الرئيسية / أخبار / كيف أعاد بارونات المال تشكيل السياسة الأمريكية؟

كيف أعاد بارونات المال تشكيل السياسة الأمريكية؟

شهدت انتخابات 2024 ظهور جيل جديد من البارونات اللصوص، ويجسّد هذه الفئة إيلون ماسك. باستثناء التأثير العالمي للجيل الجديد، عكس أسلافهم الذين انحصر تأثيرهم على مستوى وطني، فإنهم للأسف لا يختلفون كثيرًا عن الجيل الأول من البارونات اللصوص الذي ظهروا قبل أكثر من قرن.

في عام 1859، قارن محرر صحيفة “نيويورك تايمز” هنري جارفيس ريموند بين قطب السكك الحديدية كورنيليوس فاندربيلت و”البارونات الألمان القدامى” الذين كانوا ينتزعون الإتاوات بالقوة من ركاب نهر الراين.

علقت كلمة “بارون” في الأذهان، وانضمت إليها بمرور الوقت كلمة “اللص” لتكوين مفهوم جديد هو “البارون اللص”، والذي يعد تعريفًا لمجموعة من الأفراد أصحاب النفوذ الذين يدمرون المنافسين ويسيطرون على الأسواق ويشكلون اقتصاد البلاد، وكان من بين البارونات اللصوص الآخرين جاي غولد (السكك الحديدية والتمويل)، وأندرو ميلون (التمويل)، وأندرو كارنيغي (الصلب)، وجون د. روكفلر (النفط). بمرور الوقت، تم تبييض سمعتهم السيئة والتغطية على جشعهم من خلال المؤسسات الخيرية والمباني الجامعية والمستشفيات.

وفي عام 1873، نشر مارك توين وتشارلز دودلي وارنر كتاب “العصر المذهب: حكاية اليوم”، وهو كتاب شهير يسخر من الجشع والفساد السياسي في تلك الفترة، وانتشر مصطلح “العصر المُذهَّب” الذي يشير إلى الفترة التي امتدت من سبعينيات القرن التاسع عشر إلى عام 1910.

لقد عمل كبار بارونات المال من الجيل الأول بالتعاون مع المحتالين من الشركات الأخرى وبدعم من المضاربين عديمي الضمير، على تشكيل اتحادات ضخمة احتكرت إنتاج وتوزيع السلع الأساسية، وعززت هذه القوة الاقتصادية نفوذهم السياسي؛ حيث سيطر البارونات اللصوص على السياسة في واشنطن العاصمة وفي العديد من الولايات. ومن خلال شجعهم اللامحدود، فرضوا حالة من الظلم الاجتماعي والأخلاقي على الفقراء والعمال والمهاجرين الجدد.

بشّرت نخبة البارونات اللصوص ومؤيديهم المأجورين، من سياسيين ولاهوتيين وإعلاميين، بأيديولوجية الاعتماد على الذات والنزعة الفردية، وفاقم ذلك من اليأس بين الطبقات التي عانت من النظام الاقتصادي الجديد. بالنسبة للرجال، كانت المصانع والمناجم والمزارع عبارة عن حفر للعبودية؛ أما النساء والأطفال فقد واجهوا ظروفا قاسية، واضطروا للعمل من 12 إلى 16 ساعة يوميًا مقابل أجور زهيدة. وفي عام 1886، تأسس الاتحاد الأمريكي للعمل بهدف النضال من أجل حقوق اليد العاملة الماهرة.

اليوم، تعدّ شركات ماسك وجيف بيزوس مؤسس أمازون ومارك زوكربيرغ مؤسس ميتا، مع عدة شركات أخرى، سليلة لشركات فاندربيلت وروكفلر، وهم حكام ما يمكن تسميته بـ”العصر المذهّب الثاني“.

إن شركات “التكنولوجيا الكبرى” اليوم عبارة عن تكتلات عالمية عملاقة تشمل ألفابت (غوغل) وأمازون وآبل وميتا (فيسبوك) ومايكروسوفت، ولكن هناك أيضًا شركات الأدوية الكبرى – مثل جونسون آند جونسون، وروش هولدينغ، وفايزر ونوفو نورديسك، وإيلي ليلي -، وشركات النفط الكبرى – مثل شل، وإكسون موبيل، وبي بي، وشيفرون، وكونوكو فيليبس -، وشركات التبغ الكبرى – مثل ألتريا، وفيليب موريس إنترناشيونال، وبريتيش أميركان توباكو -، وشركات الاتصالات الكبرى – مثل إيه تي آند تي، وفيريزون، وكومكاست. لقد حوّلت هذه الشركات الاقتصاد الأمريكي إلى دولة كارتيلات احتكارية.

البارونات اللصوص الجدد يدفعهم مزيج من الجشع والمكر السياسي الذي يمكّنهم من ممارسة نفوذ كبير، وربما السيطرة على الحكومات الفيدرالية وحكومات الولايات في جميع أنحاء البلاد. وعلى غرار البارونات اللصوص القدامى، ينخرط بارونات اليوم في ممارسات تجارية وسياسية جائرة، ويحاولون الاختباء خلف المؤسسات الثقافية البرجوازية الكبرى.

ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه اعتبارًا من عام 2023، أصبحت نسبة 1 بالمئة من العائلات الأمريكية تمتلك 30 بالمئة من صافي ثروة البلاد، والتي تقدر بـ 43 تريليون دولار.

ويضاف إلى ثراء الأغنياء وفائقي الثراء، تحول الاقتصاد العالمي من النظام “أحادي القطب” الذي كان سائدًا لفترة طويلة وفي مركزه الولايات المتحدة، إلى نظام “متعدد الأقطاب” تُنافس فيه الصين ودول أخرى نفوذ الولايات المتحدة. وكما أوضح جون ميرشايمر، فإن “التغيير في ميزان القوى خلق وضعًا يُبعدنا عن الأحادية القطبية باتجاه تعدد الأقطاب”.

لقد جلبت انتخابات 2024 هذا الجيل الجديد من البارونات اللصوص إلى الفضاء العام، وتقدر منظمة “أوبن سيكريتس” أن انتخابات 2024 “في طريقها لأن تصبح الأكثر تكلفة على الإطلاق، بقيمة إجمالية لا تقل عن 15.9 مليار دولار من النفقات، وسيتجاوز ذلك الرقم القياسي لانتخابات 2020 والذي بلغ 15.1 مليار دولار”.

لقد كانت انتخابات 2024 معركة أموال بين البارونات اللصوص، وأشارت مجلة فوربس إلى أن 83 مليارديرًا دعموا هاريس، مقارنة بـ 52 مليارديرًا دعموا ترامب، وهذا لا يشمل العديد من أصحاب الملايين الذين ساهموا في الحملات الانتخابية. وبغض النظر عن الفائز في الانتخابات، فإن الجيل الجديد من البارونات اللصوص هم من اشتراها.

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن العديد من البارونات اللصوص الجدد يدعمون مدمني العملات الرقمية بقوة. ففي عام 2019، كتب ترامب على تويتر أن البيتكوين “ليست أموالا” وانتقدها باعتبارها “متقلبة للغاية وليست لها قيمة واقعية”، وذهب أبعد من ذلك، مؤكدا أنه “لدينا عملة حقيقية واحدة فقط في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أقوى من أي وقت مضى؛ اسمها دولار الولايات المتحدة!”.

لكنه غيّر لهجته تجاه البيتكوين خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، ففي أغسطس/ آب الماضي، أفادت التقارير أن لديه مليون دولار من العملات المشفرة، كما تلقى 7.5 مليون دولار من داعمي العملات الرقمية بتشجيع من ماسك، والذي يعد رائدًا في مجال العملات الرقمية. وأعلن ترامب قائلًا: “لقد انتهكت حكومتنا القاعدة الأساسية التي يعرفها جيدا كل من يعمل بالبيتكوين: لا تبع عملتك من البيتكوين أبدًا”، ثم تعهد بعد ذلك: “إذا تم انتخابي، ستكون سياسة إدارتي هي الاحتفاظ بنسبة 100 بالمئة من عملات البيتكوين التي تملكها الحكومة الأمريكية حاليًا أو قد تستحوذ عليها في المستقبل”.

إن العملات الرقمية المشفرة هي أصول رقمية خاصة لا تخضع لسيطرة أي سلطة مركزية، وبالتالي من المحتمل أن تتحدى هيمنة الدولار والنظام المالي الأمريكي، وكما أوضح أحد التحليلات: “توفر العملات الرقمية المشفرة بديلاً للدولار – وللعملات الأجنبية بشكل عام – لا يخضع لنفس الضغوط السياسية والتنظيمية، ويرجع ذلك إلى أن العملات الرقمية المشفرة لا مركزية، مما يعني أنها أقل عرضة للتدخل السياسي، مثل تلاعب الحكومة بأسعار الفائدة أو ضوابط العملة”.

إن تبني ترامب للعملات الرقمية المشفرة يمهد الطريق أمام المتداولين للعبث بالاقتصاد الأمريكي.

ومما يثير القلق بالقدر ذاته أن البارونات اللصوص الجدد سيطروا بشكل متزايد على وسائل الإعلام الأمريكية. ففي الماضي، كانت شركة هيرست تمتلك 28 صحيفة في المدن الكبرى، وخدمة إخبارية مدفوعة، ومحطات إذاعية، ونشرات إخبارية، و13 مجلة. أما اليوم فقد أصبح أباطرة الإعلام أكثر هيمنة بكثير؛ حيث تتفوق خدمات البث عبر الإنترنت على وسائل الإعلام التقليدية.

ويتجلى تقلص دور وسائل الإعلام التقليدية في أن مالك صحيفة واشنطن بوست (جيف بيزوس مالك أمازون) ومالك صحيفة لوس أنجلوس تايمز (رجل الأعمال في مجال التكنولوجيا الحيوية باتريك سون شيونغ) أصدرا توجيهات إلى رؤساء التحرير بعدم تأييد نائبة الرئيس هاريس، وهناك أيضًا بارونات لصوص آخرون يملكون وسائل الإعلام:

  • استحوذ ماسك على تويتر وغيّر اسمه إلى “إكس”.

  • رجل الأعمال جون هنري اشترى صحيفة بوسطن غلوب.

  • بارونات المال الأكبر سنا: روبرت مردوخ الذي يسيطر على شركة نيوز كورب، ومايكل بلومبرغ الذي يدير شركة بلومبرغ إل بي وبلومبرغ ميديا، وشيلدون أديلسون الذي استحوذ على صحيفة لاس فيغاس ريفيو جورنال، ومارك بينيوف (مدير شركة سيلزفورس) الذي اشترى مجلة تايم.

  • لورين باول جوبز، زوجة مؤسس شركة آبل ستيف جوبز، تمتلك صحيفة ذي أتلانتيك.

قبل قرن من الزمان، شن تيدي روزفلت والتقدميون حربًا على الظلم الاقتصادي وصعود الصناديق الاتئمانية والكارتلات، وواجهوا ذلك الجيل من البارونات. لكن للأسف، ليس هناك اليوم روزفلت آخر ليتصدى للجيل الجديد من البارونات اللصوص.