في الأسابيع الثلاثة الماضية، نجح رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة في تنفير الميليشيات التي تشكل دائرته الانتخابية الأكثر حيوية والمجتمع الدولي الذي يعتمد عليه بشدة لشرعيته من خلال تفجير أزمة المصرف المركزي. ويرى محللون أن أزمة المصرف المركزي في ليبيا لم تكن مدفوعة بإصلاحات وطنية إنما كانت ناجمة عن خوف الدبيبة من اقتراب إزاحته، ما يمكنه من ربح أشهر إضافية في السلطة.
ويقول المحلل السياسي جوشوا يافي في تقرير نشرته مجلة ناشيونال أنتريست الأميركية إن الدبيبة ربما يعتقد أنه حقًا قادر بطريقة ما على توحيد الفصائل المتنافسة وزيادة حصة حكومته من الموارد الوطنية، وبالتالي تركيز السلطة والإشارة إلى أنه لا يمكن الاستعاضة عنه حقًا. ولكن تحركاته الأخيرة ربما تكون في واقع الأمر جهداً ساخراً لمنع إقالته الحتمية، وكسب المزيد من الوقت الذي يمكنه فيه أن يخلق مظهر الرجل الذي يتحكم في مصيره على أمل أن تتغير الظروف وتتحسن حظوظه.
وأُطلقت حكومة الوحدة الوطنية في فبراير 2021 عملية سياسية في محاولة لإصلاح وتنشيط الحكومة في طرابلس، بعد محاولتين من جانب الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر للاستيلاء على العاصمة طرابلس. وكان ذلك متوافقاً مع روح الاتفاق السياسي لعام 2015، الذي أنتج مجلس الرئاسة كفرع تنفيذي مركزي في طرابلس والمجلس الأعلى للدولة كهيئة استشارية تنسق القرارات بين الحكومتين في شرق وغرب ليبيا.
وكانت هذه دائماً ترتيبات مؤقتة في أذهان الدول الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، التي تصورت التحرك بسرعة نحو الانتخابات التي يمكن للشعب الليبي من خلالها التعبير عن إرادته بشأن مستقبل الدولة. واستضاف المغرب محادثات “لجنة 6+6” التي فشلت في تقديم خارطة طريق للانتخابات في يونيو 2023 ولكنها تمكنت من إصدار توصيات لمجموعة من الإجراءات واللوائح التي ينبغي أن تروق لكلا الجانبين.
و قدمت الحكومة في الغرب وعودا غامضة بإجراء انتخابات قبل يوم الثورة في 17 فبراير، وأكدت الحكومة في الشرق مرارا وتكرارا أنها ستدعم الانتخابات بعد تشكيل حكومة وحدة أوسع نطاقا. ومع ذلك، لم تكن الانتخابات أبدا في مصلحة أي من هؤلاء السماسرة المؤثرين، وبالتالي فمن المرجح أن تظل مؤجلة إلى أجل غير مسمى.
◙ أزمة المصرف المركزي في ليبيا لم تكن مدفوعة بإصلاحات وطنية إنما كانت ناجمة عن خوف الدبيبة من اقتراب إزاحته
وتحتجز العائلات النخبوية على كلا الجانبين مؤسسات الدولة، وتستخدمها كمنصة لتوسيع خطوط المحسوبية بينما تحتجز الأمم المتحدة والمستهلكين الدوليين النفط رهينة لأجنداتهم المحلية. وبهذا المعنى، وفر الهدوء النسبي للفترة منذ عام 2021 مساحة للتنفس للجهات الفاعلة السياسية والعسكرية الرئيسية لترسيخ وجودها واستكشاف المصالح المشتركة.
وساعدت دولة الإمارات العربية المتحدة في التوسط في تفاهم بين حفتر والدبيبة بشأن تقاسم عائدات النفط. وفي الوقت نفسه، توصلت تركيا وروسيا إلى اتفاق يسمح لهما بتوسيع ترتيبات قواعدهما العسكرية في المناطق الغربية والشرقية على التوالي.
وخلال الشهر الماضي، أحدث الدبيبة خللاً في التوازن وأثار ردود فعل قوية لدرجة أنه ربما لا يمكن استعادة التوازن. فقد استولى فعلياً على المصرف المركزي، ربما في محاولة للحصول على حصة أكبر من الموازنة وتأمين الوصول إلى الاحتياطيات الأجنبية. كما حاول توحيد هيكل القيادة وفرض سلطته على الميليشيات في طرابلس، ربما في محاولة لطمأنة حلفائه السياسيين والجمهور بأنه لا يزال مسيطراً.
وألقى محمد المنفي، حليف الدبيبة المقرب على رأس المجلس الرئاسي، خطاباً في 18 أغسطس (يوم القوات المسلحة) دعا فيه إلى توحيد الميليشيات، وبصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، دعا إلى عقد أول اجتماع على الإطلاق للقادة ورؤساء المخابرات. وفي 23 أغسطس، شكل الدبيبة لجنة عليا للترتيبات الأمنية، برئاسة وزير الداخلية عماد الطرابلسي، الذي أصدر على الفور أمراً لجميع الميليشيات بإخلاء المباني الحكومية في غضون أربع وعشرين ساعة.
وتتولى اللجنة العليا الجديدة مهمة الإشراف على انسحاب جميع الوحدات إلى مقارها، والتنازل عن السيطرة على جميع المباني العامة لسيطرة وزارة الداخلية، وتسليم جميع الممتلكات الخاصة لأصحابها، وإزالة نقاط التفتيش وتركها تحت سيطرة وزارة الداخلية، وإخضاع سجونها للتفتيش الحكومي، وتسليم السيطرة على جميع موانئ الدخول إلى السلطات الحكومية.
وفي 16 أغسطس، صوت المجلس الرئاسي بالإجماع على إقالة محافظ المصرف المركزي صديق الكبير على أساس أن ولايته انتهت منذ فترة طويلة وتعيين مجلس إدارة جديد. كما أعلنوا عن تشكيل لجنة للتحقيق في سوء الإدارة من جانب المصرف المركزي والحاجة إلى “توزيع عادل لإيرادات الدولة”.
ووصل مسلحون للسيطرة على مقر المصرف المركزي في طرابلس، ليجدوا المبنى مغلقا والموظفين مفصولين في “عطلة مصرفية” طويلة، بحسب مقطع فيديو نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي
ولكن في الوقت نفسه، رفض محمد عبدالسلام شكري، الذي رشح لهذا المنصب في عام 2018 لكنه لم يتول المهام قط، العرض هذه المرة. والآن يتولى نائب المحافظ عبدالفتاح غفار المسؤولية، وإن كان بصفة مؤقتة فقط، في حين يستكشف ممثلون مختلفون من الحكومتين فكرة التوصل إلى حل وسط من شأنه أن يطمئن الأسواق الدولية. وفرض الدبيبة وحلفاؤه هذه التدابير على أمل أن تنقل القوة والغرض، مما يشير إلى أنها لا غنى عنها للاستقرار في الغرب ولا يمكن الاستعاضة عنها في المنصب. ولكن أياً من هذا غير صحيح.
ولا يمتد ولاء الميليشيات في طرابلس إلا بقدر ما يتلقون رواتبهم. وإذا كان الدبيبة يراهن على أن الميليشيات تكره بعضها البعض أكثر مما تكرهه، وأن وعده بحصة أكبر من الموازنة الوطنية من شأنه أن يحشد ثقتهم فيه، فمن المرجح أن يشعر بخيبة الأمل.
وربما كانت تحركات الدبيبة الأخيرة مدفوعة ليس بشعور مبالغ فيه بقيمته الذاتية بل بخوف من اقتراب إزاحته عن السلطة. فهو لا يستطيع التنافس مع شرق ليبيا من حيث الموارد الطبيعية أو الاستثمار الأجنبي المباشر، ويتضح هذا عندما تنتشر في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي صور الطوابير الطويلة في محطات الوقود في الغرب ومطوري العقارات الذين يوقعون صفقات لمشاريع كبرى في بنغازي.
◙ خلال الشهر الماضي، أحدث الدبيبة خللاً في التوازن وأثار ردود فعل قوية لدرجة أنه ربما لا يمكن استعادة التوازن
وتعرضت مذكرة التفاهم التي وقعها في مارس والتي تمنح تركيا حرية واسعة لنشر قواتها في ليبيا لانتقادات حادة باعتبارها شكلاً من أشكال الاستعمار الجديد عندما أصبحت التفاصيل علنية في الثاني عشر من أغسطس. والأمر الأكثر أهمية هو أن حليف الدبيبة كرئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، خسر أمام منافسه خالد المشري في الجولة الثانية من التصويت في السادس من أغسطس وتجاوز مدة ولايته في منصبه.
وقد استأنف تكالة أمام المحاكم، والآن يحاول هو والمشري عقد اجتماع للمجلس كرئيسين متنافسين. وفي حال تم تمكينه بشكل كامل، قد يتمكن المشري من التوصل إلى اتفاق مع عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب في شرق ليبيا، والعمل على إقناع الأمم المتحدة بالحاجة إلى حكومة وحدة وطنية جديدة قبل الانتخابات.
وينتظر خليفة حفتر وعقيلة صالح وأسامة حماد وآخرين في الشرق الوقت المناسب على أمل أن يتعثر الدبيبة. وقد أصدر مجلس النواب إعلانات لا تنتهي، معلناً أن إقالة الكبير غير قانونية، والمجلس الرئاسي غير شرعي، وحقول النفط تحت القوة القاهرة، ونقل لقب “القائد الأعلى للقوات المسلحة”.
وخلال كل هذه الدراما، كان نجل حفتر صدام يقود قواته البرية في دوريات صحراوية لمداهمات تجار المخدرات والمتاجرين بالبشر في الجنوب من أجل إظهار للعامة أنه بينما يتشاجر الساسة، تحقق عائلته مكاسب ملموسة في تعزيز أمن الحدود والسلامة العامة. وطالما ظل مجلس النواب موحداً، وقدم أسامة حماد نفسه كبديل جدير بالثقة، وظل خليفة حفتر يتمتع بصحة جيدة ومستعداً للتوسط بين الفصائل، فإن الحكومة في الشرق تستطيع أن تراقب وتنتظر.
وسيكون من الصواب أن تحافظ على مسافة بينها وبين حكومة الدبيبة، إذ بوسع الأخير أن ينشئ هياكل أمنية جديدة، وأن يغلق مقر المصرف المركزي، وأن يتخلى عن مبادئ الإجماع الواسع التي دعمت الاتفاق السياسي لعام 2015 وكل محاولة للحوار الوطني منذ ذلك الحين. بل وربما يحاول عقد استفتاء على الدستور مصحوبا بانتخابات تكميلية في وقت ما من هذا الشتاء، ولو أن هذه الانتخابات لن تعقد إلا في الغرب، وسوف تتعرض شرعيتها للهجوم.
ومع كل هذه التحركات، ربما يشتري الدبيبة ستة أشهر أخرى في منصبه. وإذا كان هناك أي شيء، فإن الأسابيع الثلاثة الماضية أظهرت أن الوضع متقلب وغير مستقر، فقد تجاوز الدبيبة وحلفاؤه سلطتهم، والمجتمع الدولي لا يريد أن يكتب له شيكاً على بياض.