أثار حصول حزب “جبهة العمل الإسلامي”، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، على 31 مقعدًا من أصل 138، بنسبة 22% من أعضاء المجلس النيابي، في الانتخابات البرلمانيةالتي شهدتها المملكة في 10 سبتمبر/أيلول الجاري، الكثير من التساؤلات عن هذا الفوز اللافت وغير المتوقع بالنسبة لكثير من المراقبين.
وحصل الحزب على 17 مقعدًا من أصل 41 مخصصة للقوائم العامة في المملكة، فضلًا عن 14 مقعدًا على صعيد القوائم المحلية، منها 9 مقاعد عن دوائر العاصمة عمّان الثلاث، ومقعدان لكل من محافظتي الزرقاء والعقبة، ومقعد واحد لدائرة إربد الأولى.
وحصد الحزب 4 من المقاعد المخصصة للنساء، إلى جانب نجاح 4 نساء أخريات ضمن القائمة الوطنية، ليصبح مجموع عدد النساء الفائزات رقمًا قياسيًا لم يسبق تحقيقه من قبل، هذا بخلاف حصده المقعدين المخصصين للشركس والشيشان، فيما كان الحدث الأبرز هو الفوز بالمقعد المسيحي الوحيد في عمّان، والحصول على أصوات غير مسبوقة في المناطق ذات البعد العشائري، لا سيما بدو الشمال وبدو الجنوب.
المفاجأة هنا أن الحزب الإسلامي الذي غاب عن المشهد – بفعل فاعل – لأكثر من ثلاثة عقود كاملة، عاد بقوة ليفرض نفسه كأحد اللاعبين المؤثرين في المشهد السياسي الأردني، خاصة بعد تفوقه وبمسافات كبيرة عن أحزاب لها ثقلها وحضورها على الساحة مثل أحزاب: “إرادة” و”الميثاق” و”الوطني الإسلامي”.
ورغم تواضع نسبة المشاركة في تلك الانتخابات والتي بلغت 32.25% (عدد المصوتين بلغ مليوني و638 ألفًا و351 شخصًا، من أصل أكثر من 5 ملايين ناخب يحق لهم التصويت) فإن حصول الإسلاميين على هذا العدد من المقاعد فتح الباب أمام العديد من التكهنات التي لا يمكن قراءتها بطبيعة الحال بمعزل عن التطورات الإقليمية وعلى رأسها حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال ضد قطاع غزة والضفة ومخطط التهجير الذي يهرول اليمين المتطرف الإسرائيلي في تنفيذه في أسرع وقت.
عودة بعد 3 عقود
المرة الأخيرة التي حضر فيها الإخوان برلمانيًا وحققوا مقاعد ذات تأثير واضح كانت انتخابات عام 1989، حينها حصدوا 22 مقعدًا، وكانوا التيار الأكثر حضورًا بين القوى السياسية في المشهد الأردني، ثم اتسعت مشاركتهم ونفوذهم فيما بعد، فترأسوا المجلس النيابي لثلاث دورات متتالية، كما شاركوا بخمسة وزراء في عام 1991، وواصلوا هذا الحضور – حتى التراجع نسبيًا – في انتخابات 1993 وحصلوا وقتها على 17 مقعدًا.
وفي خضم هذا الحضور والنفوذ المتنامي، أسس الإخوان حزب “جبهة العمل الإسلامي” عام 1992، بالتعاون مع شخصيات إسلامية عامة ذات ثقل كبير، ليصبح ذراعهم السياسية وأداتهم لتعزيز حضورهم على الساحة.
واستمرت الجماعة وحزبها في الحفاظ على حظوظها السياسية على الخريطة الأردنية، رغم تضييقات السلطة الحاكمة في المملكة والتي أثار حضور الإخوان حفيظتها بشكل كبير، حتى توقيع اتفاقية وادي عربة مع الكيان المحتل عام 1994، وفك الارتباط بالضفة الغربية، لتدخل العلاقات بين الجماعة والسلطة نفقًا مظلمًا من التوتر والخلافات المتصاعدة.
وبينما كانت السلطة الأردنية تدافع وبشدة عن اتفاقية التطبيع مع “إسرائيل” تصدت الجماعة الإسلامية لهذه الخطوة، معلنة رفضها القاطع لها، وهو ما وضعها في مرمى الاستهدافات السلطوية التي حاولت قدر الإمكان تقويض الإخوان وتقليم أظافرهم عبر التضييق والتنكيل بهم، وهو ما دفع الجماعة لمراجعة مشاركاتها السياسية الرسمية على الساحة الداخلية، حتى وصل إلى مرحلة تعليق تلك المشاركة والتي بدأت أولى إرهاصاتها بمقاطعة الانتخابات النيابية لعام 1997.
ومنذ ذلك الحين يغيب الإخوان عن المشهد السياسي الأردني بشكله الرسمي، وإن كانت لهم أنشطة شعبية وسياسية غير رسمية، حتى عادوا مجددًا عبر الباب الكبير، الانتخابات البرلمانية، التي وضعتهم مرة أخرى على رأس قائمة اللاعبين المؤثرين على الساحة، معلنة تبلور مرحلة جديدة من العمل السياسي في الأردن.
غزة كلمة السر
فجّر هذا الفوز اللافت للإسلاميين ينابيع التكهنات والاجتهادات لدى المراقبين للوقوف على أسباب ما حدث بشكل موضوعي، نظرًا لما يمثله من نقطة مفصلية قد يكون لها ما بعدها، داخليًا وخارجيًا، وكان التساؤل الأبرز الذي فرض نفسه على ألسنة الكثيرين: هل كان للإسلاميين أن يحققوا هذا الفوز بعيدًا عما يحدث في غزة؟ أو بمعنى آخر: ما علاقة هذا الفوز بالحرب الدائرة الآن في غزة والضفة وبقية مدن فلسطين المحتلة؟
يربط المراقبون بين نجاح الإسلاميين في الانتخابات والمشهد الفلسطيني المجاور، فالدعم الذي قدمه الإخوان للمقاومة وتبنيهم لتلك القضية، في ظل التزام الكثير من القوى السياسية الأردنية الأخرى الصمت، كان عاملًا مفصليًا في قلب الكفة لصالح التيار الإسلامي، لا سيما بعدما وجد الأردنيون أنفسهم في خضم المعركة إثر تلويح حكومة الاحتلال بورقة الترانسفير وتهجير الفلسطينيين إلى شرق النهر في الأردن.
ومنذ طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أصبحت القضية الفلسطينية – وبعد سنوات من التسطيح والتهميش – ترمومتر الشارع السياسي الأردني، فمن يدعمها فهو الأحق بالدعم الشعبي، ومن يتخلى عنها فلا حضور له على المستوى الجماهيري، ومن هنا جاء فوز الإسلاميين.
لم تكن غزة السبب الوحيد وراء هزيمة الأحزاب الأخرى أمام الإسلاميين، فهناك عوامل لا تقل أهمية على رأسها حالة السخط الشعبي على الحكومة من قبل الشارع الأردني، بسبب عدم تحقيق إنجازات حكومية ملموسة وتردي الوضع المعيشي بما أثقل كاهل الأردنيين، بالإضافة إلى الدرجة الكبيرة من التماسك الحزبي لدى أعضاء حزب “جبهة العمل الإسلامي” وقياداته، كما يشير الوزير السابق وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأردنية الدكتور أمين المشاقبة.
كما اعتبر آخرون تلك النتائج غير المتوقعة بمثابة “رسالة احتجاج من قِبَل الناخب الأردني على انحياز مؤسسات الدولة لبعض الأحزاب الناشئة في العملية الحزبية والسياسية على حساب أحزابٍ أخرى، إذ كان واضحًا أن هناك أحزابًا تحظى بالرعاية الرسمية، وأخرى لا، فكانت النتائج مغايرة للتوقعات” وفق ما ذهب الكاتب والمحلل السياسي عريب الرنتاوي.
رسالة للكيان المحتل
قد تكون شعارات التحديث السياسي وفتح الباب أمام جميع اللاعبين لإنعاش المشهد المأزوم داخليًا بسبب انسداد الأفق لسنوات عدة، والتي تشهرها السلطات الأردنية وإعلامها الرسمي وغير الرسمي، تبريرًا للنتائج المفاجئة التي خرجت بها الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حاضرة بشكل نسبي.
وفي ظل الخصومة التاريخية بين الإخوان تحديدًا والسلطة السياسية في المملكة، وهي الخصومة التي تعمقت أكثر بتنامي نفوذ المقاومة الفلسطينية لا سيما حركة حماس في الداخل الأردني، فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يسفر هذا الماراثون عن نتائج بتلك الكيفية دون ضوء أخضر من السلطات ورغبة في إفساح المجال للإسلاميين للوصول إلى المشهد، وإن كان وصولًا منضبطًا إلى حد ما.
وتميل بعض الأصوات إلى أن المرونة السلطوية الأردنية في مراقبة الانتخابات الأخيرة، والسماح لها ببعض النزاهة، ورفع اليد جزئيًا عن كل مفاصلها كما كان في السابق، ما ساهم في تعزيز حظوظ الإسلاميين والفوز بهذا الكم من المقاعد، في حقيقته رسالة إنذار تحاول عمّان إيصالها للكيان المحتل ردًا على مخطط التهجير الذي ينوي تنفيذه منذ عملية طوفان الأقصى.
الكاتب والصحفي اللبناني، حازم الأمين، وصف ما حدث بأنه “إجابة أردنية” عما أسماه المساعي الإسرائيلية ونواياها لجهة تهجير سكان الضفة الغربية لنهر الأردن إلى شرق النهر، وما يمثله ذلك من مخاطر وجودية للأردن ربما تهدد كيانه بالكلية، لافتًا إلى أن عمّان بعثت برسالة واضحة لحكومة نتنياهو المتطرفة مفادها أنه إذا ما كان هناك إصرار على المضي قدمًا في تنفيذ مخطط تهجير الفلسطينيين للأردن، ترجمة لمؤامرة “الوطن البديل” فإن الرد سيكون بمنح الإسلاميين – المناوئين لدولة الاحتلال والداعمين للمقاومة وأصحاب نظريات الجهاد بالنفس والروح – الفرصة للمشاركة في المشهد والتصدي لهذا المخطط بشكل رسمي كونهم جزءًا من منظومة صناعة القرار في المملكة.
ويضيف الأمين في مقال له إن “عمان قالت لتل أبيب صبيحة الانتخابات بأن اللعب الديموغرافي سيأخذنا إلى مشهد مختلف شرق النهر، والترانسفير سيزخم حضور الإخوان في المملكة، وسينقلهم من البرلمان إلى الحكومة”، لافتًا إلى أن حساسية الدولة العميقة في الأردن حيال علاقة جماعة الإخوان داخل المملكة بحماس والمقاومة الفلسطينية، تراجعت أمام المخاطر الوجودية التي تشكلها حكومة بنيامين نتانياهو على المملكة، كما أوضح أن الإخوان بعدما باتوا شركاء في البرلمان الجديد وفي ظل انتخابات أُجريت بموازاة الحرب على غزة، أصبحوا إحدى الإجابات الأردنية على ما يحصل في الضفة الغربية.
رسالة أخرى – وإن كانت بعيدة نسبيًا – بعثت بها عمّان من خلال نتائج تلك الانتخابات، بحسب الكاتب اللبناني، إذ إن فوز الجماعة المصنفة كجماعة إرهابية في بعض دول الخليج إلى البرلمان وبهذا الكم من المقاعد بعد غياب سنوات طويلة، يعكس طبيعة التوتر الصامت بين الأردن ودول اتفاقات “أبراهام” التي زادت من مخاوف المملكة ديموغرافيًا جراء عدم ربطها بين السلام وحق الفلسطينيين بدولة مستقلة في الضفة الغربية والقدس، وعليه كان لا بد من تحذير تلك الدول الموقعة على هذا الاتفاق باحتمالات السلام المجاني والتي من بينها عودة الإخوان للمشهد مرة أخرى.
ماذا عن القادم؟
السؤال الذي يفرض نفسه حاليًا بعد فوز الإسلاميين في تلك الانتخابات: هل ينجح الإخوان في توظيف المشهد لتعزيز حضورهم ومعالجة الأخطاء والسلبيات الماضية وتصحيح الصورة المشوهة التي رسمها خصومهم في أذهان الشارع الأردني؟ ثم السؤال الأبرز: هل تسمح السلطات الأردنية لهم بذلك؟
وللإجابة عن هذين السؤالين هناك فريقان: الأول يرى إمكانية تحقيق الإخوان نجاحات عدة بعد الوصول إلى البرلمان مجددًا، إلا أن هذا الأمر يتطلب الدخول في ائتلافات مع كتل برلمانية أخرى للحصول على الأغلبية بما يسمح لهم بفرض تشريعات معينة أو رفض سياسات قائمة بالفعل، ما يجعلهم مؤثرين في المشهد عمليًا، علمًا بأن هذا الأمر ليس سهلًا على الإطلاق في ظل حالة التربص المحتملة من السلطات والأحزاب الموالية لها داخل البرلمان.
أما الفريق الثاني فيستبعد هذا الحضور المؤثر من الإسلاميين رغم هذا الفوز الكبير، كما أشار أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، خليل العناني، الذي أرجع غياب تأثيرهم إلى عدة أسباب منها: أن السلطويات العربية تمنع وتعرقل وجود تأثير حقيقي للبرلمانات فيما يخص إصدار أو تعطيل إصدار القوانين والتشريعات، وأنها تستغل الانتخابات لشرعنة سلطويتها وبقائها في السلطة، كذلك استغلالها للعملية الانتخابية خاصة لو فاز الإسلاميون بعدد من المقاعد لابتزاز الداخل والخارج، وأخيرًا أن السلطويات العربية ومنها الأردن “لم ولن تتورع عن قمع مخالفيها والانتقام منهم عندما يحين الوقت المناسب لذلك. ولنا في خبرة العقدين الماضيين عبرة وعظة” على حد قوله.
وفي الأخير.. يمكن القول إن الإسلاميين في الأردن بوصولهم للبرلمان، بعد غياب لأكثر من ثلاثة عقود، قد نجحوا في تجاوز الحاجز الأول، لتتبقى أمامهم حواجز وتحديات عدة تتطلب العمل المكثف والحذر والحيطة وتعلم دروس التجارب السابقة، وإعادة تقييم المشهد وفق تطوراته الأخيرة، ومحاولة توظيف المستجدات التي تشهدها الساحة الإقليمية لعدم تكرار سيناريوهات الماضي.. فهل يعوا الدرس؟