في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة في الشرق الأوسط، تبرز إسرائيل كلاعب يعيد رسم ملامح المنطقة لا عبر التفاوض، بل باستخدام أدوات القوة العسكرية والاستخباراتية. هذا النهج، المدعوم أميركيا، لم يسهم في تعزيز الاستقرار، بل قوض دور واشنطن كوسيط نزيه، وورّطها في تحالف مكلف يضعف أولوياتها الإستراتيجية ويعزز مناخ الفوضى والصراع المستمر.
تل أبيب – لم يعد الشرق الأوسط في صورته الراهنة نتاج توازنات تقليدية أو تفاهمات إقليمية راسخة، بل تحوّل إلى ساحة يطبعها تغيّر عميق في منطق النفوذ، حيث تبرز إسرائيل كلاعب أساسي في إعادة تشكيل النظام الإقليمي، لا من بوابة التفاوض أو المعاهدات، بل عبر منطق القوة العسكرية والأمنية والاستخباراتية.
وفي هذا الإطار، تبنّت تل أبيب نهجا هجوميا قائما على أدوات غير تقليدية: طائرات مسيّرة، ضربات دقيقة عبر الحدود، اغتيالات، وهجمات إلكترونية تستهدف خصومها في العمق، من إيران إلى لبنان وسوريا واليمن، متجاوزة بذلك الخطوط الحمراء التي فرضها القانون الدولي لعقود.
ويرى الباحث بيتر رودجرز في تقرير نشره موقع مودرن بوليسي أن هذا التحول الجذري في عقيدة إسرائيل الأمنية والعسكرية لا يأتي من فراغ، بل يستند إلى دعم غير مشروط من الولايات المتحدة، التي وجدت نفسها، تدريجيا، طرفا مباشرا في ما يمكن تسميته بـ”نظام الفوضى المدارة”، حيث تُمارَس السياسة من خلال التفوق العسكري بدلا من أدوات الدبلوماسية.
وأدّى هذا التحالف الوثيق إلى إضعاف صورة واشنطن كوسيط محايد، وقوّض قدرتها على لعب دور الجسر بين الأطراف المتصارعة في المنطقة.
وبينما تتطلع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إعادة ترتيب أولوياتها الجيوسياسية نحو احتواء الصين وتعزيز حضورها في منطقة آسيا – المحيط الهادئ، تعيدها التحركات الإسرائيلية إلى مستنقع الشرق الأوسط، حيث النزاعات لا تنتهي، والتكلفة الإستراتيجية تتصاعد.
وأجبرت السياسات الإسرائيلية الأخيرة، خاصة في سياق الصراع المستمر في غزة، وتكثيف الضربات في لبنان وسوريا والعراق، واشنطن على تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، رغم رغبتها المُعلَنة في تقليصه. فالتحالف مع إسرائيل لم يعد مجرد التزام أمني، بل أصبح عبئا سياسيا وأخلاقيا، في ظل تنامي الغضب الشعبي في العالم العربي والإسلامي تجاه الممارسات الإسرائيلية، وامتداد هذا الغضب إلى سياسات الولايات المتحدة نفسها.
وعلى الرغم من أن بعض صناع القرار الأميركيين ما زالوا يرون في إسرائيل “أصلا إستراتيجيا” للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإن الوقائع على الأرض تُظهر عكس ذلك.
وكلما تعمّقت إسرائيل في منطق التفوّق العسكري، ازدادت الفوضى، وتوسّع نطاق العداء، وتعقّدت البيئة الأمنية في الإقليم بشكل يضر بالمصالح الأميركية المباشرة.
وأسهمت هذه الإستراتيجية الإسرائيلية في استنهاض أشكال جديدة من المقاومة غير الحكومية، تتجاوز الجيوش النظامية وتقوم على تنظيمات لامركزية مثل حزب الله والحوثيين وفصائل المقاومة الفلسطينية.
وتحدت هذه الكيانات، التي باتت أكثر تكيفا مع واقع الحرب غير المتكافئة، التفوق الإسرائيلي بأساليب جديدة، وأعادت تعريف معادلة الردع في المنطقة.
وفي هذا السياق، تفقد أدوات إسرائيل العسكرية فعاليتها السياسية، بينما تجد واشنطن نفسها عالقة في حلقة مفرغة من الدعم اللوجستي والعسكري الذي لا يحقق الاستقرار ولا يضمن السلام.
وإذ تتدهور قدرة الولايات المتحدة على لعب دور الوسيط، فإن القوى الدولية الأخرى، كالصين وروسيا، تملأ الفراغ، وتبني شراكات جديدة مع دول المنطقة تبحث عن بدائل للهيمنة الأميركية المتذبذبة.
وحتى الحلفاء التقليديون لواشنطن في المنطقة بدأوا بإعادة التوازن في علاقاتهم الخارجية، وتبنّي سياسات أكثر تنويعا، تنأى بهم عن الاصطفاف الكامل مع الولايات المتحدة.
ويشير رودجرز إلى أن ما تفعله إسرائيل ليس فقط تحديا للقانون الدولي، بل أيضا تفكيك لأسس النظام الإقليمي الذي طالما روّجت له الولايات المتحدة.
وبدلا من دفع المنطقة نحو حلول سياسية، تؤسس تل أبيب لواقع أمني جديد، تحكمه الصواريخ والطائرات المسيّرة، وتُحدَّد فيه خطوط الاشتباك عبر التفوّق لا عبر الاتفاق.
ويشير خبراء أمنيون إلى أن هذا لا يحمي إسرائيل، بل يعمّق مناخ العنف ويفتح المجال للمزيد من التصعيد، في وقت لم تعد فيه واشنطن قادرة أو راغبة في تحمل الأعباء.
وفي ضوء هذا الواقع، تبرز المعضلة الحقيقية أمام صانع القرار الأميركي: هل يُعقل أن تبقى السياسة الخارجية للولايات المتحدة أسيرة لرؤية إسرائيلية تُفضّل المواجهة على التسوية؟ وهل من المنطقي أن تضحي واشنطن بمستقبل حضورها العالمي، ومكانتها في الشرق الأوسط، ومصداقيتها في العالم الإسلامي، مقابل تحالف لم يعد يحقق التوازن، بل يُنتج الفوضى؟
وفي ظل هذه التطورات، فإن إعادة ترميم التحالف الأميركي – الإسرائيلي لا تقتضي فقط قرارا سياسيا، بل تستوجب إعادة صياغة شاملة للمفهوم الذي يُحدد مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وباتت واشنطن، التي طالما قدّمت نفسها كوسيط محايد قادر على التوفيق بين المتنازعين، ينظر إليها اليوم باعتبارها طرفا منحازا في صراع تغلب عليه منطق القوة لا السياسة.
ولم يكن هذا التبدل في الصورة الذهنية الأميركية نتاجا لحملات إعلامية مناوئة فحسب، بل جاء كنتيجة مباشرة لسلوكها الخارجي، الذي بدا في الكثير من المحطات متواطئا أو عاجزا عن كبح جماح التصعيد الإسرائيلي، سواء في غزة أو في لبنان أو في الجبهة السورية.
ولا يقوم التصوّر الجديد المطلوب فقط على تخفيف الدعم غير المشروط لتل أبيب، بل يتطلّب أيضا تحوّلا في آليات الفعل الأميركي من نمط “الاحتواء والدعم” إلى “الإشراف والتوازن”.
وهذا يعني أن واشنطن إذا أرادت استعادة مصداقيتها، فعليها أن تعيد تعريف دورها كقوة وسطية تقود عبر الشرعية الدولية، وتبني تحالفاتها لا على أساس الولاء السياسي فقط، بل على قاعدة الالتزام المشترك بمبادئ القانون، والاستقرار، والسيادة الوطنية للدول.
كما أن هذا التحول لا يمكن أن يكون نظريا أو خطابا دعائيا، بل يجب أن يُترجم إلى سياسات واضحة: التراجع عن تقديم الغطاء الدبلوماسي المستمر للممارسات الإسرائيلية أمام مجلس الأمن، فرض خطوط حمراء حقيقية تحدّ من العمليات الإسرائيلية العابرة للحدود، إعادة ضبط المساعدات العسكرية لتكون مشروطة بضمانات سياسية وإنسانية، والانخراط الجاد في مسارات تفاوضية متعددة الأطراف تشمل اللاعبين الإقليميين.
وبمعنى آخر، لم تعد المصلحة الأميركية تكمُن في التحالف المطلق مع إسرائيل، بل في بناء نموذج توازن يحمي مصالحها الأوسع، ويمنع انزلاق المنطقة نحو نزاعات غير قابلة للاحتواء.
ويؤكد محللون أن إعادة تقييم هذا التحالف باتت ضرورة إستراتيجية، لا من باب القطيعة، بل من منطلق المصلحة الأميركية ذاتها. فبدون تغيير جذري في النهج، والضغط على إسرائيل للعودة إلى منطق السياسة بدلا من منطق القوة، فإن الدور الأميركي في الشرق الأوسط سيتآكل، تاركا الساحة لقوى أخرى، ومكرّسا واقعا إقليميا يُدار بالصواريخ لا بالدبلوماسية.
جيوستراتيجيك ميديا ما وراء الخبر
