين باسمه. سيعيشون تحت حكم بلا تمثيل، وضرائب بلا حقوق، ومؤسسات بلا حماية — واقعٌ يعيد إلى الأذهان صفحات سوداء من تاريخ البشرية، ظن العالم أنه طوى صفحتها إلى الأبد.

والنموذج موجود أمامنا. في القدس الشرقية، منذ عقود يعيش الفلسطيني في منزله كضيف على أرضه. بطاقة إقامة بلا ضمان، خدمات مشروطة، حقوق منقوصة، وأفق سياسي مغلق. الضم لا يستحدث واقعا جديدا بقدر ما يوسّع هذا النموذج، ويمنح التمييز إطارا رسميا. إنها نظام فصل عنصري معلن، مهما اختلفت التسميات أو غلّفت الخطوات بغلاف قانوني.

المؤيدون للضم يقولون إن إسرائيل إنما “تُثبت الواقع”. وإن “الأرض كتابُ التاريخ ووعد السماء”. لكن أي قداسة تُنتج ظلما؟ وأي وعد يُجيز سلب إنسان أرضه وهويته؟ ما من نص سماوي أو أخلاقي أو سياسي يبرر استعباد شعب أو محو ذاكرة وطن. كل نظام يسلب إنسانا حقه ليحفظ حدودا، يسقط أخلاقيا مهما ارتفع علمه.

يقال أيضا إن الضم يضع نهاية للحلم الفلسطيني بدولة. كأن هذا الخبر جديد. فذلك الحلم محاصر منذ عقود — بالجدار، وبالحصار، وبالمفاوضات المتعثرة، وبالانتظار الطويل. لكن ما يُخشى اليوم ليس ضياع دولة على الورق، بل ضياع هوية، وجذور، وتاريخ، وحق في الوجود. الضم لا يكتفي بإعلان السيطرة على الأرض، بل يسعى لكتابة تاريخ جديد بلا صاحب، لوطن بلا أهل.

وماذا عن القانون الدولي؟ عن البيانات، والنداءات، والمواقف “القلقة”؟ كم من مرة قرأنا بيانات شجب هادئة بينما تُهدم بيوت وتُصادر أراضٍ وتُقام بؤر جديدة؟ القانون بلا قوة يصبح نصيحة أخلاقية. والعدالة التي لا تُطبّق تتحول إلى قصيدة جميلة، تُتلى ولا تُنفَّذ.

لكن رغم كل هذا، هناك حقيقة واحدة لا يمكن للضم دفنها: الحق لا يموت بالقرار، ولا يختفي بالتشريع. لو كانت سيطرة الاحتلال راسخة، لما احتيج لكل هذه المنظومات العسكرية والأمنية والقانونية والدولية لحمايتها. إن كثافة أدوات السيطرة دليل على هشاشة شرعيتها. فالأرض التي تحتاج إلى قانون لاحتلالها تعرف في داخلها أن صاحبها لم يرحل.

الفلسطيني الذي يقف رغم كل شيء، الذي يبني رغم الهدم، الذي يحتفظ بمفتاح بيت قُدم لجدّه، لا يقاوم بسلاح، بل بذاكرة. والمقاومة التي تُخيف الاحتلال ليست فقط في الحجر والسلاح، بل في الإصرار على الوجود، في اللغة، في الزيتون، في الأغاني، وفي القدرة على أن يحلم رغم الجدران.

الضم ليس نهاية القضية الفلسطينية. لكنه اختبار للعالم. اختبار لقيم العدالة التي يرفعها، ولقدرته على أن يرى الإنسان قبل الخرائط، والحق قبل القوة. فإن صمت العالم، فذلك لا يعني انتصار الظلم، بل يعني سقوط المبادئ التي ادّعى الدفاع عنها.

أما فلسطين، فليست قضية سياسية فحسب. إنها معيار أخلاقي. من يصدّق أن حقّ شعب يُمحى، سيقبل غدا أن تُمحى حقوق شعوب أخرى. ومن يقبل اليوم أن يُحكم بشر بلا حقوق، يفتح الباب لعالم تذوب فيه الحدود بين القوة والشرعية، بين القانون والقهر.

الضم ليس مستقبلا. إنه محاولة لدفن المستقبل. لكنه، كما تُعلّمنا الأرض التي لا تنسى أهلها، مجرد فصل آخر في قصة لم تُكتب نهايتها بعد — لأن الشعوب التي ترفض أن تُمحى، تكتب التاريخ ولو بعد حين.