لا شك أن ما يحدث الآن في لبنان وقطاع غزة يمثل منعطفا مهما ومرحلة أساسية من مراحل ترسيم قواعد النظام العالمي الجديد. فالشرق الأوسط في النهاية هو إحدى مناطق الصراع والنفوذ، وبالتالي فإن الأمر يتجاوز في تأثيراته الإستراتيجية بعض الفاعلين الرئيسيين في المشهد الصراعي مثل التنظيمين المتطرفين حركة “حماس” و”حزب الله” اللبناني، لأنهما في النهاية مجرد “دمى” تحركها قوى إقليمية تسعى بدورها إلى تغيير قواعد اللعبة وفرض ما يسمى بمحور المقاومة كلاعب أساسي في المنطقة.
بلا شك أنه من الصعب الآن بناء توقعات أو تقديرات دقيقة حول مآلات الأحداث في جنوب لبنان وغزة، لأن المسألة لا تقاس بمسار الحروب فقط، بل ترتبط أساسا بما ستؤول إليه النقاشات على مائدة التفاوض التي سينتهي إليها ما يحدث الآن سواء بشكل علني أو سري، أو بكليهما معا. ولكن ما يمكن توقعه هو أن هناك واقعا إستراتيجيا جديدا يلوح في أفق الشرق الأوسط. وهنا يمكن قراءة المشهد في إطاره الجيوإستراتيجي والجيوسياسي الأوسع والأشمل، والذي يضم بؤرا صراعية إقليمية موازية مثل السودان وليبيا واليمن والقرن الأفريقي وما يدور فيه.
أحد السيناريوهات المتوقعة يتمثل في نجاح إسرائيل في تحقيق هدفها الخاص بالقضاء على تهديدات حزب الله اللبناني، وذلك في إطار محاصرة ما وصفه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأذرع الأخطبوط الإيراني، والسعي لاحقا للقضاء على “رأسه”. وقد حققت دولة إسرائيل في ذلك نتائج مهمة، أبرزها القضاء على جميع قيادات حزب الله اللبناني، وهي مسألة ستؤثر لا محالة في فاعلية الحزب وقدرته على اتخاذ القرار، حيث يحتاج إلى وقت طويل لإعادة ترتيب هياكله وملء فراغ القيادة الناشئ عن الاغتيالات الأخيرة. وهي مسألة حقيقية رغم شراسة القتال الدائر في جنوب لبنان بين عناصر الحزب والجيش الإسرائيلي، لأن البنية التحتية القتالية للحزب لا تزال تعمل في معظمها، وبالتالي لم يكن يتوقع القضاء على هذه البنية تماما بمجرد القضاء على القيادات.
تحجيم خطر حزب الله وتحييد الحوثيين سيدفعان دولة إسرائيل على الأرجح إلى الذهاب إلى المرحلة الثانية من التخطيط الإستراتيجي، وهي القضاء على البنية التحتية للمشروع النووي الإيراني لاستكمال حلقات إنهاء التهديدات التي تواجه دولة إسرائيل. وهي خطوة ربما ترى حكومة بنيامين نتنياهو أن الوقت الراهن يمثل الفرصة المثالية السانحة لتحقيقها، سواء من حيث المعطيات القتالية ولجم قدرة الأذرع الإيرانية على الرد، أو من حيث الدعم الأميركي المطلق مدفوعا بحسابات الانتخابات الرئاسية الأميركية التي كلما اقتربت كلما ازداد حماس إدارة جو بايدن لإبداء دعمها لإسرائيل من دون أي تردد أو محاذير خشية أن يؤثر أي تهاون في نتائج اقتراع نوفمبر المقبل.
في حسابات الأرباح والخسائر من وجهة النظر الإسرائيلية، نجد أن هناك إغراء يلوح في الأفق للانقضاض على المنشآت النووية الإيرانية، ولكن دولة إسرائيل قد لا تجد نفسها في عجلة من أمرها حتى تهيئ الظروف اللازمة لذلك بشكل تام، وفي مقدمة هذه الظروف استدراج إيران لتنفيذ هجمات كبيرة ضد إسرائيل بما يوفر للأخيرة مشروعية الرد وفقا للطريقة التي تراها ملائمة لتحقيق أمنها والتصدي لما تتعرض له من تهديدات.
بلا شك أن إسرائيل قد نجحت في استغلال الهجوم الدموي لحماس في السابع من أكتوبر لتحقيق أهداف أوسع وأشمل من فكرة النصر والهزيمة التي تسعى إليها ميليشيات من منظورها المصالحي الضيق. وهذا أمر طبيعي يعكس الفارق بين تفكير إستراتيجي عميق لدولة مثل إسرائيل، وميليشيا تسعى لتحقيق انتصارات تلفزيونية تجذب بها آهات وقلوب الإعجاب من جمهور اللحظة. والنتيجة المتوقعة لكل ما يحدث على هذا الصعيد هو شرق أوسط جديد لم تسعَ إليه دولة إسرائيل بقدر ما نجحت في استغلال الظروف والمعطيات التي وفرتها لها التنظيمات الميليشياوية الإيرانية في اليمن وغزة ولبنان والعراق، والتي منحت إسرائيل هدايا مجانية لإعادة ترسيم قواعد اللعبة الشرق أوسطية وحرق المراحل على هذا الصعيد.
قواعد اللعبة الجديدة في الشرق الأوسط ستكون على الأرجح خالية من اللاعبين من غير الدول، للمرة الأولى منذ عشرات السنين، حيث يتوقع اختفاء أو انتهاء أدوار الأذرع الإرهابية الإيرانية. ولكن هذا الأمر يبقى في الحقيقة مرهونا بحجم الجهود التي تبذل إقليميا ودوليا لاستكمال حلقات الفعل الإسرائيلي العسكري، ولكن على الصعيد السياسي والدبلوماسي. ففي النهاية ستنتهي هذه الحروب على موائد التفاوض، وهي فرصة سانحة قد لا تحين مرة ثانية إذا لم تستغل بشكل جيد، للقضاء على الفوضى التي تسود المنطقة بفعل هذه الميليشيات التي لا تهدد دولة إسرائيل فقط، بل تبقى شوكة في خاصرة دول مثل العراق ولبنان واليمن، وتحول دون استكمال هذه الدول سيادتها على أراضيها.