الإمارات نجحت في إستراتيجيتها القائمة على إحداث توازن في علاقاتها الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة. الأولى جعلتها محور مبادرة الحزام والطريق وتراهن عليها في تأمين تدفقات النفط، والثانية تراهن عليها في تأمين النفط الموجه إلى الهند ضمن مقاربة التنافس بين نيودلهي وبكين.
أ تؤكد الصفقات التاريخية الأخيرة بين الصين والولايات المتحدة أهمية الإمارات العربية المتحدة المتواصلة لإستراتيجيات القوتين العالميتين في الشرق الأوسط وللأسباب نفسها تقريبا. وكانت الصفقة الأولى هي توقيع اتفاقية تحالف إستراتيجي في 25 يوليو بين المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري وشركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) لتعميق التعاون. وتكمن الصفقة الثانية في توقيع شراكة إستراتيجية بين إكسون موبيل الأميركية وأدنوك لإنشاء أكبر منشأة للهيدروجين منخفض الكربون في العالم.
وتتجاوز أهمية الإمارات بالنسبة إلى الصين والولايات المتحدة هذه الصفقات، فموقعها الجغرافي يجعلها مركزا مثاليا للطاقة بين الشرق والغرب، ويدعمه عدد كبير من الموانئ ومرافق التخزين المنتشرة عبر الإمارات السبع، أبوظبي وعجمان ودبي والفجيرة ورأس الخيمة والشارقة وأم القيوين.
وتتمتع الفجيرة بموقع إستراتيجي مفيد للتعامل مع أيّ انقطاع محتمل في إمدادات النفط قد يأتي من إيران ووكلائها الإقليميين، وخاصة الحوثيين، وهذا بفضل موقعها خارج الخليج وعلى بعد 160 كيلومترا من مضيق هرمز شديد الحساسية سياسيا، والذي يمر عبره حوالي 30 في المئة من نفط العالم.
ويرى الكاتب سيمون واتكينز في مقال لموقع أويل برايس الأميركي أن الإمارات واحدة من مراكز تسعير النفط الرئيسية في العالم، ما مكّنها من التوسع السريع في تدفقات تجارة الطاقة القادمة من مركز دبي للسلع المتعددة.
وتسمح سعة التخزين الأكبر من الفجيرة للمتداولين بمرونة أكبر في صفقاتهم، وتدعمهم بنية تحتية مالية أنشأتها سلطاتها. وتعزز ذلك أكثر بفضل التطور السريع لبورصة أبوظبي أنتركونتيننتال للعقود الآجلة (إيفاد) التي تتخذ من أبوظبي مقرا لها، مع تركيزها على تداول العقود الآجلة لخام مربان الخفيف الحلو. وشكّل هذا حوالي نصف إجمالي إنتاج النفط الخام في الإمارات الذي قارب 4 ملايين برميل يوميا قبل تفشي كوفيد سنة 2020. وتزامن النمو في القدرات الإماراتية التجارية مع تطوير خططها لتوسيع إنتاجها النفطي الكبير بالفعل (البالغ حوالي 4 ملايين برميل يوميا خلال السنوات الأخيرة) إلى 5 ملايين برميل يوميا.
وجعلت الصين الإمارات محورا رئيسيا للقسم الشرق أوسطي من مبادرة الحزام والطريق عندما أطلقها الرئيس شي جينبينغ في 2013. كما تمارس بكين من خلال “اتفاقية التعاون الشامل بين إيران والصين لمدة 25 عاما” نفوذا هائلا على ما يحدث في الخليج ومضيق هرمز. وتسيطر، من خلال صفقات أخرى مماثلة في المنطقة، على مضيق باب المندب، الذي يتواصل شحن النفط الخام من خلاله صعودا عبر البحر الأحمر باتجاه قناة السويس قبل نقله إلى البحر المتوسط ثم غربا.
وستشهد الاتفاقية الجديدة بين المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري وأدنوك مزيدا من التعاون في مجالات استكشاف وإنتاج النفط والغاز وخدمات حقول النفط وتجارة النفط الخام والغاز الطبيعي المسال. وذكرت المؤسسة الوطنية الصينية للنفط البحري مؤخرا أنها تكثف التعاون مع الدول المشاركة في برنامج مبادرة الحزام والطريق، بعد أن دخلت لأول مرة أعمال الاستكشاف في الإمارات سنة 2019.
واحتفلت الإمارات في العام الماضي بالذكرى السنوية العاشرة لإطلاق مبادرة الحزام والطريق. وتؤكد البيانات الرسمية أن حوالي 90 في المئة من التجارة الإماراتية غير النفطية المسجلة خلال تلك السنة جاءت من الدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق. والصين أكبر شريك تجاري غير نفطي للإمارات في 2023، حيث تمثل 12 في المئة من إجمالي تجارتها. ويعزز توسيعها لنفوذها في الإمارات إستراتيجيتها الهادفة لممارسة سيطرة متزايدة على طرق نقل الطاقة الرئيسية.
وقد يكون العنصر الأهم للصين من هذه الأرقام أنها تحتفظ بالإمارات كشريك إستراتيجي في الخليج بالرغم من محاولات واشنطن استقطاب أبوظبي لصفها. وبالنسبة إلى الإماراتيين، فإن التنافس الصيني – الأميركي أمر عادي، فهو يدخل ضمن مقاربة الدولة لتنويع الشركاء على قاعدة المصالح المتبادلة والعلاقات القائمة على الندية.
واعتبرت واشنطن في 2020 الإمارات حيوية لخططها للشرق الأوسط بعد انسحابها من جانب واحد من خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران سنة 2018. وتضاعفت أهميتها مع عمليات الانسحاب من أفغانستان والعراق.
وبدت الإمارات في وضع مثالي للعب دور رئيسي في خطط واشنطن لوضع الهند منافسا متزايدا للصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
واندلع خلال تلك الفترة اشتباك عسكري بين الهند والصين في الأراضي المتنازع عليها في وادي غالوان في جبال الهيمالايا. ورأت واشنطن أن هذا قد يمثل إستراتيجية صد جديدة من الهند ضد سياسة الصين في السعي لزيادة تحالفاتها الاقتصادية والعسكرية من خلال مبادرة الحزام والطريق.
وتصورت الولايات المتحدة أن يتردد صدى هذا التراجع العسكري في رغبة الهند الاقتصادية في إحراز تقدم جوهري في سياسة “الجوار أولا” كبديل لبرنامج مبادرة الحزام والطريق.
وما يساعد خطط واشنطن أن التنمية الاقتصادية السريعة في الهند ستتطلب توسيعا هائلا في طلبها على النفط والغاز. وتوقعت وكالة الطاقة الدولية حينها أن الهند ستشكل الحصة الأكبر من نمو الطلب على الطاقة بنسبة 25 في المئة على مدى العقدين المقبلين.
وربما كان الأمر الغريب بالنسبة إلى الكثيرين هو تمتع الإمارات بعلاقة وثيقة وفريدة من نوعها مع الهند في مجال الطاقة. وكانت أدنوك حينها الشركة الخارجية الوحيدة المسموح لها بالاحتفاظ باحتياطيات البترول الإستراتيجية ذات الأهمية الحيوية في الهند وتخزينها.
ثم وافقت الحكومة الهندية على اقتراح يسمح لأدنوك بتصدير النفط من احتياطي البترول الإستراتيجي إذا لم يُسجّل طلب محلي عليه. ويكون ذلك أولا من مرفق التخزين الإستراتيجي في مانغلور، مع وجود الاحتياطيات البترولية الإستراتيجية الرئيسية الأخرى في بادور (ضاحية كانتشيبورام).
وشكّل هذا القرار تحولا كبيرا في سياسة الهند في التعامل مع احتياطيات الطاقة الحيوية، حيث حظرت البلاد سابقا جميع صادرات النفط من مرافق تخزين احتياطي البترول الإستراتيجي.
وتصورت واشنطن لذلك إمكانية بناء حلقة حميدة من القوة الدبلوماسية والاقتصادية والجيوسياسية، تحتل فيها الإمارات موقعا حيويا متزايدا في احتياجات الهند المزدهرة من النفط والغاز، بما يعزز تهديدها الاقتصادي والسياسي للصين باعتبارها اللاعب المهيمن في آسيا والمحيط الهادئ، ما يمكن أن يضاعف الموارد الإماراتية المالية (حيث كانت البلاد تسعى للتعافي من حرب أسعار النفط 2014 – 2016) من خلال زيادة مبيعات الطاقة.
ويمكن أن يرسّخ هذا دور الإمارات في مجال نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وكانت هذه العوامل المتعددة سبب توقيع الإمارات اتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل بوساطة أميركية في 13 أغسطس 2020.
لكن هذا لم يمنع الصين من مواصلة تطوير علاقتها مع الإمارات، وهو ما مثل إشارة سلبية لمساعي الولايات المتحدة.
لكن صفقة إكسون موبيل الأخيرة مع أدنوك قد تشير إلى محاولة جديدة للتقارب التدريجي بين واشنطن وأبوظبي على نطاق أوسع، بعد برود ناجم عن إستراتيجية إدارة جو بايدن التي اتّسمت بالغموض تجاه دول الخليج، كما أنها أرجأت العمل باتفاقية الدفاع المشتركة التي تم توقيعها في عهد دونالد ترامب.
وذكرت مصادر رفيعة المستوى في مجال أمن الطاقة في واشنطن تحدثت إلى موقع أويل برايس أن الولايات المتحدة تعتقد أن جهودها الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق دائم لإنهاء الحرب المستمرة بين إسرائيل وحماس قد تسمح أيضا ببداية تقارب أوسع مع الإمارات.
وقال مصدر أميركي لموقع أويل برايس مؤخرا إن “الإمارات تشرع في تنفيذ برنامج استثماري كبير في عملياتها في قطاع الغاز (13 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة)، لذلك قد نتمكن من إنجاز شيء ما هناك. ويرتبط هذا بدفعة كبيرة لتعزيز قدرة الإمارات في مجال قطاع الغاز الطبيعي المسال، حيث طلبت من الهند الاستثمار في مصنع جديد كبير في الرّويس. وقد نكون قادرين على العمل في هذا المجال أيضا”.